د. محمد عياش الكبيسي
في ساعة متأخرة جدا من ليلة العيد، أيقظني صديقي التركي وقال لي مهاتفا: ما رأيك لو مررت عليك صباحا لنذهب سويّة إلى صلاة العيد؟ لم يكن بوسعي إلا أن أشكره وأرحب بالفكرة، ورجعت إلى نومي دون تفكير، على الموعد بالضبط جاء صديقي وذهبنا إلى المسجد، وإذا به تحفة فنّية قلّ نظيرها، إنه المسجد الذي يحمل اسم المعماري سنان، ذاك الذي حفر بصماته العميقة في هوية اسطنبول ومعالمها وتاريخها ومساجدها، وقد رأى الأتراك أن يخلّدوا اسمه في هذا المسجد الكبير، وقد تولى أمر بنائه والإشراف عليه وافتتاحه الرئيس رجب طيب أردوغان شخصيا.
كان المسجد على سعته يغصّ بالمصلّين، ويهدر بتكبيراتهم ذات اللحن العسكري، وكأنك بين جيوش محمد الفاتح أو سليمان القانوني.
انتهينا من الصلاة، وبدأ الناس يتصافحون ويهنئ بعضهم بعضا بعبارات نصفها عربي ونصفها تركي، وقام صديقي يصافحني ويهنئني، ثم قال لي: ما رأيك أن نذهب للسلام على الرئيس أردوغان؟ ظننته يمزح، ثم ذهبنا بالفعل ومعنا جمع من الناس يتوافدون للسلام عليه وهو واقف يصافح هذا ويمازح ذاك، ولم أرهم فتشوا شخصا واحدا، ولم أر من الاحتياطات الأمنية ما يلفت النظر، سلّمنا على الرجل، وكان صديقي يترجم له بعض الكلمات، وحاول هو أن يجاملنا ببعض الكلمات العربية (أهلا وسهلا، شكراً)، لكنه مدّ ألفا قبل التنوين فسمعته يلفظها (شكران).
لم يتركني صديقي من اقتراحاته، فقال لي: هنا قرب الجامع دعوة للإفطار يحضر فيها نخبة متميّزة وهم ينتظروننا! قلت له مازحا: الأمر إليك فلا تسألني ولا تستأذنّي، كانت مائدة عامرة بحق فوق العادة، وجلس هو يحدثهم ويشير إلي ولا أدري ماذا يقول، لكني أظن أنه كان يمدحني بما ليس فيّ، أنهينا الإفطار، فبدأ الحديث، أحد الحضور وصاحبي يترجم، قال: فرصة يا دكتور أن نعرف منك رأيك فيما يجري، وما قصة الأحداث الأخيرة في العراق، ولماذا انحصر الصراع بين (داعش) و (المليشيات)؟ أين الجيش والمؤسسات الأمنية، والفعاليات والقوى السنيّة الأخرى؟ وقد استغربت أكثر حينما سألوني عن مقالاتي في (صحيفة العرب القطريّة)، وبعض التحليلات والآراء التي قدمتها فيها، بدأ حوار جاد، ودخلنا في أجواء نسينا أننا في عيد وأننا على مائدة إفطار!
خرجت مع صاحبي وأنا أفكر طول الطريق في هؤلاء القوم، مع أني عرفتهم وخالطتهم منذ ما يزيد على العقد، هذا الشعب الجاد في كل شيء، الذي لا يكلّ من العمل، تذكّرت ذلك الموظف المسؤول في بلدية اسطنبول، والذي كان يوما ما طالبا عندنا في الجامعة، وكان من وفائه أنه حينما يسمع بقدومي إلى اسطنبول يصرّ على أن يمرّ عليّ يوميا أو بين يوم ويوم، ويحدد لي الساعة السابعة مساء أي على نهاية الدوام، وذات يوم دفعني الفضول أن أسأله عن وقت انتهاء الدوام، فقال: الساعة الخامسة، قلت فلماذا تبقى إلى هذا الوقت؟ قال لأني الساعة الخامسة أنهي عملي مع المراجعين، وبعدها أحتاج ساعة أو ساعتين لأرتب بعض المتعلقات وأجهز بعض الأشياء ليوم غد!
لم ينته بي المطاف بعدُ في يوم العيد هذا، فقد ذهبنا إلى حديقة عامة، وهي جميلة ووديعة، والطقس كان جميلا ولطيفا، جلب انتباهي شاب قدّرته بين الخامسة والعشرين إلى الثلاثين كان منهمكا لوحده في قراءة كتاب وكأنه يستعد لاختبار مصيري، لم يرفع رأسه عن الكتاب إلا قليلا، بعدها جاء شابّان دون العشرين من عمرهما يلهوان ويلعبان ثم اتجها إلى صندوق بين الأشجار ففتحاه وأخرجا منه كتابين وانصرفا، قمت إلى الصندوق فقرأت هذه العبارة «sokak kutup hanesi» وترجمتها: خانة كتب الشارع! هكذا فهمتها، وهكذا أكدها صديقي أيضا، خانة الكتب هذه ليس لها قفل، وليس عليها حارس، وهي مفتوحة للجميع ليل نهار! الفكرة جديدة لأني لم أرها من قبل، وهي تهدف إلى تشجيع الناس على القراءة حتى وهم يمارسون الرياضة أو التنزّه، وقد رأيت سابقا مقاعد كبيرة تتسع لشخصين أو أكثر في الأماكن السياحيّة تحتوي على صفحات متسلسلة مأخوذة من بعض الكتب، وربما كانت فكرة (خانة الكتب) مطوّرة عن (كتب الكراسي)، وهذا التطوّر أيا كان فإنه ينم عن حاجة قائمة، ووجود تفاعل في الشارع مع هذه الأفكار.
قبل سنوات جمعني مجلس برجل بسيط كأنه من عامة الناس، وخلفه كانت مكتبة واسعة فيها كتاب من عشرين مجلدا باللغة التركية، فعلمت أنه من تأليف هذا الرجل وهو ترجمة لتفسير القرطبي، ثم هالني الأمر حين عرفت منه أنه ترجم أيضا تفسير ابن كثير ومقاتل بن سليمان والسعدي والأساس وشرح النووي على مسلم والمستدرك وغيرها، بما يزيد مجموعها على مائتي كتاب ومجلد! وأن هذه الترجمات قد أخذت منه ما يزيد على أربعين سنة من عمره! وفي حوار ذي صلة أخبرني أخي الأستاذ عمر الفاروق -وكان مستشارا لرئيس الحكومة الأسبق نجم الدين أربكان- أن تركيا تشهد حركة ترجمة واسعة، حتى إن كتاب (معالم في الطريق) قد ترجم عشر مرات!!
إن حركة التأليف والترجمة لا يمكن أن تزدهر دون وجود الطرف الثاني من المعادلة وهو القارئ، وهذا هو الطرف الأهم.
في عالمنا العربي ربما نمتلك عقولا قادرة على التأليف، لكنها تبحث عن القرّاء، فالقارئ العربي اليوم شبه مغيّب ولأسباب كثيرة، حتى تحوّل من الكتاب إلى المقالة ومن المقالة إلى التغريدة، ولا أدري كيف سيتمكن علماؤنا من تحويل علومهم إلى (تغريدات) و (ملصقات) لكي تتناسب مع مزاج الشباب؟
إن الثقافة والسياسة توأمان، وبينهما ما يشبه الدَّور، فلا ثقافة بلا استقرار سياسي، ولا سياسة مستقرة بلا مجتمع واعٍ ومثقف.
797 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع