بقلم/الصقر
يتعرض اهلنا المسيحيين واليزيديين منذ احداث الموصل والى الان الى الكثير من الاذى والقهر، حيث شمل جل القرى المسيحية واليزيدية ، وترددت اسماء قرى كنا لا نعرفها فبال اليوم ،
وهذا ما اصاب اخوة لهم في جميع ارجاء العراق تقريبا ، ومن اسماء القرى التي كثر الحديث عنها قرية ( تللسقف) التي هجرها معظم اهلها وتركوا كل ما يملكون وهاموا على وجوههم الى المجهول ناجين بارواحهم ، ندعوا الله تعالى ان لا تطول آلامهم ويعود كل مهجر في العراق وفلسطين والعالم الى ديارهم ويزول الظلم والظالمين. ، ولي في (تللسقف) ذكرى جميلة من ماض اراه قريبا جدا وعندما ارويها لاولادي يضحكون ويرونه قديم قدم الدهر! ، ولا زال للذكرى حلاوة على لساني احن لها عنما اتذكرها.
بعد تخرجي من الكلية العسكرية واخترت صنف الدروع ( بل توسطت لاجل ان اكون منتسب لهذا الصنف ) وكان واسطتي المقدم الركن سليم شاكر الامامي احد ابطال جيشنا في معارك حرب تشرين عام 1973، ونسبت مع عدد من دفعتي الى كتيبة الدبابات الخامسة في ( بلدروز ) ثم نتقلت الكتيبة الى البصرة (معسكر الدريهمية في الزبير) بعد ان امضينا مدة من الزمن في ( مجزرة ) الزبير على الطريق الواصل بين الزبير ومعسكر الدريهمية ( وكانت كأنها قصر فخم رغم الروائح الكريهة من مخلفات دماء وفضلات المواشي النحورة ) ، ثم تم اسكاننا في معسكر الدريهمية النموذجي بعد ان كنا في بلدروز ( الموالح ) ثم طحماية ) نسكن الخيم ونصارع العقارب والزواحف ، وكان انتقالنا الى البصرة في شهر شباط 1971 ، وكانت فكرة زيارة البصرة كالحلم الذي تحقق لما كنت اسمعه عن طيبة وحلاوة اهلها ( كان والدي رحمه الله تعالى يشغل منصب رئيس محاكم البصرة بداية ستينات القرن الماضي ) ولم يصطحبنا معه الى البصرة حرصا منه على مواصلة تعليمنا وعدم تغيير اماكن الدراسة ، كنت واحد ضباط دفعتي الشهيد الملازم هشام عبد الستار ( يلقب هشام طلقة ) لكونه اطلق اطلاقة من مسدسه اخترقت سقف سيارته الصغيرة ( فولكس واكن ) وكان يدعي بانه من الاشقياء كان رحمه الله تعالى ضعيف البنية لا تفارق الابتسامة وجهه، استشهد في معارك شرق البصرة عندما كان آمر كتيبة دبابات اذا لم نخني الذاكرة ،وكنا انا وهو نسكن في منطقة واحدة في الاعظمية راغبة خاتون. في تلك الايام الجميلة وفي عز مدينة البصرة كنت وهشام نتردد على على احد البارات في شارع الوطني ذو الشهرة العريضة ، ومن كثرة ترددنا على البار بعينه نشأت معرفة مع احد النادلين العاملين في البار والذي يكبرنا بسنوات عدة فقد تجاوز كما يبدو الاربعين من عمره ونحن لا زلنا في الشباب من العمر. وكثيرا ما كان البار يخلو من رواده ونبقى وحيدين لحين حلول وقت العودة الى الزبير يشاركنا الحديث وخلال الحديث عن حياته اخبرنا بانه من قرية (تللسقف ) في الموصل والتي لم نسمع عن اسمها قبل ذلك ، وكان يحب ويفخر بقريته ويتحدث عن طبيعتها وطبيعة اهلها وانه ولاجل لقمة العيش يعمل في البصرة تاركا عائلته هناك ويزورهم كل مدة حاملا معه ما ادخره لاجل عيشة يقنع بها ، وللدلاة على قريته وصف لنا الطريق الذي يوصلنا اليها مارا ( بتلكيف ) ، ودعانا لزيارته عندما يسنح الظرف ويتناسق مع وجوده في اجازته في القرية .
في ربيع اوخريف عام 1972 كنت وهشام مشتركين بدورة اساسية في مدرسة الدروع في الموصل وتواعدنا مع النادل بتلبية دعوته خلال اجازته في تلسقف. اصطحب هشام سيارته ( الفولكسواكن ) الى الموصل ، وعادة كنا نعود الى بغداد لتمضية يومي الخميس والجمعة على ان نلتحق يوم السبت صباحا للدوام في الدورة، اتصل بنا النادل وحدد يوم اجازته وتواعدنا بان نلبي الدعوة يوم الجمعة صباحا وعدم العودة الى بغداد.
انطلقنا يوم الجمعة وعبر الطريق الى تلكيف ومن خلال طريق نيسمي( غير معبد ) واصلنا الرحلة عبر الريف ونحن نتسائل فيما بيننا هل سنصل الى هذه القرية ام ان الامر لا يخلو من مزحة! تجاوزنا (تلكيف ) ولا اتذكر طبيعة المنطقة التي مررنا بها هل كانت مزروعة ام جرداء على العموم كانت ارض سهلية بعيدة عن الجبال ، و كان الجو جميل ومنعش ، وبعد مرور اكثر من ساعة لاحت لنا قرية وعند وصولنا اليها سألنا من صادفنا فكانت الاجابة انها تللسقف ، اذن فقد وصلنا والامر حقيقة وليست مزحة ، سألنا عن صديقنا النادل فارشدونا اليه ،استقبلنا وعائلته وهم غير مصدقين ان نلبي هذه الدعوة ! ومع ذلك فقد كانوا متهيئين لاستقبالنا ، دخلنا بيتهم البسيط والى غرفة استقبلونا بها وكانت مفروشة والجلوس على الارض ، دهشنا من ترتيب ونظافة الدار واناقة ساكنيها رجالا ونساءا ، واتصور بان الخبر قد انتشر في القرية بوجود ضيوف لدى صاحب الدار الذي دعانا فقد توافد العديد من رجال القرية لاجل السلام والترحيب بنا في قريتهم وقسم منهم يبقى معنا والقسم الاخر يسلم ويرحب ويمضي ..
استمرينا لحين ان حان موعد الغداء فقدموا لنا ما لذ وطاب من الشراب ( النبيذ ) والطعام وبضيافة مميزة من الاسرة و شاركنا بعض الضيوف رجالا ونساء ، قارنا بين هذه القرية ونظافتها وادب الاستقبال مع ما نراه في قرى الوسط والجنوب فاعجبنا اشد الاعجاب بهذه القرية.
بعد الغذاء استغرقنا بالحديث مع الاسرة والضيوف لحين العصر. حيث خرجنا نتجول في انحاء القرية والطريق الرئيسي فيها اندهشنا من ما شاهدناه فقد لبست القرية حلة جميلة وكانت الشابات يلبسن احلى الملابس وكأننا في بغداد وفي (عرصات الهندية) التي تتميز باناقة نسائها وارتدائهن احدث الموديلات وكذلك ملابس الشباب وكانوا يتجولون في القرية ونحن في طريقنا الى النادي او الجمعية في القرية وبصحبة مضيفنا الذي كان يسلم على كل من يراه في طريقه ( شلاملخ ) ويردون التحية ! فاخبرنا بان الجميع يعرفون بعضهم في القرية وكانهم عائلة واحدة ،انبهرنا من نظافة واناقة القرية ( ولا نعلم ولم نسأل هل هذا شيء طبيعي ام ان القرية تحتفي بهذين الضابطين الشابين فظهرت بهذه الحلة الرائعة ؟) وصلنا لى النادي وقدموا لنا شراب النبيذ مرة اخرى وجلسنا لمدة لم نشعر بها والجميع يتحلقون حولنا واغرقونا بكرم الضيافة ، ومع حلول وقت عودتنا ودعنا من كان في النادي وعدنا الى دار مضيفنا لنودع اسرته التي غمرتنا بكرمها وترحابها مع ابلاغهم شكرنا الجزيل على هذه الدعوة الجميلة التي لم نكون نتوقع ان تكون بهذه الهيئة فقد كنا نتصور باننا سنكون في احدى القرى الفقيرة والمتخلفة وفوجئنا بما لم يكن على بالنا . وبعد الوداع غادرنا تللسقف في طريقنا الى الموصل مع التلويح لابناء القرية الذين ودعونا بالابتسامة الجميلة شيب وشباب وشابات وبحلتهم والتي تحاكي ارقى احياء بغداد كما اسلفت .
وصلنا الموصل لنقص لزملائنا في الدورة ما جرى وشاهدناه في هذه السفرة التي لا زالت صورتها امامي الى هذا اليوم الذي نرى ما حل باخوة لنا في الوطن يعانون كما يعاني اخوتهم في مدن وقرى العراق من الم التهجير والقتل ونسأل الله تعالى ان يزيل هذه الغمة وتعود النفوس الى طمأنينتها وصفائها.
346 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع