آرا دمبكجيان
العلاقات الأرمنية – الكردية
الغرض من هذا التحقيق هو التنويه الى المسألة الكبرى التي تغلِّف العلاقات الأرمنية – الكردية ألا وهي المسألة الأرضية التي كانت من المعوقات الأساسية و التي عرقلت المساعي الرامية الى العمل المشترك بين الجهتين و لا زالت حجر عثرة في الطريق، و تعتبر معاهدة سيفر في 1920 الحل الأمثل لهذه المعضلة.
ولدت الحركة القومية الكردية في بداية القرن التاسع عشر كصدى للحركة القومية الأرمنية و التي كانت موجَّهة ضد الأستعمار العثماني لأراضيها، و ثم تركيا الكمالية بعدئذ. من الأهداف الرئيسة للحركة القومية الكردية كانت تمدين الشعب الكردي و الرفع من مستواه في مناطق معيشته و العمل على رقي كردستان في المنطقة. كان القائمون بالأمر يرغبون تحقيق اهدافهم بالتعاون مع الأرمن و الحؤول دون تحقيق فكرة انشاء كيان أرمني مستقل في شرقي الأناضول و الوقوف ضد التوجهات القومية التركية. تبنَّت منظمة "التضامن و التقدم" الكردية تحقيق ما ورد في أعلاه و قد لعب البدرخانيون دوراً كبيراً فيها.
مولد الحركة الوطنية الكردية
بعد مؤتمر برلين في 1878 انخفض عدد غير المسلمين في الدولة العثمانية مقارنة بالمسلمين و خاصة بعد ان انفصلت دول البلقان عن نَير السلطنة. يذكر المؤرخ التركي و الأستاذ السابق في جامعة ويسكونسون – ماديسون الدكتور كمال هاشم كاربات ان الدولة فقدت 4,5 مليون مواطن نتيجة استقلال دول البلقان بعد ان كانت النسبة مناصفة بين المسلمين و غير المسلمين قبل مؤتمر برلين في 1878. لئلا يقع في المشكلة نفسها، شجَّع السلطان عبد الحميد الثاني على ترويج فكرة انشاء الأمة الأسلامية و تبنّاها، و على هذا الأساس عمل مع أغوات و شيوخ العشائر الكردية السنّية لوأدِ "الروح الثورية و الأنفصالية الأرمنية" في الأراضي الأرمنية المحتلة في شرقي الدولة.
كانت الأصلاحات التي تبنّاها السلطان عبد المجيد الأول في 3 تشرين الثاني 1839 و التي سُمِّيت بالتنظيمات الخيرية ساوت بين المواطنين المسلمين و غير المسلمين في الدولة في نواحي عديدة، و لكنها أساءت بشكل أو بآخر بالعلاقات الأرمنية – الكردية. تمتَّع أمراء العشائر الكردية، بدءاً من القرن السابع عشر، بالحرية السلطوية و مارسوا نوعا من الأستقلال المحلي في أرمينيا الغربية المحتلة حيث أقاموا علاقات طيبة مع الأرمن في المنطقة. و بفضل التنظيمات التي سنَّها السلطان عبد المجيد فقد الأمراء الأكراد استقلالهم و أستعيض عنهم بشيوخ العشائر الدينيين الذين ما لبثوا ان مارسوا عمليات السلب و النهب في القرى الأرمنية و الأستيلاء على أراضيهم الزراعية و فرض ضرائب جديدة اضافة لما كانت تفرضها الدولة.
في تلك الأثناء دخلت الدولة العثمانية عصر المضاربات المالية، و بما أنها فقدت معظم أراضيها المحتلة في أوروبا، فقد ارتفعت اسعار الأراضي مع السيل الجديد من المهاجرين الأتراك. و أجبرت هذه الحالة الجديدة استقرار العشائر الكردية الرُحل في أرمينيا الغربية (شرق الأناضول). في الوقت نفسه تبنَّت الدولة العثمانية تحركات المهاجرين الأتراك و العشائر الكردية نحو الداخل لغرض تغيير الطابع الأثني و الديني لصالح المسلمين. و اعتراضا على هذه العمليات اشتكى الأرمن في المدن و القصبات المعنية الى البطريركية الأرمنية في اسطنبول التي اشتكت بدورها الى الباب العالي. كان الرد الرسمي إرسال القوات النظامية لإسكات الأحتجاجات.
في 1891 أسَّس السلطان عبد الحميد الثاني فرقة الخيالة الحميدية و التي كان معظم أفرادها من الأكراد و مجموعات صغيرة من التركمان و اليوروك مهمتها الظاهرية حماية الحدود الشرقية من السلطنة، و أما مهمتها الباطنية فقمع تحركات الأرمن في المطالبة بالأصلاحات الأدارية.
و بصورة عامة كانت مهماتها كالآتي:
1- تأسيس سلطة مركزية و تحقيق الأستقرار في المناطق الشرقية من الدولة العثمانية.
2- منع تأسيس دولة أرمنية و قمع كل التحركات التي تتعارض مع مصالح الدولة العثمانية.
3- تأسيس توازن سياسي و عسكري بين المسلمين و غير المسلمين.
4- حماية الحدود الشرقية للسلطنة من الأطماع الروسية و الألاعيب السياسية الأنكليزية.
5 – نشر و ترويج أفكار تاسيس عالم اسلامي تحت قيادة السلطنة.
بعد الترويج لأفكاره الأسلامية بناءاً على سياسة فرّق تسُد اعتمد عبد الحميد الثاني على العشائر الكردية السنّية لضرب غير المسلمين في شرق الأناضول، و كان هؤلاء الضحايا من الأرمن و الآثوريين و الإيزيديين و القزلباش و العلويين. و قد أستلهم الشيوخ هذا العداء من العصبية الدينية إذ كانوا يعتبرون أن غير المسلمين، و حتى المسلمين الذين يعتنقون المذاهب غير السنية، كفاراً و ملحدين و أرقاء لهم.
صَنَّف السلطان عبد الحميد الأكراد حلفاءاً تقليديين له لأنهم على المذهب السني و كان يعتبرهم مسلمين مقارنة بغير المسلمين (الكفار) حسب المثل الشائع Giavoura bakarak Kurd musulman ، (انظر مقالتي المنشورة في الگاردينيا:
https://algardenia.com/maqalat/15917-2015-04-04-18-51-20.html
المترجَمة عما كتبه الدكتور هنري آستارجيان). في تلك الأثناء كانت الهوية الدينية للأكراد فوق الأعتبار القومي. و في القرن التاسع عشر لم تكن المفاهيم القومية و شعور الأنتماء القومي قد ترسَّخت في أذهان الكرد عامة. و عندما كان السلطان يستغل هذا الشعور الديني للأكراد ضد الأرمن كان يحذِّرهم من ان الأنتفاضة الأرمنية موجَّهة ضدهم لغرض طردهم من البلاد بعد تحقيق نواياهم في الأنفصال و الأستقلال. و لهذا السبب سيطرت اوهام و اشباح هذا الأعتقاد على الفكر الكردي و الأدب المقرؤ حينما قال الشاعر حاجي قادر كوي في احدى اشعاره "أُقسم مائة مرة على القرآن انه في حالة استقلال أرمينيا لن يألو هؤلاء جهدا لطرد الأكراد من بلدهم." و من الطبيعي ان تشكِّل محتوى سطور هذه القصيدة ولادة الشعور القومي الكردي موجَّهة ضد الأرمن.
ليست القضية الكردية حديثة الولادة؛ فنضال الشعب الكردي للقبول كمجموعة إثنية - قومية تتمتع بنوع من الحكم الذاتي بدأ حوالي سنة 1843 عندما حشد قائدهم الأمير بدرخان في بوهتان جيشاً قوياً تعداده 40,000 مقاتل من الأرمن و الأكراد و أعلن الحرب على العثماني الغاصب. ساهم الأرمن في هذه الحركة بحماس لأنهم رأوا خلاصهم به من الأستبداد التركي.
في نهاية العشرينات من القرن الماضي أستمر الأكراد في نضالهم و شنّوا نزاعاً مسلحاً ضد الحكومة المركزية نظَّمه حزب خويبون (Xoybun – Khoyboon) الذي أسَّسه الأكراد مع الأرمن، و نجح الحزب في تأسيس جمهورية آرارات و إعلان أستقلالها في 28 تشرين الأول 1927. لعب حزب "الأتحاد الثوري الأرمني / الطاشناك" دوراً بالغ الأهمية في توجيه الانتفاضة نحو النصر.
سحقت السلطات التركية الجمهورية الوليدة في أيلول 1930، و لكنها لم تقضِ على فكرة المسألة الكردية التي نجت و عاشت و تقدَّمت خطوة أخرى نحو الأمام. في هذا الوقت أزداد توهج الحماسة الثورية عندما قاد سيّد رضا، القائد العلوي لعشائر زازا، ثورة جديدة؛ حيث استجابت قوات أتاتورك لها و شنَّت مجزرة رهيبة ضد أكراد درسيم و زازا في 1937. بدأت المعلومات المخفية عن هذه المذبحة تظهر الى الوجود الآن و بعد سبعين سنة (أنظر مقالتي المنشورة في الگاردينيا:
https://algardenia.com/maqalat/24176-2016-06-10-09-23-49.html
المترجمة عما كتبه الدكتور هنري آستارجيان.)
موقف الطبقة المثقفة الكردية من القضية الأرمنية
تأسست أولى الصحف الكردية في 1898 في القاهرة بأسم "كردستان" و رأس تحريرها مقداد مدحة بدرخان. أحتوت الصحيفة مقالات متفرقة معظمها ذات توجه تقدمي حيث كان المثقفون الأكراد يوجّهون انتقاداتهم تجاه تصرفات شيوخ العشائر الكردية المعادية للأرمن، و لكنهم يدافعون عن تكامل أراضي الدولة العثمانية و يعتبرونه من المقدسات.
نشرت الصحيفة 31 عدداً و تضمنت 14 عددا منها مواضيع عن القضية الأرمنية و العلاقات الأرمنية – الكردية.
في أحد أعداد تشرين الثاني 1898 كتب عبد الرحمن بدرخان قائلاً: "تلوح في الأفق علائم حرب بين الأرمن و الأكراد، و أعلمُ أن الأكراد شاركوا في قتل أرمن أبرياء. لا يتقبل الله هذا العمل الأجرامي. لا يعرف الأكراد ماذا فعلوا فهم غير عالمين بخفايا الأمور، و أن قتل الأرمن يعادل في الذنب قتل المسلمين."
يجب ان نتوقف هنا عند كلمة "حرب" و نركِّز على اهميتها، حيث كانت الدولة العثمانية تعلل الأمر قائلة ان هناك نزاعات على حدودها الشرقية بين الأرمن و الأكراد؛ و لكن في الواقع ان الشعب الأرمني كان يخوض غمار كفاح مسلح ضد الدولة لنيل حقوقه و ليس ضد الأكراد. و قد بيَّن حزب الأتحاد الثوري الأرمني (الطاشناك) منذ بيانها الحزبي الأول عند تأسيسه في 1890 هذا الأمر و شرح نواياه. و كان الحزب الأشتراكي الديمقراطي (الهنجاك) قد صرَّح في بياناته بدءاً في 1887 موجها نداءه الى الأكراد لفتح جبهة مشتركة من أجل "أخوة الشعوب" ضد نظام الحكم العثماني.
كان عبد الرحمن بدرخان، و من خلال مقاله، يحاول ان يبيَّن للأكراد بأن أنتفاضة الأرمن موجَّهة ضد جور و ظلم السلطان و ليست ضد الشعب الكردي، و كان يحذِّرهم في الوقت نفسه، اذا هم استمروا في اقامة المذابح ضد الأرمن فسيفسحون المجال امام الدول الغربية و روسيا للتدخل لصالح الأرمن و تأسيس دولة أرمنية في داخل كردستان.
كتب عبد الرحمن بدرخان و عبد الله جودة سلسلة من المقالات باللغة الكردية في هذا الخصوص و نشراها في صحيفة "تروشاك – أي العلم) الناطقة بلسان حزب الطاشناك و هم يوجِّهون نداءاتهم الى الأكراد للتوقف عن ارتكاب الفظائع ضد الأرمن بعد أن حوَّلهم السلطان الى ألعوبة في يديه، و يطلبون منهم العمل المشترك مع الأرمن و الكفاح ضد الأستعمارين العثماني و الروسي.
في الوقت نفسه كان حسين شكري يكتب في صحيفة "روجي كرد" الكردية بانه ليس هناك أي مجال للتكلم عن الأراضي الأرمنية التي استولى عليها الأكراد في احداث 1890 و السنوات اللاحقة لأن "الأرمن هاجروا الى القوقاس و أصبحت تلك الأراضي ملكاً للأكراد."
خاتمة: لماذا فشل العمل المشترك الأرمني - الكردي
في احدى مقالاته يذكر كريستابور ميكائيليان (1905-1859 أحد مؤسسي حزب الطاشناك): "لأجل إبعاد الأكراد عن هدفهم لتحقيق الأستقلال تحاول الحكومة إشغالهم بأمور اخرى جانبية. فهي تحرِّض الأكراد ضد الأرمن و الآثوريين و الإيزيديين ... لهذا السبب يجب تحييد التأثير الديني فيهم." و يضيف قائلاً بذكر قصيدة إيزيدية: "يُخرج الضبعُ الجثثَ من الأرض و يوفِّر الاحياء، أما الباشا فيفضِّل شرب دماء الشباب ... اللعنة على القوي المتجبر الذي لا يعرف معنى الرأفة. " و لكن من هم أولئك الأقوياء عديمي الرأفة تجاه الأكراد؟ هل هم الأتراك أم الروس أم الأرمن؟ و يضيف قائلاً: "ليس لدينا أي طريق آخر سوى تقوية قدراتنا الخاصة و البيان بالبرهان العملي على اننا مقتدرون على المحافظة على مصالحنا و في كثير من الأحيان مصالح جيراننا. اذا تمكنّا من ذلك سيكون لنا حلفاء أكراد. و على عكس ذلك سيبقى الأرمن مجرد ضحايا للأكراد بدلا من حلفاء يعملون معا ضد عدو مشترك. " كان نداء ميكائيليان واضحا و جليا، سيحترم الكردي الأرمني عندما يرى القوة لديه، لهذا، كانت حملة خاناسور في 25 تموز 1897 خير مثال على ذلك عندما هجم 253 من الفدائيين الأرمن مضارب عشيرة مازريك في شمال ايران لتأديبها و كعملية انتقامية لمقتل مهاجرين أرمن من فان.
في بدايات القرن العشرين كان من الأفضل على الأرمن و الأكراد ايجاد حلول مناسبة للعمل المشترك على المستويات الشعبية و السياسية و المثقفة. فلو كانوا وجدوا مساحة عمل في حلف مشترك لكانت خسرت تركيا أقاليمها الشرقية و تجنَّب الأرمن مذابح 1915. و كذلك كانت أرمينيا الشرقية اتحدت مع الغربية و تم إيجاد دولة كردية في الجوار.
كان القائمون على الأحزاب السياسية الأرمنية يعيشون في عصر الرومانسية الثورية بعد أن تبنّوا الأفكار الأشتراكية القادمة من أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، و رغب هؤلاء المثقفون السياسيون تطبيقها على الواقع لتحسين المستويين الفكري و المعيشي في القرى و القصبات الأرمنية و نسوا إقامة تعاون مشترك مع خصمهم الكردي. و لكن هل كان هذا الكردي الذي يملئ التعصب الديني كيانه مستعدا على قبول التعاون المشترك مع الأرمن ضد ولي نعمته السلطان و وعاظه الذي كان يرسل الليرات الذهبية مغلفة في همايون يدعو الى ... الجهاد؟
أما الجانب الكردي فكانت له أخطاؤه أيضا. أولاً، لم يكن الوعي القومي متطورا بدرجة كافية عند الشعب الكردي، في الوقت الذي لم تكن للطبقة المثقفة أي تأثير محسوس على أرض الواقع. و ثانياً، كان المثقفون الأكراد يعيشون خارج أرض كردستان عكس الطبقة المثقفة الأرمنية المتواجدة ضمن حدود الدولة العثمانية في القرى و القصبات الأرمنية.
من وجهة النظر الكردية لم يتقبل هؤلاء انشاء دولة أرمينيا على "الأرض الكردية" أيام كان الأكراد يعملون يداً بيد مع السلاطين العثمانيين. و من الجدير بالذكر ان عبارة "كردستان" جاءت الى الوجود في القرن الثاني عشر فقط بعد الغزو السلجوقي لمملكة أرمينيا عندما سمّى هؤلاء الأجزاء الجنوبية من أرمينيا الغربية (تركيا الشرقية حاليا) بأسم "كردستان"، بمعنى مكان تواجد الأكراد. على كل حال كان العامل الديني يلعب دوراً مهماً في الحياة الكردية و كان الكثير من الأكراد يعتبر نفسه عثمانيا مسلماً، إذ لم يكن الأمر نفسه للأرمن.
لدينا الكثير للتعلم من دروس التاريخ: فعندما نتحدث عن المسألة الأرمنية في تركيا ليس من الحكمة تجاهل العامل الكردي، و العكس صحيح كذلك. ليس من الممكن فصل المسألتين الأرمنية و الكردية عن بعضهما عند الوصول الى مرحلة المطالبة الأرضية. يحتاج الشعبان بعضهما لبعض لتطوير بعد النظر السياسي لكليهما. يخوض الكردي اليوم غمار معارك التحرير بينما نقف جانبا و نصفق بيدينا عن انجازاته، و نتحسر على ما فات لأننا قبل قرن من الزمن كنا نحن المقاتلين من أجل تحرير أراضينا ... بينما كانوا الأغوات يملؤن جيوبهم و صدورهم مما يغدق عليهم السلطان من الذهب و الأوسمة و النياشين.
أثبت التاريخ أن العلاقة الأرمنية – الكردية لو اتخذت نهجاً آخر بشكل تحالف بين الشعبين لكانت المسألة الأرمنية في تركيا قد حُلَّت عُقَدها بشكل ما. و أثبت التاريخ أيضا ان الذين "كانوا يحاربون الكفاح المسلح" هم يخوضون الآن غمار كفاح مسلح و لم تصل المسألة الكردية اليوم، و بعد أربعين سنة، وجهتها العسكرية و السياسية و الأجتماعية.
آرا دمبكجيان
517 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع