إبراهيم الزبيدي
لا بد من الاعتراف بأن انتخابات العراق الأخيرة كشفت عن هشاشة الوضع السياسي برمته، من رأسه إلى أساسه. فالخلل ليس في هذا الرئيس ولا ذاك الوزير. إن العملية السياسية، من أول تأسيسها على يد بريمر ومستشاريه بمشاركة مجلس الحكم وقادته الكبار، لا تسمح إلا بوضع من هذا النوع، وبهذه النتائج. فقاعات تقاتل فقاعات.
وشراذم تنافس شراذم. زعانف تحارب زعانف. ولا واحد من قادة العملية وأبطالها قادر على أن يجتاز عتبة المقاعد التي تؤهله للقيادة. فما عدا دولة القانون كان نصيب أكبر قائمة لا يتعدى العشرين مقعدا. لذلك فهم مجبرون على دخول سوق المزادات والتفاهمات والمبادلات. خذ وهات.
حتى أصبحت الـ 94 مقعدا من 328 أغلبية، و700 ألف صوت أعلى رقم حصل عليه سياسي من أصوات الناخبين من 20 مليون مؤهل للاقتراع، ولا يستحي مستشاره الإعلامي حين يفاخر به ويعده استفتاءً على دورة ثالثة.
إن جميع ما قاله وما يقوله الحاكم ومعارضوه ومنافسوه لا علاقة له بهموم المواطن العراقي الحقيقية الخانقة، بل هو شأن خاص من شؤون أعضاء الطبقة العليا من السياسيين وواحد من حساباتهم وصراعاتهم الشخصية والحزبية والقبلية والمناطقية التي لا تنتهي.
وكما تأكد في انتخابات 2005 وبعدها 2010 فإن الذي ثبت في الانتخابات الأخيرة أن الساحة خالية في انتظار القوة الشعبية الكاسحة التي تستقطب الملايين الغاضبة والمصرة على التغيير، فتقلب الطاولة على تجار السياسة، وتطرد الفاسدين، وتنتزع الوطن من خاطفيه، وتعيده إلى أهله من جديد.
ولكن يبدو أن الشعب العراقي غير مؤهل وغير قادر وغير راغب في أن يقوم بمهمة جريئة وخطيرة وجادة وكبيرة من هذا النوع، أو على الأقل في المدى المنظور. فلا هو شعب تونس ولا مصر ولا حتى ليبيا مؤخرا. وقد يكون ذلك بسبب طبيعة تكوينه القومي والديني والطائفي الذي جعل منه شُللا متفرقة غير متآلفة. فليس ما يفرح إبن النجف أو الناصرية هو نفسُه الذي يشرح قلب مواطن الموصل والرمادي، وما يحزن المواطن في أربيل لا يحزن أحدا في وسط العراق ولا في جنوبه.
وبرغم هذا الواقع التآمري المؤسس على الشكوك والكراهية بين زعماء الفرق السياسية المتنافسة على النفوذ فإن هناك تفاهما ثابتا وقويا على الحفاظ على جدران الاسمنت والحديد التي أقاموها حول البرلمان والحكومة، فلم يحترموا غيرها، ولا يسمحون لأحد من خارج الدائرة المغلقة باقتحامها.
والذي يظن أنه قادر على كسرها بالفكر والمبدأ والوطنية والنزاهة والخبرة والكفاءة واهمٌ يُضّيع وقته، ويبعثر جهده، دون طائل.
ولكن لا ينبغي أن يفهم أحدٌ أن العلة في الناخبين وحدهم. صحيح أن جهل الكثيرين منهم وفقرهم يجعلان من إمكانية غشهم ورشوتهم وشراء ولائهم أسهل، ولكن العلة الحقيقية في خامة المنتمين إلى نادي الزعماء. يتغنون بالديمقراطية وهم يكرهونها ويموتون من ذكرها. ينادون بسلطة القانون وهم يدوسون عليه بأحذيتهم كل يوم وكل ساعة. يهاجمون الطائفية وهم يعرفون أنهم بدونها أرخص من قشر بصلة. كل شيء لديهم قابل للبيع والشراء، حتى الدماء.
شيء آخر.إن الأحزاب الحاكمة، والقوى المتحالفة معها، وهي التي تحتكر القدرة على التصرف بوزارات الدولة ووظائفها، والمحمية من قوى دولية فاعلة، لابد أن تكون قادرة على شراء الناخبين بسعر البطاطة والخيار، وسحق القوائم الصغيرة، ودفن المرشحين المستقلين (الفقراء) الذين ليس لديهم مال ولا مليشيات ولا دولة جوار. وهي وحدها القادرة أيضا على حماية حدود غابتها المظلمة، وإبقاء الحال فيها على حاله، دون تغيير. هذا إذا سلمنا بنزاهة الانتخابات، وسلامتها من التزوير والتلاعب والتجاوزات.
وما يثير الغرابة أنهم، رغم كل شيء، متفاهمون، شيعة وسنة، عربا وكوردا، على احترام الحدود الفاصلة الصارمة بين المستعمرات الثلاث، شيعتستان وسنتستان وكردستان، وعدم تجاوزها، إلا عند الضرورة وبالتراضي.
لذلك لم يكلف المالكي نفسه عناء زيارة سامراء أو الرمادي أو الموصل أو دهوك، مثلا، للترويج لائتلافه، ولم يقم النجيفي بزيارة كربلاء والنجف أو الناصرية والسماوة، ولم يخرج أياد علاوي من محبسه في الحارثية أو عمان إلى مسقط رأسه في الحلة وما جاورها ليعرض برامجه وخططه للغد الأفضل القريب.
فالصوت الشيعي للشيعي، والسني للسني، والكوردي للكردي، ولا شيء غير ذلك. ولكي يضمن زعيم القائمة أو التحالف أو التيار سلامة نفوذه وبقاء زعامته فلزام عليه، لكي يجتذب أكبر عدد من أبناء الطائفة، أن يزايد على منافسيه داخل المستعمرة الواحدة، فيضاعف حرارة خطابه الطائفي التحريضي ضد أخطار هيمنة طائفة (عدوة)، أو قومية (مارقة)، ثم يغدق على الناخبين بما لا يملكه الآخرون، من مال حلال أو حرام، دون رقيب ولا حسيب.
أما برنامج المرشح، فليس مهما ولا ضروريا للفوز بأصوات الناخبين، ناهيك عن تاريخه ومواهبه وكفاءته ونزاهته.
فكم من وزير حرامي علني ومعروف أعيد انتخابه بسهولة؟ وكم رئيس مليشيا ضاعف أعداد ناخبيه؟ ألم يتمكن صهران لرئيس الوزراء من إحراز الصدارة في كربلاء، ورفس قيادي عريق في حزب الدعوة إلى الخلف بعشرات الأمتار بأموال الدولة ووظائفها وقطع أراضيها؟ حتى منظمة بدر، بتاريخها الدموي العريق، تمكنت من أن تحصد اثنين وعشرين مقعدا، بعد أن كان لها ستة فقط في البرلمان السابق.
بالمقابل، كم من نائب (سابق) خسر مقعده وراتبه ومخصصاته لأنه تجرأ ذات مرة فعاب شيئا على الزعيم، أو عارضه في شيء؟
إذن فمن الطبيعي والمنطقي أن كتلا من هذا النوع، قادتهُا بهذه الأخلاق، وبهذه المفاهيم والقيم والمقاييس، انانيون وانتهازيون ومزورون وملفقون، تكون هي المشكلة. وليس منطقيا ولا معقولا أن يتنظر أحدٌ منها أن تحل له المشكلة، ذات يوم.
ومهما حدث ومهما سيحدث، وسواء بقي هذا رئيس وزراء، أم جاء غيره، فلن يحدث تغيير، ما دام هذا النظام قائما، بقواعده وقوانينه وأشخاصه، وبالأخص قانونَ الانتخاب الذي لا يناسب أحدا غير مشرعيه.
والأمل ضعيف في أن يسمحوا بتعديله، وبجعل العراق دولة رئاسية، أو نصف برلمانية، بحيث ُينتخب رئيس جمهوريتها مباشرة من الناخبين، في كل مناطق العراق، ثم يطون هو ريس الوزراء أو يقوم بترشيح رئيس وزراء ليوافق عليه مجلس النواب.
أما بالنسبة لانتخاب النواب فلا أنسب للعراق وللعراقيين من (نظام الانتخاب الفردي)، بحيث " يوجد رابح واحد فقط في كل دائرة انتخابية. وتقسم الدولة إلى دوائر صغيرة يمثل كل دائرة رابحٌ واحدٌ (أي أن عدد الدوائر يساوي عدد المقاعد)".
وبدون قضاء عادل ومستقل وعصي على عبث السياسيين لن يكون هناك رادع حازم ومحايد يمنع الكبير قبل الصغير من استغلال مؤسسات الدولة ووظائفها وأموالها في رشوة الناخبين.
كما أن مفوضية انتخاباتٍ يكون تسعون بالمئة من أعضائها منتسبين لقائمة الرئيس لا تصلح لقيادة انتخابات عادلة ونزيهة يراد بها ولادة دولة قانون حقيقية تحترم نفسها وشعبها وتخرج من قوائم الدول الفاشلة، دول الظلم والقتل والاختلاس وتزوير الشهادات.
كل هذه أمنيات معطلة، أو بأحسن الأحوال، مؤجلة أربعَ سنوات قادمة، لن تكون أقل جفافا وظلاما وضياعا ودموية مما سبقها من سنين.
729 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع