د .محمد عياش الكبيسي
(تقديس الحج) عبارة تعني الجمع بين الحج إلى بيت الله الحرام وبين زيارة القدس، وقد كانت هذه سُنّة متَّبعة لدى غالب الحجاج القادمين من تركيا والعراق وبلاد الشام وكل من كان طريقه يمر بهذه البلاد، وأذكر هنا أن عمي قد حج مع والدته (جدتي) قبيل استيلاء الصهاينة على القدس، فكانا يحدثاننا عن القدس والمدينة ومكة وكأنها شيء واحد، وكانت جدتي تسرد قصّة الحج هكذا:
(زرنا القدس أرض الأنبياء السابقين، ثم زرنا المدينة المنورة مدينة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم زرنا مكة بيت الله الحرام)، وهذا هو الحج الذي بقي عالقا في أذهاننا، ثم بعدها بسنة واحدة حج والدي -عليهم رحمة الله جميعا- فلم يتمكن من زيارة القدس، فكان حجه (ناقصا) في عرف الناس آنذاك، وكان الجميع يتحدثون عن هذه (المصيبة) و (الكارثة) التي تنذر بقيام الساعة.
الصلة بين المساجد الثلاثة لا تحتاج إلى دليل بعد قوله -عليه الصلاة والسلام-: (لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا)، والحديث وإن لم يكن متعلقا بالحج، لكن تطبيقه من الناحية العملية مرتبط بأداء الحج خاصة بالنسبة للحجاج القادمين من البلاد البعيدة.
استولى اليهود على القدس، وعززوا وجودهم فيها وفي كل الأراضي الإسلامية المحتلة بقوّة السلاح وبالدعم الغربي الذي لا حدود له، وقد خاضت الأمة صراعا مريرا مع هذا الكيان المسخ على مختلف الصُّعد، وكان من بينها (مقاومة التطبيع) وهو الشعار الذي (تلقته الأمة بالقبول)، والذي كان من مقتضياته تحريم شدّ الرحال إلى القدس لما يتضمنه من اعتراف عملي بهذا الكيان.
اليوم ولأول مرة تصدر وزارة الشؤون الدينية التركية قرارا تدعو فيه الحجاج لـ (تقديس حجهم) بزيارة القدس والمكوث فيها ثلاثة أيام كما كانت عادة أسلافهم قبل الاحتلال، وقد أثار هذا القرار جدلا واسعا خاصّة أنه جاء في ظل حكومة العدالة والتنمية ذات التوجه الإسلامي المعروف.
الجدل المحتدم كشف الستار عن رؤية أخرى لم تكن لتظهر بهذا الوضوح قبل هذا القرار، وتتلخّص بالدعوة إلى إعادة النظر في الفتاوى المحرّمة والتي تنطلق كلها من زاوية واحدة وهي (مقاومة التطبيع)، والتي كان من نتائجها العرضية استفراد الصهاينة بالقدس، وإضعاف التواجد الإسلامي فيه، وتعميق الشعور الخاطئ أن قضية القدس قضية فلسطينية وليست قضية الأمة كلها.
إن (إسرائيل) اليوم تحاول أن تستثمر الانقسام الفلسطيني الحاد بين (حكومة الضفة) و (حكومة غزة) وتستثمر كذلك انشغال الأمة بقضاياها الساخنة في سوريا واليمن والعراق، وربما ستقدم على عمل إجرامي كبير بحق القدس والمسجد الأقصى، والسؤال الأهم في هذه المرحلة: هل تشجيع الزيارة (الدينية) المقدّسة لبيت المقدس في هذه الظروف يصب لصالح القدس أو يصب لصالح إسرائيل؟
الجواب عن هذا السؤال ينبغي أن لا يكون مستعجلا ولا انفراديا ولا تأثرا بردود الأفعال، فهو مسؤولية عظيمة تشترك فيها الأمة كلها ويقع حملها الأكبر على العلماء والمفكرين وأصحاب الرأي والمشورة.
أما (غلق باب الاجتهاد) بفتاوى دينية أخذت صورة (الثوابت) و (المُسَلّمات) وكأنها نصوص إلهية مقدّسة، فهذه تجربة مريرة قد أوقعتنا مرّات ومرّات وحالت بيننا وبين القدرة على التفكير حتى ضاعت البلاد والعباد ولم يبق عندنا إلا تلك المقولات والشعارات (الطوباوية) على طريقة العرب (أوسعتهم شتماً وأودوا بالإبل)! والمشهد العراقي القريب حافل بمثل هذه التجارب.
لقد رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عمرة الحديبية ليقضيها في العام القادم بموافقة قريش (العدو المشرك المحارب)، ولم يثر أحد من الناس آنذاك أي تساؤل من هذا النوع، ولا أن هذا قد يعني (اعترافا ضمنيا) بسلطة قريش على مكة.
إن إسرائيل لم تعد تفتقر لإثبات شرعيتها (الواقعية) من خلال تأشيرة تختمها على جواز سفر لحاج أو معتمر، بعد أن اعترف المجتمع الدولي وبكل مؤسساته بها وحتى بعض الدول العربية والإسلامية وشطر الحكومة الفلسطينية! أما التطبيع النفسي أو الشعبي فما زال يشكل قلقا مشروعا إلى حدّ ما، لكن السؤال هنا: هل رؤية جماهير المسلمين للمسجد الأقصى وهو خاضع للعصابات اليهودية المسلحة سيفتح الباب للتطبيع وقبول هذا الواقع، أو أنه سيعمّق حالة الرفض ويرفع من درجة الشعور بالمسؤولية؟ ثم ما هو شعور المقدسيين أنفسهم وعامة الفلسطينيين وهم يرون إخوانهم المسلمين يحطّون بينهم من كل حدب وصوب؟
إنني صراحة لا أتبنى الموقف التركي بقدر ما أرى ضرورة رفع القيود والأغلال التي تكبّل العقل العربي والإسلامي، وتحرمه من التفكير إلا من نافذة واحدة وبمنظار واحد.
إننا إذا اقتنعنا أن هذه الأمور لم ينزل فيها (وحي مقدّس) وإنما هي تقديرات واجتهادات تتغيّر بتغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال؛ فإن بابا واسعا من الخيارات والاحتمالات سيُفتح أمامنا، وسنتلقط فرصا كثيرة للمناورة والتدافع والخروج من حالة الانغلاق وانسداد الأفق، بشرط أن لا نذهب إلى اجتهاداتنا فرادى ومتفرقين؛ إذ ربما يكون الاتفاق على الخطأ أهون من التفرق عليه خاصة في مثل هذه القضايا المصيرية.
لقد ظلت إيران (الثورة) تناصب السعودية العداء، وتدعو صراحة إلى (تدويل) الحرمين الشريفين، بل وتهدد باحتلالهما، وفي الوقت ذاته تشجّع الإيرانيين على استحصال (التأشيرات السعوديّة) للحج والعمرة، حتى أصبحت الحشود الإيرانية جزءا لا يتجزّأ من المشهد اليومي لساحات الحرمين الشريفين، إنه مظهر من مظاهر السياسة المركبة التي تمرّس عليها الإيرانيون، على خلاف التفكير الأحادي الذي تميّز به العرب عن غيرهم.
1020 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع