الدكتور رعد البيدر
الاجتياح العراقي للكويت ... لُعبةٌ غربية و لاعبون عرب
المقالة الأولى
بعد مرور (29) عاماً على الاجتياح العراقي للكويت- نُسلط الضوء على مناطق مُعتمة من علاقات " عالمية ، إقليمية ، عربية " توَّلَدَ عنها أزمة ( عربية – عربية ) غُذيَّت فَنَمَّت، وتعاظمت فانفجرت ، ثم عولجت نتائجها " بدراية أو بجهل " سياسي ؛ فأحدثت انقلاباً بموازين القوى الإقليمية ، وأضعفت علاقات دولية بين أطراف اللعبة ، ومع من يساند هذا الطرف أو ذاك . سنبتعد عن المَيل بعواطفنا نحو أي من طرفي الأزمة موضوعة البحث ونعرض حقائق موَّثقة .
لا يمكن تغطية العنوان بتخطي أحداث رئيسية - عالمية و إقليمية كان بعضها سبب أو نتيجة في الأزمة وتطوراتها ؛ لذا فأن ضرورة التوازن بين الوضوح والاختصار يتطلبان تقسيم المضمون إلى أكثر مقالة ، نبدأها بتمهيد عام ، ونتحول لتوضيح ثلاثة أهداف سلسلناها بصيغة أسئلة لبلورة فكرة عامة عن ما يلي :
1. هل أخطأت الكويت في سياستها الخارجية تجاه العراق ؛ فعوقبت عراقياً ؟
2. هل أخطأ العراق بإدارة الأزمة الكويتية - العراقية ؛ فعوقبَ دولياً ؟
3. هل كان العراق والكويت ضحيتا لعبة دولية أكبر من قدرتهما على استيعابها و تفسير أسبابها ونتائجها ؟
مُتغيرات الوضع الإقليمي
انتهت الحرب الإيرانية - العراقية بنصر عسكري و سياسي عراقي و خسارة مادية وبشرية لطرفي النزاع . وصفُ نتيجة الحرب بهذه الحقيقة كان خلافاً للحسابات المرحلية والتوقعات النهائية التي كانت تطمح لها الولايات المتحدة خصوصاً و دول الغرب عموماً، و هي أنهاك قوى الدولتين المتحاربتين . لكن حقائق و واقع ما بعد الحرب يشيران بوضوح أن جيش العراق أصبح بقوة عددية و معنوية أكثر، وتسليح حديث و متنوع و خبرة قتال أفضل بكثير مما كان عليه في سنوات ما قبل الحرب . وكنتيجة حتمية لتلك المزايا فقد تقدَّم الاقتدار العسكري العراقي على دول الجوار؛ فأصبح العراق قوة إقليمية مؤثرة على أرض الواقع لا يمكن أنكارها - بغض النظر عن أي تفسير مُنحاز يُضعِّف هذا الحقيقة التاريخية . فيما خرجت إيران أكثر عزلة مما كانت عليه في الماضي ، و ازدادت خلافتها مع الجوار العربي بسبب محاولاتها السابقة و العلنية لتصدير ثورتها ، إضافة إلى أن الحرب قد دمِّرت مواردها القومية وهيبتها الدولية .
مع نهاية حرب البلدين بدأت بوادر ذوبان دور الاتحاد السوڤيتي على أثر السياسة التي أنتهجها الرئيس السوڤيتي" ميخائيل گرباتشوف" ؛ فشرَّعَ بتقصير خطوط علاقات السوڤيت الخارجية في أسلوب جديد لمعالجة المشاكل الدولية من أجل أيجاد حلول لها على أساس " توازن المصالح " وليس " توازن القوى" في مسعى بررته السياسة السوڤيتية آنذاك على أنه تلَّمُس صيغ جديدة للتعاون الدولي
الحقيقة ليس كما أدعى السوڤيت- ودون التغافل فإن توازن القوي قد أنعدم في تلك المرحلة، وقد مالت كفة الأرجحية للقطب الغربي بسبب ضعف الاتحاد السوڤيتي و انشغاله بمشاكله الداخلية بما أضعف قدرته بالتأثير ضمن دول حلف وارشو؛ فلَم يُبدي السوڤيت تأثيراً مانعاً عندما أسقطَّت الجماهير الألمانية جدار برلين في 9 تشرين ثاني/ نوفمبر1989- الذي كان يمَّثل خط الدفاع الأول للمعسكر الشرقي، وذاك هو اليوم الذي جَسَّدَ بداية نهاية الحرب الباردة . ثم أعقبه حدث آخر بغياب التأثيـــــر الواضح لدور الاتحـــــــــــاد السوڤيـتـي- هو إسقـــــــــــاط حكـــــم الرئيــــس الرومـــــــاني " شاوشيسكو" في 25 كانون أول / ديسمبر نتيجة غضب جماهيري من جراء المُعاناة و الجوع الذي طال شعب رومانيا ، وأُعدِمَ " شاوشيسكو" مع زوجته في ليلة عيد الميلاد ، بعدَ أيام قلائل من القاء القبض عليهما .
أظهَّر التراجع السوڤيتي المؤثر عن مسرح الأحداث العالمي خلال عام 1989 و بدايات 1990 ما يشبه أطلاق يد الولايات المتحدة في إدارة صراعات دول العام الثالث والصراعات الإقليمية نتيجة للانسحاب السوڤيتي من بعضها، أو لتهميش دوره في البعض الأخر؛ مما أدى إلى انفراد واشنطن بإدارة الصراعات التي كانت قائمة آنذاك ، أو التي ظهرت لاحقاً.
خطاب العراق المبكر... بين الصواب و الخطأ
في ظروف فسَّرها العراق تحدياً له و مؤامرة ليست فردية عليه - تستهدف شعبه وحكومته آنذاك ، كَثُرَت التصريحات الرسمية المُطوَّلة والمُبالغ بها من القيادة العراقية فأظهرت نتيجة عكسية لما كان يُستهدفُ منها ؛ بسبب فقدان الموازنة الواجبة بين الكتمان المطلوب للمعلومة والتلميح الواضح بامتلاك العراق لقوة ردع ، و بوضوح العبارة التي تشير بأن العراق سوف لن يتردد باستخدام ما بحوزته من قوة تجاه أي دولة تعتدي أو تحاول الاعتداء على العراق بأي شكل من أشكال الاعتداءات .
وظِّفَت التصريحات العراقية من قِبَل أطراف غربية متعددة لإظهار صورة العراق كأنه يُضمر نوايا معادية لأشقاءٍ عرب . ولإثبات حُسن النية بادر الرئيس العراقي صدام حسين بطلب توقيع اتفاقيات ثنائية مع كل من المملكة العربية السعودية والكويت .
التنسيقات الأولية لافتعال الأزمة
بتزامن محسوب نشر مركز " جافي " الإسرائيلي للدراسات الاستراتيجية في تقريره السنوي لعام 1988/1989 بأن العراق يُطوِّر أسلحة نووية وستُصبح واقعاً فعالاً خلال فترة ( 5 - 10) سنوات، و سيواصل تحقيق هدفاً آخر بزيادة مدى صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية . وتضَّمن التقرير ما يمكن تسميته خلاصة استنتاجات - مفادها أن العراق بهذا الاقتدار المُتنامي سيضيف بُعداً جديداً وخطيراً في منطقة الشرق الأوسط .
بالعودة إلى (10) سنوات سبقَّت ما نُشِرَ من قبل مركز " جافي " فقد نشرت مجلة Fortune الأمريكية في عددها الصادر يوم 7 أيار/ مايو 1979 خطة حرب بعنوان " لو غزى العراق الكويت و السعودية " . نقتبس بعضاً ما جاء في منشور المجلة : (( ... تستطيع القوات العراقية باستخدام أسلحتها السوڤيتية أن تتغلب على الدولتين بسرعة، وعند طلب المساعدة منّا ستبدأ ضربات جوية تكتيكية ضد الدبابات والطائرات العراقية مع التهديد بتدمير منشآتها النفطية. وللتمكن من إخراج القوات العراقية سيظهر الاحتياج إلى أشراك " المارينز " من الأسطولين السادس والسابع وقوات المشاة من الفرقتين 82 و101...)) . و بعد (12) سنة على نشر المجلة التي أشرنا لها آنفاً - أتضَّح تنفيذ نفس الاتجاه العام للخطة الأمريكية التي أسمَّتها ( عاصفة الصحراء ) وما سُميَّ عالمياً ( بحرب الخليج الثانية ) و ما سُميَّ عراقياً ( بالعدوان الثلاثيني ). وأتضَّح أن البنية التحتية لاستيعاب مئات الألوف من الجيوش ، وأجهزة السيطرة وغرف العمليات كانت جاهزة للحرب قبل اجتياح العراق للكويت في دول خليجية .
أعد الجنرال " شوارزكوف " لعبة حرب أمريكية ، و لعبة الحرب بالمفهوم العسكري المُبَسَط تعني : تمرين يُعَّد من عسكريين ذوي خبرة عالية ، يطبق على الورق كمراسلات و على مناضد الرمل ويستوجب إعداد مخططات و تبليغ و استلام الأوامر والوصايا من خلال السُعاة و شبكة مواصلات سلكية ولا سلكية تشابه الشبكات الموجودة فعلاً في ملاك وقياس المقرات من أجل فحص مستوى أداء القادة والآمرين و هيئات الركن و بقية عناصر المقرات . تبتدئ اللعبة بفرضية افتتاحية ، ثم تتطور على ضوء فكرة التمرين ، من قبل سيطرة رئيسية ، وسيطرة تقييم ، وحكميين حسب مستوى اللعبة ونطاق فعالياتها المفترضة.
بدخول القوات العراقية للكويت في 2 أغسطس / آب 1990 - عُثِرَ على أوراق تمرين لعبة الحرب التي أشرنها لها ، و اتضح منها قيام جهات أمريكية بالإشراف على كافة مراحل تطبيقها . ليس من باب الصدفة أن يختار " شوارزكوف " منطقة الخليج العربي كساحة حركات لتلك اللعبة إنما كانت النية الأمريكية مُبيَّته على استحداث أزمة إقليمية غير متكافئة الطرفين . تكلفت الولايات المتحدة بتدرب و تهيئة عناصر الجهة التي خططت لها أن تكون مستهدفة برد فعل الطرف الأقوى ، والطرفان هما العراق والكويت . بعض ما استهدفته الولايات المتحدة هو رفع الجانب المعنوي والاستعداد النفسي والقتالي الكويتي - المتواضع تجاه (عدو محتمل ) يتفوق عليه بكل مقايس المقارنات بين قوات الطرفين . بنجاح هذه الخطوة تحقق للأمريكان بدايات تحويل اتجاه فوهة المدفع العراقي الذي توقف من الرمي باتجاه الشرق ليبدأ بالرمي مُجدداً باتجاه الجنوب – وتفسيرياً فأن ذلك يعني تغيير طبيعة الصراع من " عربي - فارسي" إلى "عربي - عربي" بمعنى أوضح - أن التخطيط الأمريكي أفترض أن تكون الكويت عدواً جديداً للعراق لعدم وجود خلافات عراقية - سعودية في علاقات البلدين ؛ لذلك حرَّكَ الأزمة من الكويت باتجاه العراق وفق حسابات بعضها تاريخي، وآخر جغرافي حدودي، وثالث اقتصادي، وتتداخل معها عوامل إضافية . باشرت الكويت بتنفيذ الدور المرسوم لها لبداية اللعبة الدولية الجديدة و كانت خطوات ذات أساليب استفزازية للعراق – الذي تصرف هو الآخر بردود افعال متباينة خلال فترة الأزمة وفق ما سيتضح في السياق القادم من المقالات .
الاتهامات العراقية
أدعى العراق أن الكويت و دولة الإمارات العربية المتحدة قد زادتا سقف حصتيهما من التصدير النفطي المُتفق عليه ضمن منظمة أوبك ؛ فتسببتا بانخفاض مُتعاقب ومُتسارع لسعر برميل النفط في السوق العالمي - إذ أنخفض من (21) إلى (11) دولار؛ مما أنذَرَ بتوقع انهيار الاقتصاد العراقي في حالة استمرارهما بنفس سياسة الإنتاج والتصدير خلافاً للضوابط - لاسيَّما أن العراق كان مُطالَباً بتسديد فوائد ديون نفقات الحرب التي بلغت (83) مليار دولار، وأخذت المشكلة مع الكويت بُعداً إضافياً ؛ فقد أتضح بأن الكويت تجاوزت حصة إنتاجها النفطي المقررة من قبل منظمة " أوبك " ابتداءً من يوم 9 آب / أغسطس 1988، بمعنى أكثر وضوحاً - أن الكويت قد بدأت منذ اليوم الأول الذي أعقبَ توقف الحرب الإيرانية - العراقية بما يثير استفزاز العراق لقيام الكويت بزيادة كثافة الإنتاج النفطي من حقل مشترك في أراضي البلدين ، ولا توجد صيغ متفق عليها لضوابط استثماره بين الطرفين . يُسَّمى " الرميلة " في جزئه العراقي و يُسَّمى " الرتقة " في الكويت ، يقع على الحدود العراقية - الكويتية ( غير المثبتة ) باتفاق الطرفين .
فسَّر بعض المراقبين الإجراء الكويتي بأنه يُمثل تحدياً اقتصادياً للعراق- ثنائي التأثير أحد جوانبه استغلال بئر من حقل مشترك خارج الضوابط ، والجانب الآخر هو التقَّصُد بزيادة معروض نفطي في سوق التداول ؛ مما تسبب بهبوط سعر النفط عالمياً ، فأنعكس بواقع سلبي على العراق بشكل خاص و على دول الأوبك بشكل عام دون أن تكون له نفس درجة التأثير على الكويت ؛ لأسباب سنبينها لاحقاً .
المبررات الكويتية
رأت الكويت أن من حقها تجاوز سقف الإنتاج المقرر تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية التي أُلحقَّت بها من جراء الحرب الإيرانية – العراقية . وأعلنَ وزير النفط الكويتي " علي خليفة الصباح " أثناء اجتماع "الأوبك" يوم 5 حزيران / يوليو1989 في " ڤيَّنا " بتصريح نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" نيويورك بعددها الصادر 12 حزيران / يوليو 1989:
(( إن الكويت لا تنوي الالتزام بحصتها المقررة، وهي مليون وسبعة وثلاثون ألف برميل في اليوم. وهي تُصِر على حصة مقدارها مليون وثلاثمائة وخمسون ألف برميل في اليوم )) .
أشارت دراسات اقتصادية إلى وجود فائض نقدي كويتي قدَّرته بـ (104) مليار دولار كان بعضه مستثمراً في الغرب بمشاريع تكرير وتسويق نفطي ؛ مما يعني أن انخفاض سعر النفط عالمياً سيحقق للكويت إمداد مشاريعها الصناعية بنفط منخفض الكلفة ، وسيجعل الإنتاج السلعي النهائي للمشاريع النفطية الكويتية في الخارج واطئ التكاليف ؛ وبالتالي سيحدث توازن في خسارة سعر بيع النفط الخام الكويتي مع زيادة الربح في عوائد الإنتاج لمشاريع التكرير والتسويق النفطي الكويتية في خارج الكويت .
خلاصة تقيم ما سبق توَّضِح بأن سياسة الإنتاج والتسويق النفطي التي أتبعتها الكويت غير مقبولة من دولة غنية ؛ كونها لم تكن تكترث لما كانت تسببه من أضرار اقتصادية بمصالح الدول الأخرى المنتجة للنفط ، وتلك هي رؤيا كثير من المحللين وخبراء النفط لانعكاسات أزمة إنتاج وتصدير النفط الكويتي في حينها، والتي لا نختلف مع مضمونها العام .
في المقالة الثانية سنُبَيّنُ تطور الإحداث التي فاقمت الأزمة .... بمشيئة الله .
442 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع