مدينة الحي العراقية عاصمة الحجاج الغافية على نهر الغراف
القدس العربي / صادق الطائي:مدينة الحي العراقية، إحدى مدن وسط وجنوب العراق التي توالت طبقات التاريخ عليها فأصبحت عدة مدن تراتبت فوق بعضها البعض، فهي اليوم تمثل إداريا مركز قضاء تابع لمحافظة واسط، ويُقدّر عدد سكانها بحوالي 180 ألف نسمة، أمّا عدد سكان القضاء فيُقدّر بحوالي 280 ألف نسمة تقريبا. وتقع مدينة الحي على ضفاف نهر الغراف الذي يشطرها إلى شطرين كحال الكثير من مدن العراق التي تنشأ على أنهاره وروافده العديدة. وهي على بعد 220 كم جنوب العاصمة بغداد، وتبعد حوالي 40 كم جنوب الكوت مركز محافظة واسط.
السجاد اليدوي
اشتهرت الحي ببساتينها التي تداخلت مع أحيائها السكنية، إذ جمعت خصوبة الأرض ووفرة المياه ما جعلها أحدى أهم مدن جنوب العراق في الإنتاج الزراعي، فهي تنتج التمور والحبوب التي تشمل الشعير والحنطة والذرة الصفراء والبيضاء والسمسم وزهرة عباد الشمس. كما تحتوي المدينة على بعض المشاغل الصغيرة التي تنتج السجاد اليدوي والأزر المميزة بحياكتها الرصينة ونقوشها الفولكلورية الجميلة، إضافة إلى بعض الصناعات الجلدية ومنها السروج وأغمدة السلاح.
ويذكر د.طالب الجليلي في مقال له عن مدينة الحي؛ كان «نهر الغراف يمتلئ بالسفن التجارية القادمة من البصرة، والتي كانت تنقل المنتجات الزراعية من المدينة التي تجود بها أرض الحي البالغة الخصوبة. كانت تلك البساتين تنتج أنواع التمور والفاكهة، وخاصة التين والخوخ والحمضيات والتفاح، ولكون تلك البساتين تتداخل مع أحياء المدينة وملاصقة لها، كان مناخ المدينة يختلف عن كل المدن المجاورة، بتميزه بالنقاوة والبرودة في أيام الصيف».
كما يذكر المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في كتابه «العراق قديما وحديثا» الصادر عام 1958؛ إن «سكان مدينة الحي الأصليون عرب أصحاب زراعة وفلاحة، فساكنهم لفيف من الأكراد ولفيف من المتحضرين من الغراف ومن غيره فتولوا الإتجار بالحبوب والبقول والأقمشة والعقاقير وحياكة البسط والعباءآت. وكانت مياه دجلة تنقطع عن الغراف عند انخفاضها، فيضطر الأهالي إلى حفر الآبار وسط الغراف لاستقاء الماء للشرب وغيره، فلما أتمت الحكومة مشروع سدة الكوت عام 1938 أصبح الغراف دائم الجريان وذلك بواسطة آلات ومقاييس وضعت على صدره لهذه الغاية».
لذلك كان التركيب السكاني لمدينة الحي متماثلا مع المدن العراقية التي أعيد إنشاؤها في القرن التاسع عشر، إذ تتجمع فيها بعض القبائل العربية بالإضافة إلى شرائح مختلفة من القوميات والأديان المشكلة للفسيفساء العراقي. ففي مدينة الحي تعايش العرب والأكراد، والمسلمون من الشيعة والسنة مع الصابئة والمسيحيين واليهود. ويمكننا أن نذكر من القبائل العربية التي سكنت المدينة: عتاب والمياح وكنانة وزبيد وشمّر وطي، كذلك هناك حي الأكراد وهو من أقدم أحياء المدينة.
كما يمكننا التعرف على بقايا الوجود اليهودي في الحي مما تركوه في المدينة، إذ هاجر كل أبناء الطائفة اليهودية مطلع خمسينيات القرن الماضي وتركوا في المدينة معبدا «كنيس» يعرفه سكان المدينة باسم التوراة، وقد بني بجانبه داران، أحدهما لسكن خادم المعبد، والآخر لسكن رجل الدين الذي يؤدي الطقوس الدينية في الكنيس اليهودي. وهناك خان اليهود الذي يمثل تجمعا لعدد من المتاجر والمخازن التي كان يمتلكها يهود المدينة والذي تحول بمرور الزمن إلى خرائب، بالإضافة إلى مقبرة اليهود التي ما تزال موجودة وتضم حوالي خمسين قبرا ليهود الحي الذين توفوا ودفنوا فيها.
عاصمة الحجاج الجديدة
ربما يمكننا الإشارة إلى ان مدينة الحي قد بنيت على أنقاض مدينة واسط التاريخية التي بناها والي بني أمية على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي، إذ توجد اليوم خرائب واسط التاريخية شمال مدينة الحي المعاصرة. وقد ذكر البلدانيون، إن للعرب اثنين وعشرين واسطا، في عدة مواضع من المعمورة، ولكنّ أعظم تلك البلدان شأنا وأجلّها كانت واسط الحجاج. وقد اختلف المؤرخون في تعيين زمن بناء مدينة واسط، فذكر بعضهم إن بناءها حصل بين سنة 75هـ و 78 هـ، وذكر غيرهم أن الحجاج استحدث مدينته سنة 83هـ أو 84 هـ وانتهى منها سنة 86 هـ (705 م) لذلك هي ثالث أقدم مدينة إسلامية تم انشأؤها في العراق بعد الكوفة والبصرة.
وقال الأصمعي: «وجه الحجاج الأطباء ليختاروا له موضعا حتى يبني فيه مدينة فذهبوا يطلبون ما بين عين التمر إلى البحر وجولوا العراق ورجعوا وقالوا: ما أصبنا مكانا أوفق من موضع واسط في خفوف الريح وأنف البرية. فسألهم: كم بين هذا الموضع والكوفة؟ فقيل له: أربعون فرسخا، قال: فإلى المدائن؟ قالوا: أربعون فرسخا، قال: فإلى الأحواز؟ قالوا: أربعون فرسخا، قال: فللبصرة؟ قالوا: أربعون فرسخا، قال: هذا موضع متوسط، ووقع اختياره عليه ليبني فيه عاصمته الجديدة».
وقد أشار بعض المؤرخين إلى إن الحجاج قد أنفق على انشاء عاصمته الجديدة، مبالغ كبيرة من المال بلغت خراج العراق لمدة خمس سنين. وقال ياقوت الحموي في الجزء الخامس من كتابه «معجم البلدان» إن كلفة بناء المسجد والقصر والخندقين والسور التي تحيط بالمدينة، يقدر بثلاثة وأربعين مليون درهم. ووصف مدينة واسط الرحالة العربي ابن بطوطة عندما شاهدها في القرن الثامن الميلادي بقوله: «مدينة حسنة الأقطار، كثيرة البساتين والأشجار، فيها أعلام يهدي إلى الخير شاهدُهم، وأهلها من خيار أهل العراق».
ويذكر الباحثون أن مدينة واسط، كانت منذ تأسيسها، ذات شطرين يفصل بينهما نهر دجلة: شطر شرقي وآخر غربي. فقد كان مجرى دجلة القديم يمرّ بمدينة واسط التاريخية. والشطر الشرقي من واسط، وهو أقدمهما، كان فيه قبل مجيء الحجاج، على ما ذكر اليعقوبي، بلدة ساسانية يسكنها الفرس والنبط وهم الآراميون من سكان العراق الأصليين، وكانت تدعى كسكر التي عرفت في المصادر الآرامية باسم كشكر، واستحدث الحجاج بلدته قبالتها على شاطئ دجلة الغربي، وأسكن فيها العرب وحدهم في بادئ الأمر، وبعد وفاة الحجاج سمح لغيرهم من الأقوام بالسكنى فيها، فاختلط العجم والعرب بمرور الزمن، واتّحد الشطران الشرقي والغربي شيئا فشيئا، حتى أصبحا مدينة واحدة.
المواقع الأثرية
تاريخ المدن التي بنيت في نفس مكان مدينة الحي المعاصرة يمتد عميقا في ماضي بلاد النهرين كحال العديد من مدن العراق الأخرى، وتضم المدينة العديد من المواقع الأثرية التي تم التنقيب فيها منذ عام 1936. وقد أشار كتاب «المواقع الأثرية في العراق» الصادر عام 1970 عن مديرية الآثار العراقية إلى عشرة مواقع أثرية في مدينة الحي من بينها: تل ابراهيم، وتلول كبيبة الكع، وابو الجماجم، وتلول الحاوي. بالإضافة إلى آثار عاصمة الحجاج بن يوسف الثقفي مدينة واسط الإسلامية التي تضم منارة المدرسة الشرابية التي ترتفع 11م، والمسجد الكبير الذي بناه الحجاج، وقصر الإمارة المعروف بالقبة الخضراء. كما تضم مدينة الحي عددا من المراقد والمزارات أهمها مرقد التابعي سعيد بن جبير الذي قتله الوالي الحجاج بن يوسف الثقفي، ومرقد السيد محمد الحائري الملقّب بالعكار ومرقد السيد أبو ذر وهما من أبناء الإمام موسى الكاظم.
ويشير المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في كتابه المشار له سابقا إلى إن؛ «الحي مدينة صغيرة رائعة المنظر، حسنة العمران كثيرة البيوت والخانات، قليلة المقاهي والأسواق، تكتنفها البساتين الفيح، وتحيط بها المروج الخضر». ويضيف إن» فيها بناية المدرسة الجعفرية الأهلية التي شيدها الشيخ بلاسم الياسين شيخ قبيلة آل المياح على نفقته الخاصة وتعد من أضخم عمارات مدينة الحي».
كما يذكر الحسني في مكان آخر من كتابه؛ إن «مدينة الحي درست مرارا وعمرت مدن أخرى باسم حي واسط ولعل آخر ظهور لها هو قصبة الحي الحالية التي تأسست حوالي عام 1816 على أيدي آل علي خان، أحد زعمائها وأهل النفوذ فيها، لكنها مع ذلك لا تزال تحتفظ باسم تلك المدينة العظيمة فتسمى حي واسط، إلا إن الحي تقوم اليوم على الشاطئ الأيسر لنهر الغراف، ويقال له شط الحي الخارج من عمود دجلة أمام بلدة الكوت في موضع يبعد عن جنوبيها الشرقي 48 كم».
ولا يمكننا الحديث عن مدينة الحي من دون المرور على غنى المدينة الموسيقي، إذ أنتجت نمطين من الغناء الريفي العراقي التي تعرف بالأطوار، أحدهما عرف باسم المدينة وهو طور الحياوي، والآخر عرف باسم إحدى عشائر المدينة وهو طور الغافلي، نسبة إلى عشيرة آل غافل التي تسكن الحي، وهذان الطوران من أطوار الغناء الريفي العراقي الحزين والشجي التي تغنى بها أبرز مطربي الريف الكبار مثل داخل حسن وناصر حكيم وحضيري أبو عزيز.
3715 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع