البرتو مورافيا .... الحديث الأخير المتأخر

                                     

     

  

       البرتو مورافيا .... الحديث الأخير المتأخر

العدد : 75
التاريخ : نيسان /   2016

ترجمة : د. ضرغام الدباغ

حديث الخريف المتأخر : البرتو مورافيا يعترف !

في مقابلة، ربما كانت الأخيرة  مع الكاتب الإيطالي البرتو مورافيا (ولد في روما سنة 1907 م وتوفى فيها في 26 سبتمبر سنة 1990)  أجراها الصحفي كريستوف غراف شفيرين، قبل سنة من وفاته، في الشؤون الثقافية في صحيفة " العالم"  Die Welt التي تصدر  في هامبورغ / ألمانيا بتاريخ 13 / يونية ـ حزيران / 1988


*  *    *   *

مورافيا : السياسة ليست لي !
البرتو مورافيا، الكاتب الرومانسي الإيطالي الشهير، الواقعي في علم النفس / العضو في البرلمان الأوربي يقول : " إن السياسة ليست لي، فأنا مجرد كاتب"
لماذا يفجر مورافيا الفضائح ..؟ أين يرى هدف الفن .. وما هي العلاقة بين السياسة والفن .. كيف يفكر الكاتب الذي يبلغ الثمانين من العمر حول الحب .. والإخلاص والإيدز...

البرتو مورافيا : العضو في البرلمان الأوربي على قائمة الحزب الشيوعي الإيطالي، يصرح " السياسة ليست لي، وبأنه مجرد كاتب، ثم يضع هدفاً للفن بقوله أنه تعبير المضطهدين، ماذا يقول عن السخرية في أعماله التي أنتج منها أربعة أفلام سينمائية. حول هذه الموضوعات وغيرها تحادث مع مورافيا: كريستوف غراف شفيرين .

*  * *   *

* العالم :
في آخر رواية لكم "المشاهد" تبدأ هكذا، بأن رجلاً شاباً استيقظ ذات صباح وهو يفكر بالقنبلة الذرية ونهاية العالم. وفي الأيام التالية، كان يفكر في ذلك فقط، ثم أن هناك نصاً" أنها الحقيقة نفسها، بأن مجرد اختراع القنبلة الذرية قد قوض ضمير العالم " هل هذه الأفكار هي لكم أيضاَ..؟

مورافيا :
إن الرواية الواقعية هي ليست نفسها القديمة، أنها تركز على الواقع، والرجل الشاب، قد استولت عليه أفكاره كما في ضمير (هارباكون) مولير، لقد استولت عليه فكرة نهاية العالم، وأن ذلك يعني نهاية البشرية، لقد أصبح واضحاً لديه أن البشر قد اعتادوا على فكرة الموت، ولكنهم لم يفكروا قط أن الناس الطيبين يموتون، وهنا يكمن الفرق في الفكرة حول الموت وما بعد القنبلة الذرية.

* العالم :
إن القلق والخوف من الدمار خلال حرب ذرية شأن يسيطر على رؤوس الألمان أيضاً !

مورافيا :
إنني عضو في البرلمان الأوربي، وأنا أدرك أن كل سياسة خارجية إنما هي متأثرة بالتسلح النووي، وألمانيا بجزئيها الشرقي والغربي هي مساهمة في ذلك، وأن ذلك يمثل بصورة ما امتيازا ألمانياً كونها تشكل مختبر العلاقات بين الشرق والغرب. إن الضمير الألماني والعبقرية الألمانية، والفلسفة الألمانية قد اكتسبت العمق، إلا أنني أعتقد أن التوتر سوف يزول ويختفي في النهاية.

القنبلة الذرية ليست سلاحاً، إنما هي وسيلة لانتحار البشرية، إنها إذن مسألة ميتافيزيقية وغدت مسالة أخلاقية. وبهذا المعنى يمكننا الحديث عن مرض، أو حث الخطى صوب الموت الذي يقف أمام القنبلة. وهذا المرض يتضمن الموت منذ القرن التاسع عشر على الأقل، منذ ما نطلق عليه بمرحلة التدهور والانحطاط. لاحظ باودلاريس، وشوقه إلى الموت

" موت البحار العجوز ...على المرساة
 هذه التي نحن عليها
 متعبة...
أيها الموت ... تعال "

أنه يضجرنا بذلك، ولكن لماذا يريد الموت شاعراً كبيراً كباودلاريس، وهذا ليس من السهل الإجابة عليه.

* العالم :
السياسة والفن، يقفان في الضد أحدهما حيال الآخر، كيف بإمكانك أن تضع جسراً بينهما ..؟

مورافيا :
ولهذا السبب فإن الفنانين هم رجال سياسة سيئون. السياسة تسعى على ما هو نسبي، والفن إلى المطلق، لا بل هناك سياسيون طمعوا بالمطلق ونالوه، وهؤلاء هم: هتلر وموسوليني وستالين.
وأنا لدي تصور دقيق عن الفن، إنني اعتقد أن الفن هو شأن اجتماعي، كما أن هدف الفن هو التعبير عن المضطهدين، والفن هو اجتماعي لأنه ينكر المجتمع، والسياسة موجهة للمجتمع لأنها من أصل المجتمع. الفن يؤدي إلى العصيان على المصطلحات، الفن لا يمكن استخدامه.

* العالم :
لقد تم انتخابكم على قائمة الحزب الشيوعي الإيطالي إلى البرلمان الأوربي في ستراسبورغ، ولكنكم لم تكونوا أبدا عضواً في الحزب الشيوعي، وقد أكدتم مراراً بأنك لست شيوعياً، أين هو موقع مورافيا سياسياً...؟

مورافيا :
لقد انتخبت أيضا من الأشتراكيين والراديكاليين، إنني أقف على اليسار، وفي ذلك أتشابه قليلا! مع جان بول سارتر(1). على كل حال، فقد رفضت مرتين أن أكون نائباً عن الحزب الشيوعي الإيطالي، وأعتقد بأنني أشبه إلى حد ما الوسيط، إن المثقف لا يمكنه أن يكون سياسياً بالكامل، ولا يمكنه أن يكون منتسباً إلى حزب معين.

وأنا لم أكن يوماً عضواً في حزب من الأحزاب، لأنني لا أستطيع أن أتحمل الأحزاب، وأنا لست إنساناً سياسياً أولاً وأخيراً. وقد كنت قد كتبت كتاباً عن السياسة وهو " أتفاق الإرادات "
وإني اعتقد أن السياسة مملة، ربما تكون مسلية في المستويات العليا، على الرغم من أنني معروف جداً على صعيد الرأي العام وملاحق، وهذا غير ممتع، فالسياسة ليست لي، وأنا لست سوى كاتب وسأظل كذلك.

* العالم :
تلعب القنبلة الذرية دوراً مهماً في كتبك الأخيرة، ولكنك تكتب القليل حول الموت، وقد قلت مرة، أن الموت ليس موضوعاً أدبياً، هل هناك تناقضاً فيما تقول ..؟

مورافيا :
إنه لم يعد موضوعاً أدبياً، ففي الماضي كان البشر لا يتوقعون الحياة لأكثر من 30 عاماً، وفي القرون الوسطى كانت حياة الإنسان قصيرة جداً. وكان عدد السكان ضئيلاً، واليوم لدينا 60 مليون نسمة من السكان في إيطاليا، ويصل عمر الإنسان إلى 80 عاماً، ولم تعد للحياة قيمة كبيرة جداً. والمهم هنا ما لم يحوز عليه الفرد، وأنا أعني أن الموت لم يعد له حضور ثقافي وأدبي، لأن المرء يعيش طويلاً ولديه الكثير من الوقت ليشعر بالملل.

* العالم :
لقد جئت إلى ألمانيا للمرة الأولى عان 1926، ومنذ ذلك الوقت وأنت تواظب على المجئ إليها مما يخلق انطباعا بأن لألمانيا قوة جذب عليك ..؟

مورافيا :
لقد جئت إلى ألمانيا عدة مرات مع صديق ألماني يعيش في إيطاليا وهو كاتب وشاعر وهو يمتلك في الواقع مصنع نجارة وينتج الأثاث.

وإذن كيف أرى ألمانيا..؟ إنني أرى ألمانيا بوصفها بلداً ثرياً جداً، بحيث أن لديها مشاكل مع ثرائها، لقد شاهدت ألمانيا شتاء، وفي وسط الشتاء بكثير من الثلوج، وكان شيئاً جميلاً، وقد أحببت ذلك، وأحببت ألمانيا أقل صيفاً. أنها بلاد عظيمة وقد أدهشتني الثقافة والفنون بحيث إنني ألفت كتاباً حول ألمانيا " 1934 "، أو الكآبة، وبالمناسبة إنه عمل حول الانتحار وحول هتلر ونهايته.

إن العلاقات بين ألمانيا وإيطاليا شاملة، قوية، وعميقة. وأيضاً أكثر شمولاً من علاقات إيطاليا مع فرنسا. في العلاقات مع فرنسا المسألة تطرح نفسها في الأشياء المتشابهة، أما مع ألمانيا ففي الفرق بين الأشياء. وقد تماسكت العلاقة بين ألمانيا وإيطاليا منذ عصر الإمبراطورية الرومانية المقدسة بشكل نادر. وما أحبه حقاً في ألمانيا هو أنني شاهدت قبل وقت قصير فلم جين ماري شتراوبس حول هولدرين Hölderlin (2)، وهو أمر جدي للغاية في الثقافة ومثير للبحث، أو كما تطلقون عليه في ألمانيا عبارة Gründlich " شامل " أليس كذلك ..؟ ويبدو لي أن الألمانية هي أكثر تعاطفاً وصلاحاً للهولدرين في الثقافة، وموت أمبيدوكليس3) Empedokles) هو ألماني بكل معنى الكلمة. كان ذلك عصراً للرومانسية، وهو كما أعتقد من أجمل العهود. ثم كانت هناك بضعة أعمال ألمانية جديدة والتي اقدرها حق قدرها: الفلاسفة نيتشة وفيتكشتاين، هم شخصيات مهمة بالنسبة لي حتى لو لم تتشابه أفكارهم مع أفكاري.

* العالم : هل لهذا الوصف، للعلاقات مع ألمانيا السبب في أن تعتبرها مضادة(متناقضة) مع إيطاليا ؟ ولكنك لا تنحدر من أصل إيطالي وربما لذلك دوره أيضاً..؟

مورافيا :
الأصل في المعنى الثقافي ..؟ إن انحداري الثقافي هو فرنسي الأصل، فأنا أتحدث الفرنسية قبل أن أتعلم الإيطالية، ونمط أفكاري هو عقلاني منطقي، فأنا أومن بالعقل وهو ما لا يعيقني حتى من الأشياء المدهشة المضللة، فأنا أقرا بالفرنسية كما بالإيطالية، وأشعر بأحاسيس اللغة. فمن المؤكد أن الألمانية قد أدهشتني. وما هو غريب حقاً، بأني كتبت هذه الرواية (عام1934) وأنا أفكر بألمانيا وبما كان يحدث فيها بدلاً من الكتابة حول فرنسا أو بريطانيا.

* العالم :
إن روايتك مثل المسرحيات مركبة، وروايتك الأولى " اللامبالي " تبدأ بجملة "دخلت كلارا" وهذا ضرب من التوجيه الإخراجي(فن الإخراج) وهذه ثغرة. وفي الرواية التي تحمل نفس العنوان يلاحقنا نفس الانطباع الذي تشيرون إلى دوره بعبارات تتضمنها الحوارات. والنساء في رواياتك يتحركن على المسرح ويسيطرن على أحداثه. ولكن القليل من أعمالكم المسرحية تم تحقيقها (أي مثلت على خشبة المسرح) وتلك بقليل من النجاح، كيف لك أن توضح ذلك ..؟

مورافيا :
في شبابي، كنت أحسب أن الدراما هي قمة الفن، وأنني ما زلت أعتقد ذلك في الواقع حتى الآن. وجيمس جويس(4)طرح المسرح فوق الرواية والشعر. وهكذا كنت اضن بأنه ينبغي علي أن أكتب المسرحيات ولكنني كنت أريد أن أحدث توفيقاً بين المسرح والرواية. ولهذا السبب فإن أعمالي الروائية هي مسرحيات خلف قناع الرواية، هناك دائماً القليل من الأشخاص، أربعة أو خمسة، كما أن هناك وحدة أرسطوطاليسية بين الزمان والمكان. إن هناك تأثيراً لديستوفسكي(5) عليَ من خلال حوارات رواياته. وأساساً فإني كنت أريد صياغة أسلوبين من تكنيك الأدب في قالب واحد.

* العالم :
بعض كتبك قد تم إخراجها في السينما بنجاح مثل: الاحتقار، للمخرج كودراد، والمساير، للمخرج يبترولوشي، بل أن بعضها، امرأة من روما، قد حازت على الجوائز، أربع روايات أخرجت في السينما. هل تتذكر شخوص رواياتك ..؟

مورافيا :
لا .. أنظر: برأي لا توجد علاقة إلا نادراً بين الأدب والسينما(الأفلام)، الفلم يخدم الأدب كما فقرة الأخبار المنوعة، شيء ما ممتع قد حدث وهو لا يمكن أن يجعلني أن أصاب بالقلق. وعندما يروم مخرج بالالتصاق حرفياً بالمشروع(المراد إخراجه سينمائياً)، فهو ليس أصيلاً إذن، ومن ناحية أخرى، فإن أخراج كتاب أصيل وجعله سينمائياً ليس عملاً مخلصاً. وعلينا أن نترك المخرجين يفعلوا ما يشاءوا. المخرج بيترولوشي جعل من رواية (المساير) فلماً جيداً جداً، بل أنه غير كل شيء، إلا أنني كنت راضياً عن تغيراته.

* العالم :
الفتور، العرض التحليلي للعلاقات الجنسية في روايتك عودة للفضائح، مع أن الوقت قد غيرت الأعراف ولم تعد تمثل تلك صدمات، ترى هل ينبغي أن نقرأ كتبكم اليوم من جديد ..؟

مورافيا :
لم أكن اقصد أبداً أن تصدم أعمالي أحداً، ولكن الأصح كان الأمر هكذا، بأن أدبي كان كما في بدايات ما يسمى بالرسم التعبيري، و "اللامبالي " هي الأقرب إلى الرواية التعبيرية، وأنا أحاول بوسائل الواقعية أن اعبر عن إحساسي، والآن يمكن أن تكون هناك مبالغة فيما أحسست، ولكن في النهاية أعد نفسي كاتباً وجودياً، والجنس هو، وذلك واضح، أحد قيم الوجود. ومن اللحظة التي يفكر بها المرء بوجوده يبدأ بقياس ما يقع خارج الإنسان وما يدور على أنه شيء له قيمة.
ولكن في دواخل البشر هناك أهمية فائقة للنشاط الجنسي، ولذلك فإنني أقول، أن هناك فرقاً هائلاً بين القرن العشرين والقرن التاسع عشر. والرواية عكست العلاقة بين الأشخاص كأفراد والمجتمع، وفي ذلك كان الحب والجنس موضوعاً ثانوياً، وأنا أتذكر آنا كارنينا(رواية تولستوي)عندما نامت لأول مرة مع فرونسكي، وقد وصف تولستوي ذلك بهذه الكلمات " رفع نفسه وأنزلقت هي إلى الأرض، وبينهما كانت الجريمة " الجريمة ..؟ ألأنها أحبته ..! هذا هو الحب عند تولستوي، عندما يكون الرجل والمراة غير متزوجان. ولكن التحول بدأ منذ أعمال دستوفسكي.
ودستوفسكي هو الذي أسس المدرسة الوجودية. فكر فقط بروايته: الجريمة والعقاب، إنها ليست رواية للعلاقات بين الأفراد والمجتمع، نعم في البداية هناك الجريمة، والجريمة هي ضرب من دور يمارسه المجتمع. ولكن فيما بعد، وفور وقوع الجريمة تصبح الرواية تاريخاً لخطأ أرتكبه أحد الأفراد بوعي، وهذا يصيب شخصاً واحداً فقط. إذن، نحن ننهمك أقل دائماً بالمشكلات الاجتماعية، ونقترب من الأفراد ودخائلهم، لا بل مع المشكلات الفلسفية.
إذن فأنا عندما كتبت آنذاك عن الجنس، كنت اعني ما تطرحه الفكرة المستحوذة على الذهن (Obsession ـ يستخدمها مورافيا باللغة الفرنسية ـ المترجم)، ولكني لم أكن أريد أحداث صدمة، وفي النهاية فأنا أعتقد بأني لم اقل أن الناس يفكرون كثيراً بالجنس، وهذا ليس ذنبي.

* العالم :  
في روايتك "المتفرج" هناك ما يلي :" إن دون جوان ليس جامعاً لأكبر عدد من النساء، بل هو إنسان متسلط "(6) وأنتم تؤكدون بأن كل اكتشاف يعلن عن نفسه من خلال تحكمه بالآخرين، ففي حالة دون جوان فإن هذا التحكم أو السيطرة هي واقعة على النساء، هل تكمن هنا أهمية الشهوانية في رواياتك ..؟

مورافيا :
إن الشهوانية في كتبي، هو المجهود الذي ابذله من اجل تحقيق علاقة. وأني اعتقد أن لكل كاتب مفاتيحه من أجل التوصل إلى هدفه وتحقيقه، من أجل فتح واستجلاء وكسب هذه الحقيقة. لنأخذ على سبيل المثال: بلزاك والنقود (7) وقد أوضح كل شيء، فهو لا يوضح النقود فحسب، بل والسياسة والمجتمع، وأيضاً الحب والأدب. ولدستوفسكي كانت الجريمة، القتل، وسائل لإيضاح كل شيء. وجوزيف كونراد (8)كان عنده البحر، وأنا عندي الجنس كمفتاح وكوسيلة لتوضيح الأشياء التي لا علاقة لها بالجنس.

* العالم :
قال مرة أحد ناشريك، إن الرواية التقليدية، تستخدم العلاقات الجسدية لسبر غور نفس الإنسان والنفاذ إلى المشكلات الكامنة وراء حجب وأقنعة.

مورافيا :
لا ... إني أعتقد أن ذلك كان ضرورياً، ولم يكن اجتماعياً في زمن استخدام قوى خمدت فيه تلك المرحلة في العلاقات الجنسية. إن العلاقات الجنسية كانت تنتمي آنذاك إلى رفوف وأدراج علم الجنس أو السياحة، ثم هناك بعد ما يقال: أن اللغة كوسيلة للاتصالات قد استهلكت، وأرهقت، وهكذا فإن العلاقات الجنسية تطلق العنان للأفعال إلى حد بعيد. وفي الروايات التقليدية يبدأ المرء بالمنازلة وهو أمر بسيط جداً ثم ينهيها بشهر العسل. اليوم تبدأ الرواية بالزواج وهو ما يعني بعلاقات جنسية ثم ينهيها بالحب والعلاقات النفسية هي شعور يومي وأفضل من لا شيء. وأنا أعرف في الواقع العديد من الأزواج الذين لم يعد لديهم ما يقولونه بعد، ولا يحبون بعضهم، ولكن العلاقات الجنسية ما زالت متواصلة، إذن فالعلاقات الجنسية ما زالت موجودة هنا.

* العالم :
إن التحرر الجنسي للمرأة، والتحرر في العلاقات الجنسية في العالم الغربي مع انتشار حبوب منع الحمل، هل تعتقد أن العلاقات الجنسية بين البشر تجدد نفسها الآن بشكل جذري من خلال مخاطر مرض الإيدز، هل ندخل مجدداً في مرحلة التزمت ..؟

مورافيا :
لا أدري، فيما إذا كانت حبوب منع الحمل قد غير من التقاليد والأعراف ولكني لا اعتقد بأي شكل من الأشكال أن الآيدز سيغير من شكل وجوهر العلاقات الجنسية. وما حدث هو عامل جديد في اللعبة، سيساهم في اللعبة التبادلية بين الحب والموت، والكثير من البشر يفضلون الموت على التنازل عن الجنس، إذن فأنا لا أعتقد بأننا سنذهب إلى التزمت كبديل.(المقصود هنا التزمت كمذهب Puritanisim ـ المترجم)

* العالم :
كيف يكون مسار الحدود بين مشاعر القلب والجنس ..؟

مورافيا :
يمكن أن يكون هناك جنس بدون حب، ولكن لن يكون هناك أبداً حب بدون جنس.

* العالم :
الإخلاص (في الحب والعلاقات الغرامية) هي مسألة تعود للقلب وليس للجنس، أنت كتبت ذلك مرة، ولا توجد خيانة جنسية، بل شيء واحد، هو المشاعر.

مورافيا :
عندما قلت ذلك، فقد خاب ظني. لا يوجد شيء اسمه أخلاص، يوجد فقط الحب. لا يكون المرء مخلصاً، المرء يحب أو لا يحب. الحب هو الإخلاص. إن الأمر يبدو هكذا وكأنه أخلاص ألتزامي(إجباري)، وإذا أحب المرء حقاً، فإنه لا يستطيع أن يحب امرأة أخرى، أما إذا كان المرء لا يحب فالإخلاص يصبح شكلياً، ويكون صالحاً لزواج أتفاقي ولكن بدون جوهر ومحتوى.

* العالم :
توجد كلمة لكامو(9) يقول فيها: الحب هو أن نشيخ معاً .

مورافيا :
أوه ... لا ... أنا أعتقد عندما تحب أحداً، عليك أن تتنازل عن أن ترغب أو تريد غيره. والذي تريده كما هو ولا تريد منه أن يتغير. لا بل أنك تحب حتى أخطاؤه، وأن يبقى كما هو وحيث هو. وحتى عندما تخونك، فأنك تستمر على الحب لأنه يخون، وهو تنازل عن الحب.
الأمر هكذا ببساطة، الحب تحت وطأة الغيرة. والذي يحب ليس فقط أن يحب الحقائق التي توجد في المرأة، بل والأشياء المضادة له (التي لا يرغب بها) في هذه المرأة. (10)، أما أن يشيخ معها، فهذا أمر مضجر، وأنه من الأفضل أن يشيخ المرء وحده إلى جانب امرأة شابة أو بجانب امرأة كبيرة في السن، على أن يشيخ مع رجل شاب. إذن فأنا أطالب بعلاقة بين اثنين مع فارق السن. وعلى كل حال فأنا مواصل لذلك ومصمم عليه. ولكن كان لدي امرأتين وكلتيهما كانتا أصغر مني. وزوجتي الثانية كانت أصغر من ب29 عاماً، ولم أكن أنا ما تبحث عنه، بل الأمر حدث هكذا.

* العالم :
لقد قلت أن اللغة الفرنسية هي لغتك الأولى، وأن ثقافتك كانت فرنسية، ولكن ألم تذهب فيما بعد إلى مدرسة إيطالية ..؟

مورافيا :
أنا لم اذهب إلى المدرسة قط. ومنذ أن كنت في سن التاسعة وإلى سن السابعة عشر كنت مريضاً. وتعلمت اللغات من المربيات الكثيرات. في البداية من فرنسيات ومن ثم الألمانيات، السويسريات، بل كانت هناك مربية أميركية ومنها تعلمت الإنكليزية.
لقد قرأت الكثير، وهذا هو كل شيء، لذلك على سبيل المثال، فأنا لا أعرف الطرح والقسمة والضرب، لا أعرف سوى الجمع !

* العالم :
لقد قلت مرة، بأن رواية اللامبالي، بدأت بكتابتها قبل 16 سنة من كتابة نهايتها، إذن هل كان ذلك في أوقات مرضك ...؟

مورافيا :
في ستة عشر عاماً ونصف، فمنذ سبتمبر ـ أيلول / 1925 كنت في أحد المصحات، وبعدها مباشرة ابتدأت كتابة اللامبالي.


* العالم :
الرواية ظهرت عام 1929.(ترجمت إلى العربية في مطلع الستينات ـ المترجم)

مورافيا :
انتهيت من الرواية عام 1928، وقبعت الرواية عاماً كاملا في أحدى دور النشر، وكانت الرواية قد أعجبت الناشر، ولكنه رجاني أن أساعده بتكاليف الطبعة الأولى، ودفع والدي 5000 لير، وهو ما يساوي اليوم خمسة ملايين لير(7000 مارك ألماني= 3500 دولار)

* العالم :
ومتى وضع الحظر على الرواية ؟

مورافيا :
إنها لم تحظر، بل سحبت للدراسة(نصيحة بالعدول عن النشر) وهو شكل الحظر في القانون الإيطالي، والحكومة الفاشستية(فترة حكم موسوليني) طلبت من دار النشر أن لا تعيد طبعها، ولكن خمس طبعات منها كانت قد صدرت وكل طبعة كانت ب 100 نسخة وهو ما يعد رقماً كبيراً في تلك الأحيان.

* العالم :
وهل تم ذلك بسبب أن الرواية سحبت للدراسة(نصيحة بالعدول عن ...) ؟

مورافيا :
نعم، فقد وجه النقد إلى الرواية، بأنها تروي أشياء سلبية وبأنها لا تعترف بجوانب البناء الفاشية. ونفس هذا النقد وجه إلى عمل روائي في أحدى البلدان الشيوعية. وقد قال شقيق موسوليني : أنني أريد أن أعلم فيما إذا كانت الشبيبة الإيطالية يجب أن تقرأ قصة ريماركو(بطل الرواية) الذي رفض الحرب العظمى، أو مورافيا الذي ينفي كل القيم الإنسانية. لقد كان هذا النقد ثقيلاً أليس كذلك ..؟ لقد كنت آنذاك في التاسعة عشر من عمري. لقد أدعى الفاشيون بأنهم ثورة كبرى، ولكنها لم تكن سوى نوعاً من ثورة ليست كبيرة، وعلى أية حال ليست ثورة حقيقية. وبساطة لم تكن سوى حركة سياسية مهمة، وهم لم يكونوا ليحتملوا الأفكار وهي أحداث تجري في عائلة، كما وصفتها في الرواية. ومع أن الأفكار التي تضمنتها لم تكن جديدة، شاب يريد قتل زوج أمه، أنه هاملت آخر.(11)

* العالم :
مختلفاً عن أغلبية المثقفين الإيطاليين، تعرفتم أنتم منذ عام 1924 على أخطار الفاشية، هل كانت تلك تجربة سياسية أم أخلاقية..؟

مورافيا :
الفاشية تختلف عن النازية، بمعنى أن ليس للأدب من أهمية في المقاييس، لا أحد يعتبر أن الشاعر هو إنسان مهم. وهم قالوا أن إيطاليا قد تغيرت، وهكذا كان يتوجب علي أيضاً أن أغير من صورة إيطاليا. والمؤشر لم يبدأ إلا عندما ابتدأت ألمانيا تمارس نفوذها القوي على إيطاليا. ومنذ ذلك الحين، كان الأمر يدور بما هو عبارة عن حوار صداقي ودي. وهم كانوا يقولون عني بأني متشائم، لكن دون أن يتخذوا إجراءات معينة أو مهمة معي، وبالمناسبة فهم لم يستطيعوا مصادرة الكتاب. إذن أن القوانين الليبرالية كانت ما تزال سارية.



* العالم :
يصف البعض رواية اللامبالي بالوجودية، واليوم تعد هذه من أولى الروايات الوجودية وقبل أعمال سارتر وكامو. وكان موضوعها هو الشعور بالغربة وبالملل والضجر. ولكن كلمة الوجودية لم تكن موجودة. .!

مورافيا :
هم كانوا أول من اعتبروها كذلك، وأنا أصبت في حينها قلب الحقيقة، إن الرواية صدرت قبل رواية سارتر "الغثيان" بعشرة سنوات، وأنا أريد أن أقول أن سارتر وكامو أضاعا عشرة سنوات من عمرهما في المدارس.

* العالم :
أنت اليوم في الثمانين من العمر، هل هذا السن يمثل مشكلة لألبرتو مورافيا ..؟

مورافيا :
ثمانين عاماً ؟ هذا كثير ...! أليس كذلك ؟ ولكن هذا السن لا يمثل مشكلة لي، الشيء الوحيد هو أن ليس بوسع المرء أن يضع خططاً كبيرة. إذ أن المرء لا مستقبل له، هذا هو كل شيء. أو أشياء نسبية جداً. وأنا أقول لنفسي بأنني في غضون خمسة سنوات، أو أربعة، أو ربما في العام القادم سأموت. سن الثمانين هي سن خطرة، ولكني لست مبالي، فأنا لست متعلقاً بالحياة، أقصد أن الحقيقة ليس هناك مستقبل لي، لذلك فإن للإيقاع اليومي أهمية عندي.

*    *    *    *

الرجل الذي يفجر الفضائح

كاتب، صحفي، نائب في البرلمان الأوربي، يمضي البرتو مورافيا وهو الأديب الذي تطبع كتبه بأكبر الأعداد وتترجم إلى لغات كثيرة، وكل وما يفعله شأناً وحديثاً للرأي العام لا سيما للفئات الأكثر رقياً. وكتبه التي تعد من أدب الجنس. وهو لا يستفز الفضائح ولا يسحبها، بل هو من بين القلة من الكتاب الذين يكتبون عما يطلقونه من أفكار أو عما يفعلونه شخصياً.

كسارتر في فرنسا، وهاينرش بيل في ألمانيا، يمثل مورافيا في إيطاليا وثقافة ما بعد الحرب شخصية أدبية بارزة، وهذا ما جعله أمام الرأي العام شخصية تحظى بالاهتمام ولكن هذه الشهرة كانت سبباً للمتاعب أيضاً.

يسكن البرتو مورافيا ببيت حديث بالإيجار، بيت لا يثير الأنظار، مثل سفينة أمام مرساتها، على ضفة نهر تيبر. ومورافيا ظل مخلصاً لروما، على الرغم من أنه يقر بأن المدينة لم تعد تطاق. وروما اليوم قد تكون أكثر جمالاً لو لم تكن مليئة بالسيارات.
وروما في الحقيقة ليست مركزاُ ثقافياً كباريس، ولم تكن كذلك أبدا. وأنه لم يعد هناك مجتمعاً بالمعنى الحقيقي، وقد تراجع الشعور المرهف، واللغة مقتصرة على الأشكال الفارغة وخلف ذلك تكمن اللاثقافة.

وفي البيت منعاً للشمس، يسوده الظلام، هي شقة كأي بورجوازي ولا شيء يشعرك أن رجلاً مهماً يسكن هنا، كما أن الشقة خالية من اللمسات الروحية. ومورافيا عندما يشعر بالضيق، يعتصم بعلته، بأنه ضعيف السمع..!

كان ودياً قبل إجراء الحوار مع صحيفة العالم Die Welt ، ولكن الصحفيين عندما يلحون ويكثرون أسئلتهم، يرهق مورافيا ولا سيما عندما يكون هناك مصور  يلتقط الكثير من الصور، فإنه يشعر بالحاجة إلى النوم فوراً، ولكن مورافيا كان حيوياً معنا، ويقظ روحياً، كان ودياً، وعندما يقع على حالة أصيلة، يضحك بشكل ساحر من خلال أسارير وجهه القلق.


هوامش التقرير

1. جان بول سارتر : 1905 ـ 1980 : فيلسوف وكاتب فرنسي، رفض جائزة نوبل، عضواً في الحزب الشيوعي حتى 1956. المترجم
2.فردريك هولدرين : 1660 ـ 1843 : شاعر ألماني مهم، كان يعاني من انفعالات نفسية مرضية، أنجز أعمال أدبية تعد من روائع الأدب الألماني.    المترجم
3 .إيمبيدوكليس  430 ـ 490 ق.م : فيلسوف يوناني وهو يرجع كافة الأشياء إلى أربعة عناصر: النار والهواء والماء والأرض.   المترجم
4 .جيمس جويس : 1882 ـ 1941 : أديب ايرلندي له بأسلوبه في كتابة الأدب(الرواية) في وعي عالم الأشياء، له  تأثير كبير على الأدب العالمي المعاصر.   المترجم
5 . فيودور دستوفسكي:1821 ـ 1881 : أديب روسيا الكبير، ساهم في الفعاليات الثورية الروسية، حكم عليه بالإعدام ثم خفض إلى السجن في سيبيريا، له أعمال كبيرة.     المترجم
6 . دون جوان : شخصية أسطورية، فارس علاقات نسائية وردت في أعمال درامية أسبانية (منذ عام 1665).    المترجم
7 . مزيفوا النقود : رواية مشهورة للكاتب الفرنسي المعروف أنوريه بلزاك  المترجم
8 . جوزف كونراد : كاتب ألماني معاصر تدور أعماله عن الحرب.  المترجم
9 . البير كامو 1913ـ 1960: كاتب فرنسي شهير نال جائزة نوبل عن روايته الطاعون . المترجم
10 . أي المرأة التي يحبها كلها بنقائضها، بالأشياء التي يرغبها والتي لا يرغبها. وهنا يحتاج  المرء فعلاً أن يكون مطلعاً على أعمال مورافيا، المهمة منها على الأقل للتعرف على رؤية مورافيا الحقيقية إلى نمط أفكاره، لا سيما في: السأم، اللامبالي، الاحتقار.  المترجم
11 . هاملت : بطل مسرحية  تحمل نفس الاسم، للأديب الإنكليزي الكبير وليم شكسبير. المترجم

*   *    *   *

مقابلة : مع الكاتب الإيطالي البرتو مورافيا
في : صحيفة " العالم"  Die Welt
الصادرة : ألمانيا بتاريخ 13 / يونية ـ حزيران / 1988
أجرى اللقاء : كريستوف غراف شفيرين
  

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3684 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع