علي الكاش
مفكر وكاتب عراقي
ملاحظة:
قمنا بتقسم الرحلة وفقا للمضامين لتسهل على القاريء الكريم قرائتها، ولم نغير الا بعض العبارات مثل المصطبة إلى المنبر، والكنيسة الى المعبد كي لا يخلط بينها وبين كنيسة اخواننا المسيحيين. وقدمنا وأخرنا بشكل محدود جدا بعض التفاصيل استكمالا للمعنى والوصف. لذا لا فضل لنا فيها البتة، وإنما ارادنا من عرضها ان يعرف القاريء العراقي والعربي الكريم شيئا عن بغداد خلال أعوام الرحلة التقريبي (1165م ـ 1173م) أي (561هـ ـ 569 هـ) وكيف كان الخليفة والمسلمون يتعاملون بشفافية مع اليهود في بغداد. هي بغداد المحبة والأخوة والتآلف والتسامح بين جميع الملل والنحل، ونقارن الحالة مع الوضع الحالي حيث يقتل المسلم أخاه المسلم على الهوية المذهبية، ويشرد المواطنون الأصلاء من المسيحيين والأيزيدين من ديارهم ويستولي الرعاع من عناصر الميليشيات الحكومية على أملاكهم دون وجه حق.
هذا الرحلة للرابي اليهودي بنيامين بن يونة التطيلي الذي زار أمصارا عديدة في رحلته منها في اوربا وآسيا وافريقيا، وقد ترجمت الرحلة من قبل الكاتب اليهودي العراقي عزرا حداد، وقد أعانه في عمله جهابذة أعلام العراق مثل المؤرخ العراقي عباس العزاوي ومصطفى جواد ونعوم سركيس وكوركيس عواد ويوسف المحامي رحمهم الله أجمعين. أول طبعة لهذه الرحلة كانت في القسطنطينية عام 1543م. وتلتها طبعة فرارة في ايطاليا عام 1556، والنص العربي منقول عن الطبعة الايطالية، وكانت أول طباعه حجرية للرحلة في بغداد سنة 1865 وهي طبعة نادرة جدا، يصعب او يستحال الحصول عليها في الوقت الحاضر. والطبعة الثانية في بغداد عام 1945 في المطبعة الشرقية قدمها المحامي عباس العزاوي. وتلتها طبعة المجمع الثقافي في أبو ظبي عام 2002. وطبعات أخرى منها طبعة دار الوراق، وتلك التي حققها د. منذر الحايك.
وصف بغداد في الرحلة
بغداد هي المدينة الكبرى، كرسي مملكة الخليفة أميرالمؤمنين العباسي من آل بيت نبي المسلمين. وهو إمام الدين الإسلامي، يدين له بالطاعة ملوك المسلمين قاطبة. فهو عندهم بمقام البابا عند النصارى. وقصر الخلافة في بغداد واسع الأرجاء، تنوف استدارته على ثلاثة أميال. تتوسطه روضة غناء فيها أشجار مثمره وغير مثمرة من كل صنف. وفيها من الحيوان ضروب كثيرة. وفي الروضة أيضا بحيرة واسعة يأتيها الماء من حدقل (دجلة) يخرج إليها الخليفة للصيد والنزهة، وقد جمعت فيها أصناف الطير والسمك لرياضة الملك ووزرائه ورجال بطانته وضيوفه. وتبلغ استدارة بغداد عشرين ميلا. وتمتد حولها الرياض والحقول وبساتين النخيل مما لا مثيل له في جميع العراق. ولها تجارة واسعة، يقصدها التجار من جميع أقطار العالم للبيع والشراء. وفي بغداد عدد كبير من العلماء الفلاسفة والمتفننين في جميع العلوم والمعارف والسحريات.
قصر الخليفة
في هذا القصر يعقد الخليفة العباسي الكبير الحافظ مجلس بلاطه. وهو حسن المعاملة لليهود. وفي حاشيته عدد منهم. وهو عليم بمختلف اللغات، عارف بتوراة موسى، يحسن اللغة العبرية قراءة وكتابة. وهو كذلك على جانب عظيم من الصلاح والتقوى يأكل من تعب كفيه. إذ يصنع الشال المقصب ويدمغه بختمه فيبيعه رجال بطانته من السراة والنبلاء فيعود عليه بالأموال الوافرة. وهو موصوف بالتقوى والصدق والاستقامة وطلب الخير لجميع رعيته . والمسلمون لا يشاهدونه إلا مرة في العام، عندما يتوافد الحجاج من كل فج بطريقهم إلى مكة من أعمال اليمن، وكلهم شوق لرؤية طلعته. فيحتشدون في باحة القصر هاتفين: يا سيدنا، نور الإسلام وفخر المسلمين، أطل علينا بطلعتك الميمونه! لكنه لا يبالي هذا النداء. فيقول له رجال الحاشية: يا أمير المؤمنين! أشرق بطلعتك على رعيتك الذين توافدوا من الأقطار النائية للاستذراء بظل فضلك! وعندئذ ينهض الخليفة فيرخى ذيل بردته من مشرفة القصر فيقبل الحجاج على لثمها بكل خشوع. ومن ثم ينادي بهم الحاجب: اذهبوا بأمان الله. فإن سيدنا أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام! فينصرف الناس فرحين بهذه التحية التي يهديها إليهم الحاجب باسم الشخص الذي له في قلوبهم مقام النبي. وجميع الأمراء من بيت الخلافة معتقلون في قصورهم الخاصة وراء سلاسل الحديد. وعليهم الحراس الموكلون بهم لكي لا يعلنوا العصيان على كبيرهم الخليفة. فقد حدث لأحد أسلافه أن تمرد عليه إخوته وبايعوا لأحدهم بالخلافة. ومن ذلك اليوم جرت العادة بالحجر على أفراد بيت الخلافة كافة لكي لا يتمردوا على سيد البلاد. غير أن كلا من هؤلاء يعيش في قصر أنيق ويمتلك المدن والضياع، تدر عليه المال الوافر، وعليها الوكلاء والأمناء. وهكذا يقضي الأمراء أيامهم بالقصف واللهو. وفي قصر الخلافة من الأبنية ما يحير العقول. ففيه الرخام والأساطين المزوقة بالذهب المزينة بالحجارة النادرة المنقوشة بالريازة البديعة تكسو الحيطان. وفي القصر كنوز وافرة وخزائن طافحة بالذهب والثياب الحرير والجواهر الكريمة.
الخليفة وعيد الفطر
من عادة الخليفة ألا يبارح قصره إلا مرة في العام، في العيد الذي يسميه المسلمون (عيد رمضان/عيد الفطر) فيحتشد الناس من أقاصي البلاد. للاحتفاء بمشاهدته. ويمتطي الخليفة عند خروجه جوادا مطهما، وهو مرتد بردته المقصبة بفضة وذهب، ومتوج الرأس بقلنسوة مرصعة بالأحجار الكريمة التي لا يعدلها ثمن. وفوق القلنسوة قطعة قماش سوداء اللون، فيها ما يشير إلى التواضع، وفيها موعظة للناس بأن هذه الأبهة كلها سيغشاها السواد عند انقضاء الأجل. فيتحرك ركاب الخليفة، يحف به نبلاء المسلمين وسراتهم، وكلهم رافل بالحلل الزاهية فوق صهوات الخيول. وهم أمراء العرب وعظماء الترك والديلم وفارس ومادي والغز والتبت ونواحي سمرقند التي تبعد مسيرة ثلاثة أشهر عن بلاد العرب. فيتوجه الموكب إلى المسجد الجامع للمسلمين في باب البصرة. وتزين جميع الطرق والأسواق التي يمر بها أبدع زينة بالأقمشة الحرير ذات الألوان الزاهية. فيستقبله الناس بالهتافات والتهاليل، ويخرون سجدا بين يدي هذا الملك الذي يسمونه الخليفة، وهم ينادون: السلام على أمير المؤمنين ونور الإسلام! والخليفة يرد عليهم التحية بلثم أطراف بردته والتلويح بها. فإذا ما دخل الجامع، يرتقي منبرا من خشب فيشرع في إلقاء خطبته على الجماهير ويفسر لهم أحكام شريعتهم. ثم ينهض كبار المسلمين فيرتلون الدعاء له ويشيدون بعظمته وفضله، فيهتف الجميع: آمين. ثم يمنحهم الخليفة مباركته ويؤتى له بجمل ينحره، وهذا هو قربان العيد عنده. فيوزع اللحم على العظماء والأمراء. والسعيد منهم من يذوق أضحية خليفته. وبعد هذا يبارح الموكب المصلى، فيعود الخليفة وحده بطريق الشارع المشرف على دجلة، ويواكبه عظماء المسلمين في قوارب تمخر مياه النهر حتى يدخل الخليفة قصره. وقد جرت العادة أن تكون عودة الخليفة بغير الطريق التي خرج منها. ويقوم الحراس طوال أيام السنة على منع الناس مع وطء موضع أقدام الخليفة. والخليفة لا يبارح قصره إلا في العام القابل، وهو عظيم التقوى والصلاح.
علاج المرضى والمجانين
يقوم على الجانب الغربي من مدينة بغداد، بين نهر دجلة ونهر آخر يأتي من الفرات بناء (المارستان). وهو مجموعة من البنايات الواسعة، يأوي إليها المعوزون من المرضى رغبة في الشفاء ولهذا المارستان قوامون من الأطباء يبلغ عددهم الستين طبيبا، يعالجون المرضى ويطبخون لهم الأدوية. والخليفة يجهزهم بما يحتاجون إليه من بيت المال. وفيها أيضا بناية تدعى (دار المارستان) يأوى إليها المجانين المغلوبون على عقولهم بتأثير حر القيظ الشديد! والأطباء يقيدونهم بالأغلال حتى يثوبوا إلى سابق رشده. ويعيشون مدة مكوثهم فيها بنفقة الخليفة. ويقوم أطباء الخليفة بتفقدهم مرة في كل شهر، فيسرحون من عاد إلى الصواب منهم ليعود إلى أهله. وتشمل خيرات الخليفة كل من أمّ بغداد من المرضى والمجاذيب. فالخليفة جزيل الإحسان. همه عمل الخير.
يهود بغداد
يقيم ببغداد نحو (40) ألف يهودي. وهم يعيشون بأمان وعز ورفاهة في ظل أمير المؤمنين الخليفة. وبينهم عدد من كبار العلماء ورؤساء المثيبة وعلماء الدين. ولهم في بغداد عشر مدارس مهمة. ورئيس المدرسة الكبرى هو الرابي صموئيل بن على الرّابي والغاؤون، رأس مثيبة (غاؤون يعقوب). وهو ينتسب إلى سبط لاوي من آل موسى النبي (ع) . وأما رئيس المدرسة الثانية فهو رابين. حنينة أخوه، شيخ اللاويين ونائب رأس المثيبة. ورئيس المدرسة الثالثة رابين دانيال ورئيس المدرسة الرابعة الحبر إلعازر. ورئيس المدرسة الخامسة رابين إلعازر بن صمح رأس المجمع العلمي، ويرتقي نسبه إلى صموئيل النبي. وقد اشتهر هو وإخوته بالتجويد ورخامة الصوت والترتيل على الطريقة التي كان يرتل بها أجدادهم اللاويون في بيت المقدس. ورئيس المدرسة السادسة رابين حسداي الملقب بفخر الأحبار. ورئيس المدرسة السابعة رابين حجاي. ورئيس المدرسة الثامنة رابين عزرا صاحب سر المثيبة. ورئيس المدرسة التاسعة رابين إبراهيم ويكنى أبا طاهر. ورئيس المدرسة العاشرة والختامية (السيوم) رابين زكاي بن بستناي. وهؤلاء الأساتذة العشرة يعرفون بالمعتكفين. لا عمل لهم غير النظر في مصالح أبناء طائفتهم. ويقضون بين الناس طول أيام الأسبوع، كل في مدرسته، خلا نهار الاثنين حيث يجتمعون في مجلس كبيرهم رأس مثيبة (غاؤون يعقوب) للنظر في شؤون الناس مجتمعين.
تعامل الخليفة والمسلمين مع كبير حاخامات اليهود
أما رئيس هؤلاء العلماء جميعهم، فهو الرابي دانيال بن حسداي الملقب (سيدنا رأس الجالوت). ويسميه المسلمون (سيدنا ابن داود). لأن بيده وثيقة تثبت انتهاء نسبه إلى الملك داود. وهو يستمد سلطانه من كتاب عهد يوجه إليه من الخليفة أمير المؤمنين عملا بالشرع المحمدي. وينتقل هذا المنصب إلى ذريته بالوراثة. وعند نصب الرئيس يمنحه الخليفة ختم الرئاسة على أبناء ملته كافة. وتقضي التقاليد المرعية بين اليهود والمسلمين وسائر أبناء الرعية بالنهوض أمام رأس الجالوت وتحيته عند مروره بهم. ومن خالف ذلك عوقب بضربه مائة جلده.
وعندما يخرج رأس الجالوت لمقابلة الخليفة يسير معه الفرسان من اليهود والمسلمين. ويتقدم الموكب مناد ينادي بالناس: اعملوا الطريق لسيدنا ابن داود! ويكون الرئيس ممتطيا صهوة جواده وعليه حلة من حرير مقصب، وعلى رأسه عمامة كبيرة تتدلى منها قطعة قماش مربوطة بسلسلة منقوش عليها شعار الخليفة. وعندما يمثل في حضرة الخليفة يبادر إلى لثم يده. وعندئذ ينهض الخليفة وينهض معه الحجاب ورجال الحاشية، فيجلس الرئيس فوق كرسي مخصص لجلوسه قبالة الخليفة.
نفوذ رأس الجالوت اليهودي المقيم في بغداد
يذكر عزرا حداد بأن " الأعراف اليهودية إن منصب رئاسة الجالوت في بغداد يمثل ملك يهوذا الذي أسره نبوخد نصر ملك بابل في حدود سنة 577 ق. م. ثم أطلق سراحه خلفه الملك أويل مروداخ وجعله رئيسيا على أبناء ملته اليهود في العراق ويشترط فيه ان يرجع" نسبه الى الملك داود"، وهو مطلق الصلاحية فله أمر تعيين القضاة وتحديد الضرائب وسن القوانين والتعليمات الخاصة باليهود" نقل بتصرف.
نعود للرحلة.
يسري نفوذ رأس الجالوت على جميع طوائف اليهود المنتشرة في شنعار (العراق) وبلاد خراسان، وسبأ (اليمن) وبلاد ما بين النهرين (الجزيرة) وجبال أراراط (أرمينية) وبلاد اللان المحوطة بالجبال الشاهقة والتي لا ينفذ إليها سوى من الأبواب الحديد التي شيدها الإسكندر فتهدمت من بعده؛ وطوائف اليهود المنتشرين في سبيرية وبلاد التوغرميم (التركمان) وبلاد كرجستان (جورجية) حتى شواطئ نهر جيحون وحدود سمرقند وبلد الطيبات (التبت) وديار الهند.
الإحتفال بالجالوت الجديد في قصر الخلافة
يجري الاحتفال بنصب رأس الجالوت الجديد بمهرجان مشهور. إذ يبعث إليه الخليفة بإحدى ركائبه الملوكية فيتوجه إلى قصر الخلافة، وفي ركابه الأمراء والنبلاء، ومعه الهدايا والتحف النفيسة للخليفة ورجال قصره. وعندما يمثل بين يدي الخليفة يتسلم منه كتاب العهد، ثم يضع أمير المؤمنين يده على رأس الرئيس الجديد، ومن ثم يعود إلى داره بموكبه الخاص وحوله الجماهير الغفيرة. وتنفخ أمامه البوقات وتقرع الطبول. وبعدها يحتفل بتجديد نصب رؤساء المثيبة بأن يضع الرئيس الأكبر يده على رأس كل منهم.
معابد اليهود في بغداد
وبين يهود بغداد عدد كبير من العلماء وذوي اليسار. ولهم فيها ثمان وعشرون معبد. قسم منها في جانب الرصافة ومنها في جانب الكرخ على الشاطئ الغربي من نهر حدقل (دجلة) الذي يمر في المدينة فيشطرها شطرين. ومعبد رأس الجالوت بناء جسيم، فيه الأساطين الرخام المنقوشة بالأصباغ الزاهية المزوقة بالفضة والذهب. وتزدان رؤوس الأساطين بكتابات من المزامير بحروف من ذهب وفي صدر المعبد منبر يصعد إليها بعشر درجات من رخام، وفوقها الأريكة المخصصة لرأس الجالوت أمير آل داود.
املاك اليهود مصونة
ففي هذه الأقطار كلها لا يعين الرّابيون والحزانون إلا بمعرفة رأس الجالوت. وهم يشخصون إلى بغداد بعد نصبهم لمقابلة الرئيس، ويحملون إليه الهدايا والعطايا من أقصى المعمور. ويمتلك الرئيس العقارات الواسعة والمزارع والبساتين في جميع أنحاء بابل (العراق) وأكثرها مما ورثه عن أجداده. وأملاكه هذه مصونة، ليس من حق أحد أن ينتزعها منه. وله إيراد سنوي عظيم من الفنادق والأسواق والمتاجر عدا الهدايا التي تتوارد عليه من البلدان القصية. فهو على ذلك واسع الثروة، وعلى جانب عظيم من الحكمة والفقه بأحكام التوراة والتلمود.
نترك المقارنة للقاريء الفاضل، ليرى كيف تحولت مدينة المنصور، مدينة السلام والحب والتسامح والأخاء الى مدينة العلقمي، مدينة الحرب والكراهية والتطرف والتفكك.
علي الكاش
4821 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع