يعقوب أفرام منصور
حقيقة هذا البلد (ألعراق)...
اول جانب من حقيقة واقع العراق هو كونه بلدًا مرّت عليه أحقاب كثيرة جدَا عانى خلالها كثيرًا وطويلاً من غزوات وعمليات سلب ونهب متكررة من أقوام مجاورين لأراضيه الخصبة ومياهه العذبة الوفيرة ، ومعظم تلك الغزوات والعمليات من جهات الشرق والشمال والجنوب، منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وحتى منتصف القرن الأول ق.م. ومن الأقوام التي غزته مرارًا وتكرارًا في عهود سومر وبابل وآشور: الحثّيون والكاشيون والميديون والعيلاميون والفرثيون . ثم بعد سقوط بابل الكلدانيين في منتصف القرن الأول ق.م. غزاه الفرس مرارًا. ومنذ بدايات الألف الثاني بعد الميلاد كان العراق ـ الذي يشكّل القسم الأكبر والأهم من بلاد ما بين التهرين(الهلال الخصيب) ـ تحت السيادة الفارسية قرونًا، وتحت السيادة العثمانية إبان الفرون الأربعة الأخيرة المنتهية في عام 1917.
أمّا ما عاناه هذا البلد في الداخل وبشكل موضعي محدود، فقد كان من بعض بتي قومه في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين من جرّاء ثورة الزنج بدعم من قوم القرامطة في وسط وجنوب العراق( الكوفة والبصرة) طيلة 15 عامًا نجم عنها كارثة وخراب عميم في حاضرة البصرة ونواحيها، عُرفت تاريخيًا وبالأمثال ب "خراب البصرة"، حتى قضى عليها الخليفة العبّاسي (المكتفي) في عام 906. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، عانت إمارة (أفراسياب) في نواحي البصرة من أجانب(إيرانيين) قاموا بعمليات سلب ونهب واجتياح بغية السيطرة عليها، لكنها إنتهت بإخفاق الغزاة واندحارهم.
أمّا بعد اكتشاف غِنى العراق بخام الذهب الأسود في مطلع القرن العشرين في حقول نفط كركوك وخانقين وعين زالة (الموصل) وبعد عقود في حقول البصرة ثم (مجنون ـ ميسان)، فقد تهافتت على العراق دول الغرب الإمبريالية، بدءًا من إحتلاله في عام 1917 من قِبل بريطانيا، ووصل الأمر بتلك الدوّل الإمبريالية إلى الإجهاز على البلد بقوة السلاح مرّتين، أولاهما في العقد الأخير من القرن العشرين، وثانيتهما في مستهل العقد الأول من القرن 21 الحالي، وبتحالف عسكري غاشم ضخم جاوز عدد المسهمين فيه ثلاثين دولة وجيشًا بقيادة أمريكا( !) لإشاعة الفوضى والخراب والتدمير والتخلّف والتناحر الطائفي والعنصري في مكوّنات شعبه ومؤسساته، كي يسهل أنتفاعها من ثرواته النفطية والمعدنية بمقدار أكثر ممّا لو كان الوطن مستقلاّ ومالكًا زمام أموره بأيدي أبنائه الغيارى؛ فنجم عن الغزوة الهمجية الظالمة بداية الجشع الغربي والطغيان الإمبريالي الأمريكي والأوربي لاستنزاف دماء وموارد العراق والشرق الأوسط وتفتيت كياناته الحالية ( من 2003 الى الآن ولاحقًا) بدءًا بالعراق بعد غزو أفغانستان،لإقامة شرق أوسط جديد ـ كما صرّح مجرم الحرب بوش الأب (1990 ـ 1991)، وتمّ تنفيذه في عهد نجله مجرم الحرب الثاني عام 2003 : كل ذلك خدمةً للصهيونية العالمية ذات المطامع التوسعية وذات الهيمنة على تسيير الإدارة الأمريكية والسياسة الأوربية.
واللبيب المتجرّد يتساءل: هل يحدث كل هذا السوء والإيذاء والتخريب للعراق من دون أن تكون في داخله نفوس وأذرع ومكونات وطوابير مساعد ة ومتواطئة مع الغزاة لإنهاك هذا البلد وإفقاره وتفكيك لُحمته وتخريبه ؟! لقد أثبتت التحريات ووسائل الإعلام وسجلاّت هيئة النزاهة وبعض الوقائع قبل غزوة داعش وبعدها على وجود كثيرين في البلد متهمين بالخيانة والتآمر والفساد والإفساد والمتاجرة بالدين والولاء للطائفة أولاً والولاء لغير الوطن. ففي شعب العراق كثيرون لا يحبون وطنهم، وكثرة لا تمتلك إرادة البناء لمستقبل أفضل ، بل تنطوي نفوسها على ميول الهدم والعنف. بيدَ أنّ ممّا لا شكّ فيه وجود عوامل عدّة داخلية ساعدت الغربيين الطامعين على غزو العراق، المذكور آنفًا، أولها عدم حكمة الرئاسة العراقية في سياستها الداخلية أولاً ، والخارجية ثانيًا؛ ثمّ إن أمريكا وبريطانيا إستفادتا من عدم تلاحم الشعب في مكوناته المذهبية والعِرقية، فكان الغالب عليها التناحر والكراهية والتعصّب الشديد، والطمع في الحصول على المكاسب والمغانم من خلال الحكم الأجنبي. فكانت ثالثة الأثافي من الغزوة الهمجية الظلامية المتطرّفة (داعش) بتآمر في عهد الرئيس الأمريكي (أوباما) وتأمر طائفي عِرقي على حساب الشعب العراقي، الضعيف في وعيه، والمغلوب على أمره، وبمعرفة الحكومتين البريطانية والفرنسية والحكومة التركية باستخدام الإرهابيين وتزويدهم وتدريبهم في تركيا للقيام بهذا الغزو الإجرامي اللئيم الذي سجّل صفحةً سوداء من تاريخ هذه الأربع دُوَل في مجال الإساءة إلى العراق أولاً، وإلى الشرق الأوسط ثانيًا.
ألجانب الثاني من حقيقة العراق، هو كونه قطرًا تحفل أذهان شعبه ـ منذ القِدَم التاريخي المعروف والمدوّن وبالآثار المكتشفة في أواخر القرن التاسع عشر ـ بذكاء وألمعيّة وفطنة، وتزخر نفوسه بإرادة وعزم وشجاعة في مجال قهر الصعاب والعسير من الأمور، وفي ليّ الشدائد، وفي أحيان قليلة كان ينتصر على أعدائه الحاسدين والطامعين في خيراته. وسبب قلّة انتصاراته على أعدائه الخارجيين، وعلى غُزاته القريبين والبعيدين هو كون الشطر الأكبر من سكّانه قَبَلي، عشائري النظام والتقاليد والقِيَم، يسودهم التنافر وعدم التناصر، وهذا ناجم حتمًا عن قلّة الوعي، وضيق الإدراك، ممّا لا يجعلهم سورًا حصينًا عصيًّا على طامعي غُزاة الغرب المسلّحين، وبذا يُسَهّلون للأجانب إختراق ديارهم وتدمير الوطن. فهم متواكلون، ضعيفو الهِمّة والمقاومة إزاء قوى الطامعين، وبأس المتحفّزين للهيمنة والسيادة على الضعفاء والشراذم الجهلاء، القنوعين في عصرٍ لا يفهم ولا يحترم أو يهاب جُلّ ناسه الحضريين غير لغة القوّة والإقدام والمقاومة بأحدث وأفتك الأسلحة، وأوّلها الإرادة الصلبة، في حين يفتقر إليها القَبَليّون.
ألجانب الثالث من الحقيقة هو كون غالبية شعوب العالم عمومًا، والطامعون والعدوانيون ضِمنهم خصوصًا، تجهل مكانة العراق المتميّزة بين بلدان العالم، في مجال خصائصه الذاتيّة الموروثة من أرصدة أقدم الحضارات والمدنيّات، ويستحق النظر إليه نظرة نائية عن اعتباره مَطمَحًا لهم في إشباع أطماعهم في خيراته وثرواته المعدنية والنفطية من خلال الهيمنة على مقاليد أموره وأوضاعه الداخلية، وبوسائل بثّ الشقاق والعنعنات بين أبنائه ذوي العقائد المختلفة، والألسن والثقافات العديدة المتباينة التي تبلورت عِبر عهود حضاريّة شتّى، إتّسمت غالبًا بقبول الآخَر المختلِف، وبالتعايش معه والتقابس والتمازج منذ أقدم الأزمان.
الجانب الرابع من هذه الحقيقة هو كون أعداءِ هذا الوطن الرئيسيين وتابعيهم الأقربين والأبعدين في داخله وخارجه ـ بعد عام 2003 وعام 2014 لا يُعيدون النظر في حساباتهم الإقتصادية والنفطيّة والجيوفيزيائية تحت أضواء من الإنصاف والإعتراف بالذنب والخطأ الجسيم المذنِب الذي إقترفوه بحقّه قبل ربع قرن على الرغم من حقيقة أنّ الوقت قد أزف، بل تجاوز الحد الزمني المعقول والمناسب لوجوب إعادة النظر في تلك الحسابات بدافع منصف من إلغاء الغبن الحالي في التعاطي والتعامل والمضايقات بباعث من رغبتهم في عدم الترفيه عن شعب العراق، وعدم إزدهاره في المجالات الحضارية الحديثة، والتعاصر والتمدّن. فكفاهم من حوافز الجشع والمكابرة والمغالطات. فعلى المدى الطويل سوف يكونون هم وأنسالهم خاسرين. والذبن يحيون في عام 2025 أو 2030 يرون ذلك. ولاتَ ساعةَ مَندمٍ !
829 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع