د. خضر بصون
شارع الذكريات (١): يوم في تموز
إنها عطلة المدارس الصيفية، سأبلغ بعد شهر ونصف التاسعة. كنا نسكن في البتاوين في بيت صغير (مشتمل)، مؤجر من عائلة مسيحية، كانت قد بنته كملحق لبيتهم "الكبير". يقع هذا المشتمل على بعد خمس دقائق مشياً من الشارع العام (من رؤيتي لخريطة بغداد – كان هذا شارع النضال).
عالمي كان محدوداً بين مدرسة الطائفة اليهودية - فرنك عيني، التي تقع في العلوية، بيت خالي (الأقرباء الوحيدين الذين بقوا في العراق بعد التسقيط) وبيت صديق لي في المدرسة وسوق البتاوين.
كانت والدتي قد حظرت عليّ أن العب -- خارج البيت بعد أن كسر سني أحد أولاد الحارة الذين كنت العب معهم بحجر رماه بمصيادة عصافير– الله اعلم، إن كان ذلك عن عمد أو خطأً، المهم سلمت عيناي. كنت أتكلم اللهجة المسلمة الدارجة لا اللهجة اليهودية، حتى في البيت والمدرسة. اسمي لا يدل على إنني يهودي، ولكن على الرغم من هذا كان أولاد الحارة على معرفة باني يهودي، ويستغلون ذلك إذا نشب نزاع أطفال بين الحين والآخر.
كنت لا اسكت إذا وصفني أحد الأولاد بكلمة بذيئة لكوني يهودي.بعد هذه الحادثة، قررت والدتي إن من المحبذ ألا العب خارج البيت وادخل في عراك. طبعاً بين الحين والآخر كنت أحاول أن اقنع والدتي بالخروج لشراء بعض احتياجات البيت من الحانوت في نهاية شارعنا. هكذا كنت اختفي لساعة أو ساعتين، معظم الوقت كنت أقف متفرجاً على الأولاد الأخرين يلعبون كرة القدم والدعبل. كانوا احيانا يدعونني لمشاركتهم. وعلى الرغم من أن الثمن لتأخري كان العقاب في البيت، لكني كنت أتقبله راضياً مقابل هاتين الساعتين من الحرية.
لم تكن هناك مشكلة خلال السنة الدراسية عندما كنا مشغولين. بما أن المدرسة كانت في منطقة أخرى فقد أجّرت لنا باصات خاصة تأخذنا في الصباح إلى المدرسة وترجعنا بعد الظهر إلى بيوتنا. كانت الرحلة تستغرق حوالي الساعة، يتم فيها لم الطلاب والطالبات الذين تتراوح أعمارهم بين الرابعة وسنين الثانوية. بالنسبة لي كانت هذه الرحلة اليومية مشوقة لأنني كنت أرى فيها العالم الخارجي بين البتاوين والعلوية. في السنين الأولى من طفولتي (الدراسة الابتدائية) كانت المشكلة في العطل وخاصة الصيفية، كيف الهّي نفسي. لم يكن لدينا تلفاز أو حديقة في البيت نتمتع بها. أختاي كانتا أصغر مني بسبع وثمان سنين - يعني ليستا "مؤهلتين" للعب! لهذا كانت قراءة الكتب والصحف وهواية جمع الطوابع وما يتبعها من معرفة للتاريخ والجغرافية، ملاذي وحبي.
منذ بداية هذا الصيف، ألححت على والدتي أن تسمح لي بالذهاب إلى سوق البتاوين لشراء الخضراوات والفواكه بدون مرافقة أحد. أن السوق يبعد عن بيتنا حوالي عشرين دقيقة مشياً وقد أكّدت لها إني اعرف الطريق جيداً واني لن أضيع.
وبعد تردد واستشارة والدي الذي شجعها، وافقت والدتي على ذلك بشرط أن اذهب مبكرا في الصباح وقبل أن تبدأ حرارة الصيف القائظ.
خرجت في الساعة السادسة صباحاً، وانا فخور بانها أول مرة اذهب وحدي إلى السوق، (يعني صرت رجال). اشتريت من الخضراوات والفواكه ما استطعت حمله في الأكياس وبدأت بالعودة للبيت وانا أفكر - هذا تاريخ مهم في حياتي، الإثنين 14 تموز 1958.
لكن ما هذا الصياح وهذه الموسيقى الحماسية تنبعث من المذياع – الله أكبر، لاحت رؤوس الحراب، بغداد يا قلعة الأسود، وبين الحين والحين يسمع أزيز الرصاص. وقفت قرب أحد الحوانيت محاولاً أن استمع إلى المذياع ولكني لم افهم ماذا يقول: بيان رقم واحد، "بعد الاتكال على الله، ومؤازرة المخلصين من أبناء الشعب والقوات المسلحة، أقدمنا على تحرير الوطن العزيز من سيطرة الطغمة الفاسدة التي نصّبها الاستعمار لحكم الشعب، والتلاعب بقدراته لمصلحتهم، وفي سبيل المنافع الشخصية." وبدأ الناس يعانقون الواحد الآخر ويرمون الحلوى.
ليس باستطاعتي أن اركض إلى البيت مع ما احمله من الأكياس لأفهم ما يجري. ولكني أسرعت الخطى والموسيقى الحماسية تتبعني. وصلت أخيراً إلى البيت بعد الساعة السابعة. اتركها لمخيلتكم في أي حالة وجدت والدتي ووالدي. أنا اسأل ماذا يحدث، ووالدتي تحضنني وتقبلني وتفحصني وتقول لوالدي "دتشوف أول مرة أخلى الولد يروح للسوك وهو يسويلنا ثورة".
بعد أن فهمت ما حدث، على صغر سني، اكتشفت وبمضي الأيام أن والدي كان ضد الملكية، ضد حكم نوري السعيد، كان يساريا، ماركسيا، ليبراليا، تقدميا، ديمقراطيا – سمه ما تشاء. لقد كان ينتظر هذا اليوم كل هذه السنين. الآن يستطيع أن يكتب بحرية ويعبر عن آرائه في عراق حر أفضل.. ربما تضحيته (وتضحية والدتي) في أن لم ينضموا الى بقية اليهود في الخروج من العراق قبل أقل من عشر سنوات، لم تضع هباء. ربما ستتحقق مساواة ومستقبل مشرق. ربما، ربما...
كطفل في التاسعة لم افهم لماذا ملكنا "المحبوب" ابن الثالثة والعشرين، والذي كنا ننشد له "عاش الملك" قبل أسابيع في ساحة المدرسة، قتل مع كل عائلته بصورة همجية ولماذا تم السحل والتمثيل بالجثث (كما حدث لخاله عبد الاله ونوري السعيد...). اذكر أننا أنزلنا صورة الملك من الحائط وعلقنا بعد أيام صور عبد الكريم قاسم، عبد السلام عارف ونجيب الربيعي. بعد أشهر انزلت صورة "المتآمر" عبد السلام عارف من الحائط وبعد اقل من سنة اختفت صورة الربيعي وبقيت لدينا صورة الزعيم الأوحد – الذي أحببناه.
انظر إلى هذا الماضي وأتسأل هل كان أبى من الواقعيين أو الحالمين. في تلك السنين كان والدي يركب موجة عالية، كان مؤيدا لعبد الكريم قاسم حتى النهاية بالرغم من ان الأخير ارتكب أخطاء وتقلبات، كان يعذره ويقول انه لا يتلقى النصيحة الصحيحة من المحيطين به.
كطفل انطبع يوم 14 تموز في ذاكرتي. كان يوماً مهماً في حياتي، كان يوم حريتي، خرجت من سجن شارعي وحارتي. هل تستطيع والدتي أن تبقيني الآن في البيت وانا الذي كنت مع الجماهير الثورية في هذا اليوم من تموز، وقد رجعت بسلام إلى البيت!
بعد أيام، اندلع أكبر حريق في بغداد – مستودعات نفط شركة خانقين (مستودعات الكيلاني- قرب ساحة الطيران).المنطقة المحاذية لهذه المستودعات كانت منطقة ذات كثافة سكانية كبيرة تتكون من صرائف يسكنها فقراء بغداد وعرفت بالميزرة (بدلاً من المجزرة حيث يستبدل الجيم بالياء حسب لهجة بعض المحافظات الجنوبية) وكانت تعرف أيضا ب "العاصمة" أو "خلف السدة" (والسدة هنا هي السدة الشرقية التي بناها ناظم باشا الوالي العثماني لصد مياه الفيضان عن بغداد). من نظرتي لخارطة بغداد، حل محل هذه السدة طريق محمد القاسم السريع الذي يقطعها شرقاً.
كان لهيب النار مخيفاً وأعمدة الدخان الأسود الذي غطى السماء، تشاهد عن بعد عدة كيلومترات. كانت هناك رائحة كريهة في الجو تخنق الأنفاس. استمر الحريق لأيام، قبل أن تستطيع الدولة بمساعدة خبراء أجانب إخماده. كان من الصعوبة في تلك الأيام أن ننام على السطح ونحن نسكن في البتاوين المحاذية لشارع النضال من الجهة الغربية. طبعا كان هناك خوف كبير من أن يمتد الحريق إلى منطقتنا القريبة إذا اشتدت الرياح باتجاهنا. كان ذلك شهر تموز الذي لن أنساه!
4798 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع