«مُعَوض»، اسمه معوض، لم ينتبه لحظة دخولي، كان نائما في فراشه ولم ينهض لاستقبالي، في غرفته لم يكن أحد غيره يفقه شيئا عن المصطلحات الطبية، لكنه كان نائما، منذ عامين وهو نائم، أخفيت دموعي مبتعدة لكن صوت بكاء «أحمد الميت» أعادني للغرفة، لأجده ملقى على جسد معوض ينادي عليه أن يستيقظ.
«أحمد الميت» نعم هذا اسمه ولو شئنا التعريف باسمه الثلاثي فهو «أحمد الحي الميت»، أصيب أحمد برصاصة شرطي ماهر صوبها مباشرة إلى قلبه فسقط ميتا، السماء كان بها بعض الضوء آنذاك وكان البرد قد رحل إثر حرارة الشباب وأصواتهم التي أيقظت مصر والعالم، بعضهم يعتبرون يوم الثامن والعشرين من يناير 2011 هو اليوم الأول فعليًّا للثورة وهو اليوم الذي انفلت فيه الرصاص على صدور ورؤوس وعيون الشباب والشابات. دفع جسد أحمد لداخل الثلاجة ليرقد بين زملائه الشهداء، تعرف أهله عليه في الصباح وتسلمه رجل قصير يرتدي جلبابا غامقا وسكب عليه المياه الدافئ ليعده للدفن، الرصاصة كانت ساكنة في منتصف صدره، والفجوة التي تركتها ظلت مؤطرة بالدماء، فجأة صرخ الرجل ثم سجد وانطلقت صيحته: الميت صحي.
منذ أن عاد أحمد للحياة وهو هناك في غرفته بالطابق السابع بمستشفى القصر العيني الفرنسي بوسط القاهرة. وصل إليها بعدما اكتشف الأطباء أنه لم يمت وأنه ظل حيا رغم الرصاصة الساكنة بقلبه والليل الذي كان ينعق وحشة والبرد الثلجي الذي يحيطه في ثلاجة حفظ الموتى، لكنه ورغم ذلك لم يمت، عاد للحياة مثقوب القلب والروح عاجزا عن البقاء لثواني من دون جهازه باهظ التكلفة الذي تبرعت بثمنه سيدة مصرية فاضلة ما زالت تتحمل مصروفات المصابين منذ أن أسقطتهم الإصابة.
«أحمد الميت» كان غطاسا ماهرا يعيش وسط الأسماك الملونة في البحر الأحمر، في المياه كانت حياته لكنه خرج منها يطالب بالحرية وبالحياة العادلة. فطعن في قلبه وهجر أسماكه للأبد. في المستشفى تعرف على زملاء الثورة. تعرف على أسرة مُعوض، وعلى أخيه الذي ترك عمله الهندسي ليتفرغ لرعاية شقيقه، وتعرف على والدته التي لم تيأس لحظة في سماع صوت ولدها الصغير الصيدلي النابه. تعًرف أحمد على مُعوض الراقد بلا حراك وصادقه واحتفل بعيد ميلاده وسط الآخرين. يلتقي المصابين كل يوم، يسير أحمد بجهازه إلى غرفة مصطفى ويدفع كرسيه المتحرك ليصل إلى غرفه أسامة.
وصل مصطفى إلى المستشفى قبل أقل من شهر واحد، بينما كان أمام القصر الرئاسي يهتف مطالبا بدستور عادل لكل المصريين، فإذا بصوت مدوي من خلفه يهتف «حي على الجهاد». استعاد وعيه في غرفة المستشفى ليكتشف أنه فقد القدرة على السير، الرصاصة أصابته في العمود الفقري، مصطفى كان يدق الأرض بكبريائه قبل أسابيع قليلة، والآن يراقب السكون في غرفته منتظرا وصول «أحمد الميت» ليدفع كرسيه. يصل الشابان إلى غرفة «أسامة» الذي وصل أيضاً في يناير 2011، ومن يومها وهو سجين فراشه بعد أن مزق الرصاص الحوض. صادق غرفة العمليات واللون الأبيض. وما زال بانتظاره قائمة من العمليات الجراحية أملا في استعادة قدرته على السير مرة أخرى.
الشباب الذي فقد بصره وهؤلاء الذين فقدوا عضوا حركيا أو أكثر انتقلوا إلى مستشفى آخر. في القصر العيني الفرنسي تسع حالات سيمضى عليهم عامان حين يهل يوم الخامس والعشرين من الشهر المقبل، عامان وهم في الفراش، يراقبون الثورة التي فجروها، يراقبون الحكومة التي أتت بها الانتخابات وهي تنساهم، عامان وما زال «معوض» في انتظار حقه في العلاج. عامان وأطباء ألمانيا ينتظرونه. وما زالت الحكومة تبحث وتناقش وتقرر والشباب المصاب معلق الأمل بعلاج ناجع يخرج بهم للنور مرة أخرى. عامان وصابرين راقدة في المستشفى بلا حراك يتغير عليها الليل والنهار، ولا يتغير مكانها. وصلت صابرين هي أيضا يوم الثامن والعشرين مصابة برصاصة في العمود الفقري، العظام التي تهتكت ترفض الالتئام، والجراحات تتوالى والألم يرفض فراقها، كانت كلماتها تخرج مبتورة مثقلة بالوجع، شعرت بها تخفى دموعها بين طيات الفراش، وما أن استدرت حتى انهالت دموعها وخرجت آهة طويلة قاتمة.
في مستشفى القصر العيني الفرنسي يرقد أبناء لمصر دفعوا الثمن وما زال يدفعون. وثقوا بالغد ووهبوه حتى أجسادهم. لكن الغد ما زال يراوغهم ولم يستطع لهم النور بعد. النور كان قد غاب أثناء خروجي من المستشفى بصحبة «أم الثوار» السيدة خديجة، الأم التي احتضنت الثوار وفاضت عليهم من أمومتها بالكثير. ظل أحمد الميت يرافقنا معلقا بذراعها، أصر على مرافقتها حتى السيارة، لكنه وحين بلغ باب المستشفى توقف للحظة واستنشق الهواء مليا وضحك قائلا: «الله الشوارع فيها رصيف والعربيات لسه بتجري بسرعة».
838 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع