خالد القشطيني
تابعت في الأيام الماضية سلسلة الـ«بي بي سي» عن نابليون وتعلقه بالموسيقى. لم أتمالك غير أن أشعر بالحسرة . حتى في الديكتاتورية والاستبداد يتميزون علينا ويذكروننا بتفاهة الديكتاتوريين الذين حكمونا وجهالتهم واستهتارهم.
كان نابليون من المتعلقين بالفن والأدب، وبصورة خاصة بالموسيقى. كثيرا ما كان يغني حتى أثناء المعارك الحاسمة. حضر حفلة موسيقية للموسيقار كارابيني ثم خرج وعلق على الحفلة وقال إن موسيقى كارابيني ثقيلة ويصعب تذوقها. نقلوا ما قاله لكارابيني فقال هذا إن نابليون قد يكون قائدا عسكريا بارعا ولكنه لا يعرف شيئا عن الموسيقى. تصوروا لو أن كاظم الساهر قال مثل ذلك عن صدام حسين. لم يحدث شيء وبعد سنوات أقدم الإمبراطور على منح أعلى شرف لكارابيني فقلده وسام اليجون دانور.
كان نابليون قد عين الموسيقار الإيطالي زنغرلي موسيقيا للبلاط. اقتضى ذلك أن يؤلف أعمالا موسيقية للمناسبات الرسمية. كان نابليون قد عين ابنه ملكا على روما. فكلف زنغرلي بتأليف قطعة موسيقية تخلد الحدث. فأبى ورد عليه قائلا إنه لا يعترف بأي أحد ملكا على روما غير قداسة البابا الذي كان نابليون قد اعتقله. لم يتخذ نابليون أي إجراء ضد الموسيقار غير أن أحاله للتقاعد ودفع له 14000 فرنك منحة ليعود بها معززا مكرما إلى مدينته روما.
بيد أن قصة نابليون مع بتهوفن تعطينا درسا رائعا عن احترام الفن والفنانين. كان قد طرح نفسه على الرأي العام بكونه ابن الثورة وحامل راية الحرية والإخاء والمساواة؛ مبادئ الثورة الفرنسية. رحب به معظم الفنانين والمفكرين على هذا الأساس. كان منهم بتهوفن الذي انكب على تأليف سيمفونية كاملة تمجيدا له. وسماها السيمفونية البطولية (ارويكا) بيد أن ابن الثورة هذا مضى وتوج نفسه إمبراطورا على أوروبا. ما إن سمع بتهوفن بذلك حتى استشاط خيبة وغضبا. تناول الدفتر ومزق اسم الارويكا من السيمفونية ثم قدمها للجمهور باسم السيمفونية رقم 3. لا شك أن الإمبراطور سمع بذلك ولكنه التزم الصبر والصمت. حدثت القطيعة بين الرجلين، الإمبراطور والموسيقار. ومرت الأعوام فخرج بتهوفن يوما مع الأديب الألماني الكبير غوته يتفسحان في الغابة السوداء التي اشتهرت بكثافة أشجارها. سارا في ممر ضيق لا يسمح لأكثر من شخصين في السير. وبينما كانا يسيران لمحا الإمبراطور نابليون بونابرت يمشي نحوهما في الطرف الآخر من الممر. مما لفت نظري أن هذا الإمبراطور العظيم الذي فتح أوروبا وقهر شعوبها كان يمشي وحده من دون حرس أو مرافقين أو مخابرات. اقترب غوته وبتهوفن منه. لم يملك غوته غير أن يتنحى جانبا ليفسح المجال للإمبراطور بالمرور. وعندما مر أمامه انحنى له احتراما وإجلالا. أما بتهوفن فقد واصل السير غير مكترث دون أن يفسح المجال له. وعندما اقترب منه تنحى نابليون جانبا ليعطي الموسيقار فرصة المرور. مر هذا أمام نابليون دون أن يحييه. ولكن نابليون أسرع فانحنى هو له بخشوع وإجلال.
لقد سبق لبعض القراء أن اتهموني بالانبهار بالحضارة الغربية. وهذا صحيح. لا يسعني غير أن أنبهر بالحضارة التي يطأطئ فيها برأسه مثل هذا القائد الجبار وينحني بإجلال لواحد موسيقجي.
1424 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع