الدكتور صبحي ناظم توفيق
(عميد ركن متقاعد- دكتوراه في التأريخ العربيّ الإسلامي)
مذبحة كركوك (تموز/1959) كما عشتها بأيامها الثلاثة
مقدمة
في مقالتي السابقة التي نشرها هذا الموقع الأغر، تطرقت إلى المختصر والمفيد عن الأوضاع التي فرضت أوزارها في مدينتي العزيزة "كركوك" بعد إنقلاب (14/تموز/1958) وخلال النصف الأول من عام (1959) إثر إستحواذ الشيوعيين واليساريين على أمورها، والذين مهّدوا لأول وأعنف مجزرة شهدها العراق بحق "التركمان" في تأريخه المعاصر، والتي تسببت في إنقلاب مشاعر "الزعيم عبدالكريم قاسم" حيال الشيوعيين واليساريين وإتخاذه خطوات جدّية ومواقف مشهودة للحد من تطلّعاتهم للإستحواذ على السلطة.
وقد أنتقدني البعض من القراء والمتابعين الكرام في مداخلاتهم وتعليقاتهم حول ما أوردته في تلكم المقالة، وأسعدتني مداخلاتهم القيّمة وشهاداتهم الغالية التي شرّفوني بها، بمن فيهم الأخ العزيز الذي أطلق على شخصه تسمية (avesta)، على أن ما كتبتُه ليس سوى مقال سياسي لا يستند على وثائق.
وفي الوقت الذي أعترف أن مقالتي تعتمد على مشاهدات شخصية لشاب (تركماني) كان بعمر (14) سنة لا يمتلك وثائق في حينه وما زال، ولم يكن مبتغاه سوى كشف حقائق مطمورة بعد أن تجاوز العقد السابع من عمره.
وفي الوقت الذي أعدّ نفسي ((مصدراً وشاهد عيان)) لهذه الأحداث الجسام، وأتحدث بصيغة المتكلّم وليس قيل هكذا وقال ذاك وسمعتُ ذلك... فإذا كان الأستاذ (avesta) يمتلك وثائق تأريخية أو حتى شهادات شخصية مغايرة يستطيع عرضها ليفنّد بها ((ما شوّهتُه أنا من سمعة كل المكونات الموجودة في كركوك لحساب مكون واحد هم "التركمان" فقط)) -كما قالها نصاً- ولكي لا ينطلي على أحد -كما طرحه نصاً- فليتكرم بها عليّ ويعرضها أمام أنظار متابعي هذا الموقع لأتراجع عن مزاعمي وإدعاءاتي ومواقفي حيال جملة الحقائق التي عشتُ ساعاتها.
لذلك أعود إلى القراء الكرام بهذه المقالة لأسهب في بدء هذه المجزرة بحق التركمان في عقر ديارهم منذ مساء (14/تموز/1959) وتلك الساعات الكئيبة التي عشتها والمناظر المرعبة والمروّعة التي رأيتها بأم عيني لثلاثة أيام متلاحقات.
إحتفالات "كركوك" بمناسبة 14/تموز/1959
غمر الفرح نفوس جميع التركمان في مدينتهم "كركوك" ومعظم بقاعهم ذات الأغلبية، معتبرين إبعاد قائد الفرقة الثانية "الزعيم -العميد- الركن داود سلمان الجنابي" ضربة بحق شيوعيّي "كركوك" ويساريّيها، فرِحين ومتفائلين بعودة مُبعَديهم ومنفيّيهم إلى أحضان عوائلهم فضلاً عن إطلاق سراح معتقليهم بمثابة ((نصر)) لصالحهم و((إلتفاتة كريمة)) من لدن ((الزعيم الأوحد عبدالكريم قاسم)) بحقهم بمناسبة قرب حلول الذكرى السنوية الأولى لـ((الثورة المباركة)).
الزعيم (العميد) الركن داوود سلمان الجنابي قائد فرقة المشاة الثانية في "كركوك" للفترة (آذار-حزيران/1959)
التركمان يشاركون بالإحتفالات
ولكل ذلك قرر التركمان -ومن دون أية ضغوط حكومية في العلن- أن يحتفوا ً بكل ما أوتوا من إمكانات ويشاركوا جدياً بالإحتفالات التي ستعمّ جميع العراق من أقصاه إلى أقصاه، لتفادي كسب سمعة غير حسنة في رؤية النظام الحاكم وشخص ((زعيم العراق الأوحد)) فيما لو إمتنعوا عن إجرائها... ولذلك جُمِعَت لهذا الغرض مبالغ طائلة من جيوب التركمان الأثرياء والموظفين وحتى من ذوي الدخل الوسط في تسابق مشهود حيال الشيوعيين واليساريين والقاسميين في هذا الشأن، لضرورات إظهار التركمان بمظهر إحتفالي أفضل من خصومهم، فلذلك عمل الحدادون والنجارون والخطاطون والرسامون ليل نهار سراعاً طيلة أيام وليالٍ، فرُفِعَت عشرات الأقواس ونُصِبَت أمثالها من السرادقات وهُيِّئت الآلاف من اللافتات، ولم يتأخر سوى القليل منهم ممّن لم يفصّل لشخصه وأبنائه وبناته لدى الخياطين الساهرين والخياطات الساهرات ملابس تركمانية تقليدية، فيما إستحضرت الفتيات والصبايا مرتدياتهنّ المزهوة بالألوان والزخارف والورود، في حين أقدم الجميع -كل على نفقته- لتنظيف واجهات المساكن والمحال التجارية والمكاتب المطلّة على الشوارع الرئيسة التي ستخترقها المسيرات وتلك الساحات التي تحتشد فيها المحتفلون والمحتفلات، وذلك في وقت شكّل التركمان فيه لجاناً شعبية للقرار على شخوص الذين ينبغي إشراكـهم بالمسيرات المركزية الرسمية المقررة وسط "كركوك" وأقضيتها ونواحيها، والعبارات التي ستُدرج على اللافتات وتلك التي تُطلَق وسط الهتافات، كل ذلك فضلاً عن تنظيم إحتفالات شعبية يحضرها الجميع في موقع محدد وسط كل حي سكني كبير من "كركوك" وتُذبَح فيه الأغنام وتُطبَخ لحومها ويتم تناولها ظهراً.
نـهار (14/تموز/ 1959)
لم يعكّر صفو تلكم الإستحضارات الهائلة سوى إشاعات سرت في عموم "كركوك" مفادها أن حدثـاً مُريعاً سيفرض أوزاره على تركمان المدينة يوم (12/تموز-الذكرى السنوية/13 لأحداث "كاوور باغي") التي وقعت عام (1946)، وسماعهم بأن العديد من الأثرياء الأكراد قد غادروا "كركوك" مع عوائلهم إلى مدن ومناطق أخرى، وقد لاحظ الجميع وجود إشارات عشوائية غير منتظمة بالطلاء الأحمر قد ثُبِّتَت بالفرشاة على عدد من أبواب المساكن، سواءً في "قلعة كركوك" أو أحياء "المصلّى، بيريادي، شاطرلو، شارع أطلس" وسواها.
وعلى الرغم من تشاؤم البعض فإن ذلك اليوم قد إنقضى بسلام من دون حادث يُذكَر،،،، ولذلك تدفَّقت الجماهير الفَرِحة مع إطلالـة صبيحة (الثلاثاء-14/تموز/1959) كلٌّ إلى الموقع المحدد له للإحتفاء، حيث دَقّ الطبول التراثية والعزف على المزامير وأداء الرقصات الشعبية والأغاني الفولكلورية والأناشيد الوطنية بملابس تركمانية تقليدية موروثة كانوا يؤدونها تحت عشرات الأقواس التي كتبت عليها عبارات شبه موحدة باللغتين العربية والتركمانية تمحورت بشكل عام حول ((تركمان العراق في محلة "؟؟؟؟؟؟" يهنئون زعيمهم الأوحد بالذكرى الأولى لثورة 14/تموز المباركة))، فوُزعت أقداح الشرابت المتنوعة عليهم قبل أن يتناولوا طعام الغداء من لحوم الخرفان المطبوخة والمشوية وسط أرغفة الصمون وخبز التنور والصاج ثم البقلاوة وأنواع من الحلويات، وقبل أن يتوجّه معظمهم رجالاً ونساءً وفتياناً وصبايا وقت العصر إلى حيث يفترض أن يتنعموا بمشاهد الإحتفالات والمسيرة المركزية التي ستنطلق من قرب "مركز شرطة إمام قاسم" بحلول وقت العصر من ذلك اليوم المُحرق.
مساء (14/تموز/1959)
كنت بالرابعة عشر من عمري وبصحبتي أخي الأصغر "موفق" وصديق عمري "نجدت قاسم بك الصالحي" وقد عثرنا على بقعة محدودة من سياج "جسر كركوك الجديد"، نترقّب إنطلاق المسيرة التي ستتبع الشارع المحاذي للقلعة ونـهر "خاصه صو" وصولاً إلى مدخل الجسر من إتجاه السوق الكبير، حيث تجتاز الجسر نحو "شارع أطلس" حتى تتفرّق عند الوصول إلى نهايته بمنطقة "أحمد آغا"،،، كانت غايتي الأعظم -ناهيك عن مشاهدتي لمسيرة بهذه الضخامة للمرة الأولى في حياتي- أن أرى خالَيَّ المحاميين "سيد فاضل وسيد ناظم الصالحي" وهما يرتديان العباءة السوداء وسط كردوس محامي "لواء/محافظة كركوك" الذي ضمّ أصدقاءهما من المحامين المعروفين أمثال "عطا ترزي باشي، محمد الحاج عزت، حبيب الهرمزي، عبدالحميد محمد علي" وآخرون.
صورة جامعة لأبرز محامي "كركوك" في أواسط الخمسينيات، ومن بينهم خالي "سيد فاضل الصالحي" -الثاني من اليمين يليه "عطا ترزي باشي" وقوفاً... و"حبيب الهرمزي" -البارك الأيمن- و"معروف عبدالكريم البرزنجي" البارك الأيسر والذي سيتّهم بالتخطيط لمجزرة "كركوك-1959" والإشراف على تنفيذها قبل أن يُحكَم عليه بالإعدام.
إنطلقت المسيرة بحدود الساعة الخامسة والنصف عصراً، وفي مقدمتها سار الجوق الموسيقي العسكري، تتلوه سيارات وكراديس تحمل أسلحة متنوعة من وحدات الجيش والشرطتَين السيارة والمحلية وهي تسير بإنتظام، تبعها كردوس مسلّح من "المقاومة الشعبية"، وقبل أن تعبر أمامنا كراديس نقابات العمال والفلاحين والمنظمات الشعبية، ثم أرباب الحرف المختلفة.
ولكن الذي جلب أنظار الجميع -على عكس ما كان متوقعاً- أن معظم المشاركين في هذه المسيرة (المنظّمة والمُسَيطَر عليها) كانوا تركماناً وعدم وجود أكراد بارزين من سكنة "كركوك"، وبالأخص أولئك اليساريين الذين يفترض مشاركتهم بثقل وكثرة وبأس، كون ((الثورة المباركة)) جاءت لصالحهم وخدمتهم أعظم بكثير من غيرهم، ولربما كانوا مُبَلَّغين بأمر ما مخطّط له.
أول الغـيـــث قَـطْـرٌ
كانت الساعة مشيرة إلى السابعة وعشر دقائق مساءً وقد مالت الشمس إلى المغيب، وقتما كان كردوس المحامين ذوي العباءات السوداء المزدانة بالبعض من الشرائط الملوّنة على وشك المرور من أمامنا، حتى توالت الأحداث المرعبة سراعاً على النحو الآتي:-
• فوجئنا بإطلاقتين سمعنا صوتَيما من إتجاه "شارع أطلس"، ومعهما إستشعرنا وكأن يوم الحشر قد حلّ بين ظهرانينا.
• تفرّقت الكراديس -التي كانت سائرة بكل إلتزام وإنضباط- وقد إقتحمها أُناس غرباء -وكأنهم متفقون على شيء ما مُسبَقاً- أتوا ركضاً من إتجاهين متعاكسَين –وهم يرتدون ملابس كردية أو مقاومة شعبية- نازعين العصي التي تحمل اللافتات محوّليها إلى هراوات لضرب الناس عشوائياً على رؤوسهم وأجسادهم وأطرافهم.
• خُلِعَت الخناجر والسكاكين المخبّأة وراء أحزمتهم القماشية راكضين ومهوُوسين وراء المشاركين في المسيرة والذين تركوها مُهرولين نحو كل الإتجاهات، في حين تصاعدت صليات الرشاشات وإطلاقات المسدسات والبنادق تنطلق بغزارة من هنا وهناك.
• إختلط الحابل بالنابل بَغتةً، وإندفعت حشود من الرجال والشباب وسط عويل النساء وبكاء الأطفال وحيرتهم متدفقة من إتجاه "شارع أطلس" نحو الجسر الجديد والسوق الكبير وقلعة "كركوك" والصوب القديم.
• أمسكتُ بيدَيَّ سياج الجسر بقوة كي لا أسقط على الأرض، ناظراً إلى أخي الأصغر "موفق" ساقطاً على الرصيف بفعل ذلك المـَوج البشري الهائل وسط موجات من الأحذية والأقدام العارية تدوسه قبل أن ينهض راكضاً نحو السوق الكبير، فيما شاهدتُ صديقي العزيز "نجدت قاسم بك الصالحي" قافزاً من فوق الجسر نفسه وسط أكوام من الحصى التي يمتلئ بها "نـهر خاصة صو" الخالي من الماء في هذا الموسم، ثم نهض راكضاً وغاب عن نظري بين الحشود الهَلِعة بإتجاه "كراج الحَويجة".
• بدأتُ أصرخ كالمجنون نحو "موفق ونجدت" من دون جدوىً حتى فقدتُ أثرهما، فراودتني تساؤلات لم أستطع إجابة ذاتي عليها:-
- ماذا لو لم أعثر عليهما وقد أُودِعـا أمانة بين يديّ كوني أكبر منهما عمراً؟؟؟؟!!!!
- وبماذا سأجيب عائلة "نجدت" وأبي ووالدتي لو عدتُ إلى البيت من دونهما؟؟؟!!!
- وبأي وجه أقابل الجميع لو فُقِـد أثرهما ولم يعودا؟؟؟!!!
- وهل أعود الآن إلى البيت، أم أظل في الطرقات وسط هذه الإطلاقات والهرج الذي أصاب كل الناس؟؟؟!!!
عودتي للبيت لاهثاً وخائباً
هرعتُ نحو "السوق الكبير" ناظراً بهلع نحو عدد من أزقته قبل أن أعود لأُغيّر إتجاهي إلى "محلّة جاي" وقد خَفَّتْ الشوارع من السيارات والمـارّة قبل أن تُخلى تماماً حتى من كلاب الشوارع الوسخة والقطط السائبة بإستثناء من كانوا قد أُبتـُلوا مثلي وضيّعوا أعزاءهم، وإختبأ الجميع في البيوت وأغـلقوا أبوابها، حيث لم أكن أرى سوى عدد من النساء اللواتي كُـنَّ يترقّبنَ بعيون جاحظة من وراء الأبواب أو النوافذ أو من ثقوب في أسيجة سطوح مساكنهنَّ عودة أبنائهن وبناتهن وأزواجهن، ويسألني البعض منهنَّ مرتجفات بأعلى أصواتـهن عمّا حدث ويحدث ولكن من دون أن أقتدر على إجابتهنَّ، فقد كان قلبي يخفق بشدة وبالي منشغلاً بحلق خلا من اللعاب بِغَمٍّ أثقل بكثير ممّا هنَّ عليه.
كنتُ ألهثُ كالكلاب العطشى وأركض بلا وعي وأنظر هنا وهناك في كل زقاق أجتازه من "محلّة الجاي" لعلّني ألحظ "نجدت" أو "موفق"، وقد جفَّ في حلقي اللعاب وتصاعد خفقان قلبي المتسارع بُعَيدَ المغيب وحلول بوادر الظلام، حتى بلغتُ "محلّة المصلّى" حتى إستشعرتُ بيداي تكيلان بضربات غير معهودة على باب مسكن "قاسم بك الصالحي" المطل على "حديقة المصلّى" الواسعة،،،، وكم كانت فرحتي -النسبية- لحظة أجابَتني أخته الكبرى "باكيزه آبلا" بصوت مبحوح من فتحة الباب عن وصول "نجدت" سالماً.
هرعتُ نحو بيتي لأجد والدتي المرتجفة وكأنها تحترق لتأخري كثيراً وسط أصوات الآلاف من إطلاقات الرشاشات والبنادق التي عمّت أجواء "كركوك" وذلك قبل أن أحمد العلي القدير لبلوغ "موفق" قبلي سالمـاً،،،، حيث لم يَبقَ سوى أبي الذي كنا نترقّب من سطح منزلنا عودته سائراً على قدميه وقد إصفرّ لونه وبدا كـ"الكُركُم"، ولم يتنفس الصعداء حتى إطمئن من سلامة عودتي و"موفق" ووقوفنا أمام ناظرَيه قبل أن يحتضننا بدموعه الغزيرة.
ليلة (14-15/تموز)
عمّ الظلام الدامس تلك الليلة العراقية-الكركوكـيّة المشؤومة بمناسبة الإحتفالات الكبرى لإنقضاء العام الأول على ((ثورة تموز المباركة)) و((إستشهاد الملك المحبوب فيصل الثاني والعائلة الملكية)) على أيدي تلك الحفنة من الضباط المجرمين بحق العراق والذين تسببوا في تحويله من وطن هادئ آمن مشهود بإستقراره إلى جحيم لا يُطاق، وها نحن التركمان في "كركوك" نحصد أوزار غدرهم وسوء فعلتهم في تلك الساعات التي بدأت سيارة عسكرية متوسطة الحجم -على شكل صندوق- في أول الليل من طراز "شفروليت"، طالمـا تعوّدنا على تجوالها طيلة أشهر خلت، وهي تحمل على سطحها مكبرة صوت مُعلنةً حظر التجوال العام في مدينة "كركوك" بأجمعها وإلى إشعار آخر.
ولكن الحظر سوف لا يشتمل سوى التركمان لوحدهم من دون الآخرين كونهم مكلّفين بتنفيذ ((مهمات ثورية خاصة))، حيث بادر أفراد من ((المقاومة الشعبية والشيبية الديمقراطية وأنصار السلام)) يمتطون شاحنات عسكرية ومدنية مخترقين الشارع الرئيس لـ"محلة المصلّى" ملوّحين بحبالهم وأسلحتهم ومطلقين نيرانها نحو السماء وهم يصرخون كالمجانين وبأعلى حناجرهم هتافاتهم المعهودة-المشؤومة، وأبرزها ((ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة)) و((الحزب الشيوعي بالحكم... موتو يا رجعية)).
وفي تلك الليلة توقّف ضخ الماء الصافي إلى البيوت وإنعدمت خدمة الهواتف، فإنغلق الناس في بيوتـها يائسين وبائسين وحائرين لا يدرون ولا يستهضمون ما يجري في ربوع مدينتهم للمرة الأولى في حياتهم وليس بإمكانهم معرفة أي شيء عن مصائر أقربائهم، وقد إنقطعت الطاقة الكهربائية عن الشوارع والبيوت لتغرق "كركوك" وسط ظلام دامس وصمت مُرعِب لا يخترقهما سوى إشتعال سمائها بصليات الألوف من الإطلاقات المُذَنَّبة المتتالية والمتصاعدة نحو الأعالي من فوهات الرشاشات والبنادق، مصحوبةً بعدد من إنفلاقات القنابل والمتفجرات، وقد توسطتها مخاوفنا على والدي قبل إنشغالنا على مصائر الأعمام والأخوال والأقرباء والأصدقاء الذين يحتمل أن يكونوا مُستهدَفين.
ولكن الذي أراحنا بعض الشيء في ساعة متأخرة نسبياً من تلك الليلة حين بعث "الحاج شاكر ملاّ جدوع" بولده "عبدالواحد" لينقل لنا نصيحة إلى أبي بضرورة إنتقالنا جميعاً إلى مسكنهم القريب من منزلنا، كونه يقع وسط زقاق بعيد عن الأنظار مقارنةً مع بيتنا الواقع على الشارع الرئيس لمحلّة المُصلّى،،،، ومع ذلك لم يستطع معظمنا تناول لقمة خبز واحدة أو الخلود إلى مجرد غفوة.
نهار (الأربعاء- 15/تموز/1959)
بانت صبيحة اليوم التالي وقتما علمنا أن حضيرة من الجيش يتجاوز عددها (10) جنود يتجولون فوق سطح "مدرسة المصلّى الإبتدائية" ناصبين رشاشتين نحو شارعنا، وسنعلم بعدئذ أنـهم من مراتب لواء المشاة الجبلي/4 المعروف -وقتـئذٍ- بكون قائده وضباطه وغالبية منتسبيه من الشيوعيين أو اليساريين،،،، ولكن -والحق يُقال على قـدر ما شاهدته خلال ذلك النهار- أنهم لم يقدِموا على إيذاء أحد من سكنة المنطقة والشارع الرئيس الفاصل بين محلّتَي "المصلى وجقور".
طائرة "فيوري" في سماء "كركوك"
بعد ظهر ذلك اليوم وحالمـا طرق أسماعنا هدير محرك طائرة فقد هرعتُ -كعادتي- إلى سطح منزل "الحاج شاكر" لأشاهد طائرة مقاتلة من طراز "فيوري" وهي تحوم بإرتفاع منخفض للغاية ولمرات عديدة حوالي "قلعة كركوك" وفي سمائها،،، وإعتقدتُ في حينها أنـها عازمة على قصف هدف ما، ولكنها لم تفعل بل عادت بعيداً هابطة في "مطار كركوك العسكري"، وسيكون لهذه الطائرة دور إيجابي في هذه المجزرة سنتعرف عليه بعدئذ، وسأتحدث عنها في مقالة لاحقة.
إنتقالنا من محلّة "المصلّى"
عصر ذلك اليوم (الأربعاء-15/تموز) فوجئنا بعمّي "مفوض الشرطة سامي توفيق بك" واقفاً بسيارة شرطة محلّية مسلّحة برشاشة نُصِبَت فوقها، وبصحبته الشرطي الكردي "فائق"، ولمـا جلس مع والدي و"الحاج شاكر" كانت الدموع تغمر عيناه وهو يتحدث عن مشاهداته ومسامعه عن مذبحة عظيمة وتمثيل بالجثث وسحل آدميين وهم أحياء وتقطيع أوصالهم حتى الموت، وقد دارت في شوارع "كركوك" وأحيائها وطالت وجهاء وأشرافاً وشخصيات ومواطنين تركمان عديدين، ذكر منهم "قاسم بك نفطجي، الأخوان عطا وإحسان خيرالله، جاهد فخرالدين، الأخوان صلاح الدين ومحمد آوجي، عثمان خضر جايجي، زهير جايجي، ، وثلاثة من أولاد المختار فؤاد"، ناهيك عن إقتحام دور السينما والمحال التجارية العامرة ونـهب محتوياتـها قبل أن يضرموا النار ويحرقوها عن بكرة أبيها،،، كل ذلك قبل أن يطلب العم "سامي" من والدي -ونحن معه- أن ينقلنا جميعاً إلى مسكنه الكائن مقابل المستشفى الجمهوري في شارع الثورة/طريق بغداد كون بيته خاضعاً لبعض الحماية المسلّحة وكي نكون مع عائلته مجتمين حيث لا يستطيع هو التواجد فيه.
مشاهـد لا ولم ولن أنساها
في طريقنا بسيارة الشرطة تلك من "محلّة المصلّى" عبر "محلّة جـاي" ولدى إجتيازنا الجسر الجديد، وبينما كانت أصوات الإطلاقات عن بُعد ما زالت تلعلع في طبلات آذاننا منذ مساء أمس وطيلة نـهار اليوم، فقد شاهدتُ جثتين مُنتفختَين معلَّقَتَين على عمودين من الجسر مع جثة مشابهة ثالثة مرميّة في مدخله وحواليها عدد من الكلاب السائبة يهرش بها!!!؟؟؟ إذْ حاولت إشغال إخوتي الصغار كي لا ينظروا إلى تلكم الجثث.
هذا وعلى الرغم من إنخراطي بعد سنتين من ذلك التأريخ في المسلك العسكري وخوضي معارك شرسة ومشاهداتي لمئات بل لآلاف الشهداء والجثث الـمتهرئة سواءً كانت لأصدقائي وزملائي وجنودي أو حتى لأعداء خلال خدمتي ضابطاً في صنف المشاة الآلي الصعب وسط العديد من تشكيلات الجيش العراقي لـ(3) عقود متتالية، إلاّ أن ذلك المشهد الذي صادفته عصر (الأربعاء-15/تموز/1959) لم أستطع نسيانه لغاية تسطيري لهذه الصفحات بعد إنقضاء حوالي (58) سنة على وقائعه.
تَرَكَـنا "العم سامي" في مسكنه عائداً إلى عمله الصعب في ذلك اليوم العصيب، وإستقرينا ببيته ومشهد الشهداء المنتفخين والكلاب التي تهرش أجسادهم لا يفارقني، فيما أضافت قرينته "السيدة بلقيس شكري بك الصالحي" عن مشاهدة أهل محلّتهم بعد ظهر ذلك اليوم لجنديين يحملان على ذراعيهما شارة "الإنضباط العسكري" الحمراء وهما يدفعان أمامهما شاباً في مقتبل العمر مشدود العينين والذراعين حتى أوصلاه إلى حافة نـهر "خاصة صو"، فشهر أحدهما مسدسه وأطلق رصاصتين في رأسه قبل أن يعود أدراجه مع زميله تاركينه نهشاً للكلاب السائبة.
إخلاء قلعة كركوك
مساء اليوم نفسه (الأربعاء-15/تموز) فوجئنا بعودة "العم سامي" وبصحبته جدّتي العجوز وعمّاتي الثلاث اللواتي كُنَّ يسكنَّ بمنزل جدّي المرحوم "توفيق بك" وسط "قلعة كركوك"، فقد أقدَمَت "المقاومة الشعبية" -وبتدخّل البعض من الأكراد الساكنين هناك- بعد ظهر ذلك اليوم على إخلائها بالكامل من جميع ساكنيها رجالاً ونساء وشيوخاً وأطفالاً، تحت ذريعة أن عدداً من الضباط التركمان معتصمون في مبانيها العالية والمطلّة على مدينة "كركوك"، وإحتمال تعرّض القلعة خلال ساعات إلى قصف مدفعية الجيش وطائراته،،، وقد أرغموا أهالي القلعة على ترك منازلهم والتجمع في الحديقة العامة الواقعة خلف مركز شرطة "إمام قاسم" القريب من الجسر الكونكريتي القديم، ذلك المركز الذي هاجمته جموع من الشيوعيين واليساريين ونـهبوا جميع أسلحته في أولى لحظات الشروع بتنفيذ خطة المذبحة مساء أمس (14/تموز).
نهار (الخميس-16/تموز) وبشائر التهدئة
ورغم الإزدحام المفاجئ بذلك البيت بإضافة ما مجموعه (10) أفواه آكلة وشاربة إلى (5) أفراد تتكون منها عائلة العم، ووسط إنقطاع المـاء والكهرباء في صيف (تموز) القارض وإنعدام المواد الغذائية والخبز وغلق البقاليات والأسواق أبوابها وسط جميع الأحياء التركمانية من "كركوك"، فقد رقدنا الليل مُتعَبين ولكن بعد أن خفَّ حدّة إطلاق النيران عمّا كان عليه ليلة (15-16/تموز) الفائتة ونهار يوم أمس (الأربعاء-15/تموز)، بل وتدنّى أكثر بكثير حين إستيقظنا صباح اليوم التالي (الخميس-16/تموز)، وقتما عاد إلينا "العم سامي" ليبشّرنا بورود أخبار شبه موثوقة عن تحرك كتيبة مدرعات تابعة للجيش من "معسكر جلولاء" في طريقها إلى "كركوك"، ويُقال أن عدداً من ضباطها قد وصلوا إلى ناحية "تازة خورماتو"، ولربما تتكامل الكتيبة مساء اليوم أو صباح يوم غد وتخترق مدينتنا لفرض الأمن والأمان المفقودين فيها.
مدرعات الجيش في "كركوك"
منذ مساء (الخميس-16/تموز) إستشعرنا بهدوء مفاجئ وبشكل مُريب، وظنَّ البعض منا أنه قد يكون ((هدوءاً يسبق العاصفة)) في توقّع منطقي أن هؤلاء ((الأبطال الأشاوس)) الذين حققوا سيطرة مطلقة على "كركوك" ليومين متتاليين وإقترفوا مثل هذه الأعمال المرعبة وأهدروا تلك الدماء ومثّلوا بالجثث وقطّعوا أوصال البعض منها وأحرقوها، فإنهم من القوة والبأس بحيث لا يمكن أن يتركوا "كركوك" التي إستباحوها عن سبق إصرار وترصّد ولا يقاوموا كائناً من يكون، لا سيما وأنهم يمتلكون من السلاح والعتاد والوحدات العسكرية المُسَيطَر عليها والمعنويات المفترضة ما يكفي لمقاومة جيش متكامل لا مجرد كتيبة مدرعات واحدة، إذن فالمواجهة يوم غدٍ متوقّعة ولا ريب في ذلك!!!!؟؟؟؟
ولكن، مع حلول ظهيرة يوم (الجمعة-17/تموز) إنعدم إطلاق النار نهائياً، وقبل أن يحين وقت العصر بانت أولى مجاميع المدرعات التابعة لفرقة المشاة/3 التي قيل أنها قد غادرت "معسكر جلولاء" صبيحة اليوم نفسه، وقد شاهدنا عدداً من الشبان التركمان يصاحبون البعض منها ويركضون حواليها مرحّبين، ولكنهم لم يكونوا سوى القلّة الذين تجرأوا على مغادرة مساكنهم في ذلك الظرف العصيب،،، تلك المدرعات التي إقتدرت بسهولة بالغة التمركز حوالي مقر الفرقة ومراكز الشرطة والدوائر ووسط الساحات والمواقع الحساسة في مدينة "كركوك" ومداخلها، في حين إستطاع ضباطها ومراتبها تجريد منتسبي لواء المشاة الجبلي/4 وسرية الإنضباط العسكري للفرقة/2 ضباطاً ومراتب من جميع أسلحتهم، بينما لاذ أفراد الميليشيات المسلّحين والذين إقترفوا تلك الجرائم البشعة بالفرار إلى حيث أُستُجلبوا منه لتنفيذ المجزرة إلى جانب عمليات النهب والسلب والسرقات والحرق، وآخرون إختبأوا في جحور مساكنهم أو وسط مواقع محددة أخرى كانت مهيّأة لهم مسبقاً.
ولسوف لن تمضي أيام معدودات لـيُقبض على معظمهم في الضواحي الشمالية من "كركوك"، وآخرون بعد إنقضاء أسابيع فحسب، ولا يبقى إلاّ عدد منهم سيهربون بعيداً إلى هنا أو هناك وينأون عن الأنظار، ومن لا يُقبَض عليه من المجرمين لمحدودية الشهود والبراهين أمام المحاكم العسكرية الخاصة أو لعدم ثبوت الأدلّة القضائية بحقّه، فإن أيادٍ تركمانية شجاعة -حالمـا يتنفّس أصحابها الصعداء- ستحقق في شخوصهم عدالة السماء بعد إنقضاء بضعة أشهر فحسب.
ولكننا سنعرف بعدئذ أن أولئك القتلة المجرمون قد حققوا جلّ غاياتهم وذبحوا كل من أدرجوه وسط قوائمهم وجداول إستهدافاتهم، وأن المدرعات تلك ووحدات المشاة من الجيش التي توالت على "كركوك" لاحقاً قد تأخرت، ولربما بشكل متعمّد أو سواه، وقد يكون السبب الرئيس في ذلك تباطؤ "عبدالكريم قاسم" في إصدار أوامره بتحريكها من معسكراتها الأصل نحو "كركوك" والإنتشار فيها إبتغاء إنقاذها.
شهداء مذبحة "كركوك"
ثبت على وجه اليقين طبياً وقضائياً أن (25) تركمانياً قد أُستُشهِدوا فيما جُرِحَ أو أُصيبَ (130) كلّهم من دون إستثناء من التركمان في الأيام الثلاثة التي إستغرقتها المذبحة، وجلّهم في ليلة 14/15 ونهار (15/تموز) والقلّة يوم (16/تموز)، وقد لقوا مصارعهم إما رمياً بالرصاص أو بضرب الفؤوس على رؤوسهم قبل أن يُسُحلوا بالحبال، أو أنهم رُبِطوا بالحبال وهم ما زالوا أحياء وسُحلوا جرياً على الأقدام أو بالسيارات في الشوارع والأزقة حتى فارقوا الحياة ثم مُثِّلَت بجثثهم أمام أنظار أهالي "كركوك" وقبل أن يُعَلَّـقوا على الأعمدة سواءً في مدخل قيادة الفرقة/2 أو عند بوابة سرية الإنضباط العسكري أو على أعمدة جسرَي مدينة "كركوك" أو أن جثامينهم قُذِفت وسط ساحاتها أو أُلقِيَت في مقابر جماعية، ومنهم من فُقِدَ أثره ولم يُعثَر عليه لغاية يومنا هذا.
وفي أدناه أسماء الشهداء:-
1. عثمان خضر جايجي،،،، صاحب مقهى 14تموز في شارع أطلس، وأول الشهداء عند بدء المجزرة مساءً.
2. الرئيس أول/الرائد المتقاعد عطا خيرالله.
3. المقدم الطبيب إحسان خيرالله.
4. سيد غني النقيب،،، خال الشهيدين عطا وإحسان خيرالله.
5. قاسم بك النفطجي.
6. صلاح الدين آوجي.
7. محمد آوجي.
8. زهير عزت جايجي.
9. جاهد فخرالدين.
10. جهاد فؤاد مختار.
11. نهاد = = .
12. أمل = = .
13. إبراهيم رمضان.
14. نورالدين عزيز.
15. عبدالله بياتلي.
16. عبدالخالق إسماعيل.
17. جمعة قنبر.
18. كاظم عباس بكتاش.
19. حسيب علي.
20. فتح الله يونس.
21. عادل عبدالمجيد.
22. كمال عبدالصمد.
23. شاكر زينل.
24. الحاج نجم الدين محمد.
25. أنور عباس.
إجراءات ما بعد المجزرة
بعد أن أيقن "عبدالكريم قاسم" من كذب المسؤولين الذين بعثوا تقاريرهم فور بدء الأحداث مساء (الثلاثاء-14/تموز/1959) وبالأخص تلك التي رفعها "مدير أمن كركوك" إلى وزارة الداخلية ومنها إلى "الزعيم الأوحد" ((والتي سنأتي على تفاصيلها في مقالتي الثالثة))، فقد سارع "الزعيم الأوحد" إلى تشكيل لجان تحقيقية عديدة وأوفدها إلى "كركوك"، كانت من أهمّها تلك الهيأة التي رأسها "العقيد الركن عبدالرحمن عبدالستار" مدير الحركات العسكرية بوزارة الدفاع، وقد إطلعت على تفاصيل الأحداث وشاهَدَت آثار جرائم القتل والنهب والحرق وإستمَعَت إلى البعض من شهود العيان وآراء الضباط الأقدمين في قيادة الفرقة وسواهم في الوحدات العسكرية والأمنية المتواجدة في "كركوك" وعرَضَت تقريراً مفصلاً أمام "عبدالكريم قاسم" و"اللواء الركن أحمد صالح العبدي" موضحة أن الحدث لم يكن عارضاً وبالمُصادفة جراء شجار بسيط -كما ورد في مزاعم البعض من دوائر "كركوك" الأمنية والرسمية والثورية- بل كان مُبَيّتاً ضد "التركمان" بدليل بسيط ومنطقي يصبّ في عدم وجود أيّ قتيل وربما حتى جريح واحد أو أذىً بسيط لحق بحق أي شخص أو ممتَلَك للطرف المُقابل.
لكل ذلك فقد أقدم "عبدالكريم قاسم" على خطوات متتابعة لإغلاق أفواه التركمان بشكل خاص وعموم العراقيين الذين أبدوا إعتراضاتهم أزاء المذبحة التي تعرضوا لها وسط مدينتهم "كركوك"، وبالأخص من لدن معظم ضباط القوات المسلحة العراقية، والتي يمكن تلخيصها بما يأتي:-
1. أمَرَ بتجريد السلاح من أيدي جميع منتسبي لواء المشاة الجبلي/4 وسواه من الوحدات العسكرية المشتبه بمشاركة منتسبيها في الأحداث، ذلك اللواء الذي بدلاً من تنفيذه "خطة أمن كركوك" حسب أمر أصدره قائد الفرقة وكالة، فإن العديد من ضباطه ومراتبه وجنوده قد إصطفّوا إلى جانب منفذي المذبحة.
2. وجّه بإلقاء القبض بحق كل من يُشكّ بإقتحامه أياً من تفاصيل تنفيذ المجزرة، وذلك قبل إعتقال القادة البارتيين والشيوعيين الذي خططوا لها أو أشرفوا على تفاصيلها.
3. شكّل مجلسَين عُرفيين (بمثابة محكمتين عسكريتين خاصّتَين) يتفرغان لمحاكمة أولئك.
4. أصدر أوامره بالإسراع في التعويض المادي لعوائل شهداء التركمان، وعما لحق من أضرار لأصحاب المساكن والمحال التجارية.
5. بعد (3) أيام فحسب على تلك المذبحة، وتحديداً مساء يوم (الأحد-19/تموز/1959)، فوجئ العراقيون -المؤيدون للنظام ومعارضوه- بخطاب غير مألوف من لدن "الزعيم عبدالكريم قاسم" بمناسبة إفتتاحه لـ"كنيسة مار يوسف" وهو يتوعد بإستخدام القسوة والضرب بيد من حديد بحق مدبّري الإحداث والفظائع التي أُرتُكِبَت في "كركوك"، والذين سمّاهم بـ((الفوضويين))، جالباً إسم "التركمان" على عظمة لسانه ربما للمرة الأولى في عهده، معتبراً إياهم ((أخوة مع العرب والأكراد في وطنهم العراق)).
الزعيم "عبدالكريم قاسم" لدى إفتتاحه كنيسة "مار يوسف" ببغداد يوم 19/تموز/1959
الزعيم "عبدالكريم قاسم" لدى إلقائه خطاباً في كنيسة "مار يوسف" للآشوريين ببغداد يوم 19/تموز/1959 والذي تهجّم فيه على الشيوعيين للمرة الأولى منذ جلوسه على سدّة الحكم.
6. وبعد إنقضاء (10) أيام على ذاك، قدم تعازيه الحارة إلى "التركمان" واصفاً إياهم بـ((المواطنين الآمنين المصدومين)) في مؤتمر صحافي واسع عقده يوم (الأربعاء-29/تموز) كان يُنقَل مباشرة عبر شاشات التلفاز والإذاعة الرسمية، عارضاً خلاله على الحضور عشرات من صور الشهداء التركمان ذوي الوجوه المشوّهة والأجساد المتهرّئة إلى جانب عدد من المقابر الجماعية التي دُفِنَ البعض منهم تحت ترابها، وصوراً أخرى لآلات حفر وطمر وهي تواري جثامينهم في الأعماق، وأخريات من تلك التي عُلّقَت على الأعمدة وفي مداخل القيادات العسكرية الكبرى في قلب مدينة "كركوك"، واصفاً تلك الجرائم كونها ((فظائع لا تدنى عن فظائع البربر و"هولاكو"، بل أن "هولاكو" لم يرتكب في أيامه مثل هذه الأعمال الوحشية، ولا الصهاينة فعلوا))،،،، كل ذلك قبل أن يتوعّد بمحاسبة المسؤولين.
7. بعد أيام معدودات من ذلك، ولدى إفتتاحه (ستوديو) جديد وسط مبنى الإذاعة العراقية في "الصالحية" فقد دعا إلى تسميته بـ(ستوديو التركمان) عزاءً لهم في محنتهم.
8. وبإجراءات سريعة بَدّلَ كل القيادات العسكرية والإدارية العليا في "كركوك"، وجاء بآخرين معروفين بتعاكسهم مع الشيوعيين واليساريين،،، والحقّ يُقال أن هؤلاء الجدد قد أسسوا مع وجهاء "كركوك" علاقات طيبة وصداقات متينة أعانتهم على تفهّم مشاكل المدينة والمناطق التركمانية، وقد حققوا أمنا وأمانـاً لا يمكن مقارنتهما مع ما كانت عليه خلال النصف الأول من عام (1959).
9. ويُقال أنهم غظّوا الطرف عن عمليات الإغتيالات المتعددة التي أقدَمَ عليها عدد من الشبان التركمان المتحمّسين في أخذهم الثأر من الذين أهدروا دماءهم الغالية أيام (14-16/تموز/1959).
10. وبعد أشهر وافق "عبدالكريم قاسم" على إنبثاق قسم خاص بمحطة الإذاعة العراقية يبث باللغة التركمانية لعدة ساعات ظهر كل أيام الأسبوع.
11. وفي مطلع عام (1961) سمح بتأسيس منظمة مدنية تركمانية سميت بـ"نادي الإخاء التركماني" في "بغداد" وإصدار مجلة تنطق باللغتين العربية والتركمانية تحت مسمّى (قارداشلق/الأخاء).
12. وحسب المقرّبين منه، فقد كان يتابع بأسى وأسف تفاصيل مجريات محاكمة ((الفوضويين)) في التخطيط المُتقن لها والتمهيد المُبَرمَج لجرائم القتل العام وتنفيذها بتلك الوحشية والتي لا يمتّ أصحابها إلى ذرة من البشرية بصلة.
تقلّبات ((الزعيم الأوحد))
ظلّ "عبدالكريم قاسم" وكأن ليس بإقتداره الرسو في ساحل آمن كي يسير بالبلاد إلى الإستقرار والإعمار والتطور والرقي، فبعد أن أرخى الحبل -على ما ذكرناه- لصالح الشيوعيين واليساريين في العام الأول من ((ثورته المباركة!!!))، وبعد تهجّمه عليهم وتسميتهم بـ"الفوضويين" وإتخاذه تلكم الإجراءات الساخنة في "كركوك"، فقد تعرّض مساء يوم (الأربعاء-7/تشرين أول/1959) لمحاولة إغتيال على يد شبان ينتمون لحزب البعث العربي الإشتراكي/جناح العراق وأُصابوه بإطلاقتين في كتفه الأيسر، فعاد يتهجّم على الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا)، محاولاً رد الإعتبار للشيوعيين والبارتيين.
نهاية مقترفي المجزرة
بعد محاكمات مطوّلة أجراها المجلسان العُرفيان الأول والثاني في "بغداد" بحق العشرات من المتهمين بأحداث مذبحة كركوك طالت ما يربو على سنتين كاملتين، فقد أصـدرا تباعاً أحكاماً بالإعدام شنقاً حتى الموت بحق (28) مُداناً بأدلة دامغة لا تقبل التأويل والظن تخطيطاً وتمهيداً وتسهيلاً وتنفيذاً، وبأحكام متباينة بالسجن مع الأشغال الشاقة لمـُدد مختلفة ممن تواطأوا مع أولئك أو تستّروا عليهم أو على أعمالهم.
ولكن ((الزعيم الأوحد)) لم يَمْضِ على تنفيذ تلكم الإعدامات، بل أبقى على أصحابها في السجن مع المحكومين عليهم بعقوبات السجن،،،، و((يُقال)) أنهم كانوا جميعاً متمتعين برغد العيش والمداراة لـما كان أقرباؤهم وزعماء العشائر بالمناطق التي ينتمون إليها يغدقون عليهم من الأموال مما تكفيهم وتزيد، وأن أبواب السجون كانت مفتوحة لذويهم لزياراتـهم طيلة أيام الأسبوع وذلك بدعم من الحراس الشيوعيين والقاسميين ومؤيديهم، وأن الصحف والمجلات كانت تصلهم بإنتظام ويمتلكون أجهزة تلفاز كل في غرفته بإعتبارهم جميعاً ((سجناء سياسيين))،
و ((يُقال)) كذلك أن الإبقاء عليهم في السجن كان لصالحهم في أكثر من منحىً مادي ومعنوي من حيث إعتبار البعض إياهم ((أبطالاً أشاوس أدّوا واجباً مخلَصاً لأجل عقيدتـهم وقوميتهم وثورتهم العملاقة!!!!))، ولكن الأهم من ذلك كان إحتماؤهم بالحراسة المشددة التي كانت عليها السجون وإستشعارهم بالأمان ولو وراء القضبان لكون ذلك أفضل لهم من أن يتعرّضوا له ما تعرّض له ((رفاقهم)) المختبئون في "كركوك" وسواها.
وهكذا ظلّ (28) من المحكومين بالإعدام قابعين في السجون لـ(ثلاث سنوات وسبعة أشهر)حتى إنهار نظام "عبدالكريم قاسم" خلال يومين، إذْ صعد البعثيون إلى سدة الحكم بعد إنقلاب مسلّح يوم (الجمعة-14/رمضان- 8/شباط/1963)، فتم تنفيذ حكم الإعدام بحقه في "ستوديو رقم/1" بمبنى الإذاعة والتلفزيون ظهر يوم (15/رمضان-/9شباط) وذلك بعد محاكمة صورية أجراها "مجلس قيادة الثورة" لم تدم سوى (20) دقيقة.
وفي حين قُتِلَ "الزعيم (العميد) الركن داود سلمان الجنابي" باليوم التالي (/15رمضان-9/شباط) أمام داره، فقد أمر رئيس الوزراء "أحمد حسن البكر" بتنفيذ جميع أحكام الإعدام للمُدانين كافة في يوم واحد، على أن تُعلَّـق أجساد كل مجموعة منهم على عدد من المشانـق في بقعة محددة من "كركوك" على أعمدتها، فـتم ذلك صبيحة يوم (الأحد-23/حزيران/1963) أمام أنظار تركمان "كركوك" والألوف من بني قومهم الذي وفدوا إلى المدينة من معظم أنحاء الوطن ليروا منظراً -على بشاعته- لم يصادفوه من قبل... وكنتُ أنـا من بينهم مع عدد من أصدقائي الطلاب التركمان وقتما كنا تلاميذ بالصف المتوسط في الكلية العسكرية حين منحتنا إدارة الكلية إجازة ليومين نقضيها في "كركوك" لمعايشة ذلك الحدث التأريخي من حياتنا.
الگاردينيا:المقال يمثل وجهة نظر الكاتب وليس وجهة نظر المجلة راجين علمكم بذلك مع التقدير.
4585 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع