موازين العظَمة الحقيقية والخلود والمجد

                                                 

                         يعقوب أفرام منصور

موازين العظَمة الحقيقية والخلود والمجد

وقفتُ بضع دقائق حِيالَ نبأ في شأن أحد "الكبار" ضِمنَ أعلام العصر الأحياء، إذ أفاد النبأ أن "الكبير"، المشار إليه آنفًا، ما برح مهددًا بدخول السجن بسبب فضائح مخالفات إرتكبها، كُشِف عنها الستار الآن، في تمويله الحزب الذى يرئِسه، مما حمله على العيش شهورًا في حالة إفلاس مثيرة، دفعته إلى رهن مسكنه في إحدى الضواحي.

هذه الوقفة القصيرة، أدّت بي إلى استعراض سيَر ووقائع بارزة في حياة أعلام بارزين ومشهورين في مطاوي التاريخ البعيد والقريب والحاضر، فألفيتُ كثيرين لا يستحقون هذا النعت الَباذخ، الشامخ : "كبير" أو "عظيم"، حتى إنّ بعض المفكّرين والمؤرّخين وكاتبي التراجم قد عدّهم من زمرة الخالدين!
حياة العظماء أو الكبار تذكّر الناس بأنّ في وسعهم أن يرتقوا بحياتهم، وأنهم عندما يبارحون الحياة يتركون خلفهم آثارَ خُطاهم على أديم الزمن، لتغدو تلك الخُطى جديرة بالإقتفاء لخير البشرية في سيرها الطويل الشاق نحوَ محجّة الفضيلة والحق والعدل والجمال المطلق، حيث المجد والعظَمة الحقيقيان. بيدَ أنّ طائفة كبيرة من "الكبار" و "المشهورين" إكتنفت مسيرتَهم الحياتية مثالب ونقائص وأخطاء وجرائر عديدة ، متفاوتة في الجسامة والشناعة. والشهرة ـ بنوع خاص ـ تحتوي نقيضَين : شهرة خيِّرة حسنة، و شهرة سيّئة شرّيرة
ومع أن العظَمة الحقيقية الأولى السامية هي لله ذي الجلال الأعظم والإكرام الأسمى، فقد درجت الشعوب المتحضّرة في مجتمعاتها وفي أسفار تواريخها على إطلاق صفة العظَمة والخلود ٍوالمجد على كثيرين من أعلامها ومشاهيرها بباعث من تقييم أفعالها واعمالها ومواقفها المتميّزة النبيلة والإنسانية المجيدة خصوصًا كالتضحية بالنفس والإيثار والتمسّك بالمُثُل العليا.
كاترين الكُبرى الروسيّة، جرمانية الأصل، من يطّلع على سيرتها ينكر نعتَها ب"الكبيرة" أو "ألكبرى"، في حين أن جورج واشنطن، المعدود أبا الولايات المتحدة الأمريكية، وزعيم كفاحها من أجل اللإستقلال، وُصِفَ بحق : "كان الأول في الحرب، والأول في السِلم، والأول في قلوب مواطنيه". ومثله كان بنجامين فرانكلِن وإبراهام لنكولن، وتوماس جيفرسون الذي كان أحد أعظم الأميركيين في كل العصور؛ وهؤلاء الأربعة الأخيرون لا يمكن أن يكونوا رُصَفاء للرؤساء: ترومان، جونسون، كلنتون،وبوش الأب وبوش الإبن الأمريكيين، فالبون شاسع بين أؤلئك السابقين وبين هؤلاء اللاحقين، الزاخر ماضيهم وحاضرهم بجرائم وأخطاء وموبِقات.
في وسع المصنِّف النزيه لعظمة الأشخاص الحقيقية أن يعدّ كلاً من شكسبير وغاليلو ودافنشي وباستور وبيتهوفن ومدام كوري ومدام رولان الشهيدة وأديسون وصن ـ يات ـ صن الصيني، على سبيل المثال، عظيمَا أو كبيرًا، وكذلك المهاتما غاندي، وخالد بن الوليد وسقراط وجاندارك وابن رُشد وابن خلدون والرازي والخوارزمي و جابر بن حيّان وابن النفيس، وأرنولد توينبي وفيليب حِتّي والمعرّي والحلاّج والرصافي ضمن الكبار، ولكن عسير عليه أن يضع في زمرة الكبار أو العظماء كلَّ من أسهم من العلماء في صنع القنبلتَين الذرّية والنوويّة وأجاز استعمالهما في الحروب، ولا المرأة الشهيرة بإسم (شجرة الدرّ)، ولا بطرس الأكبر قيصر روسيا، لانغماسه في الملذّات وتعذيب إبنه وسَجنه حتى مماته لإنضمامه إلى معارضيه، ولا تاليران الفرنسي ( 1754 ـ 1838)، الزاخرة حياته بالأخطاء والإنتهازية، وبرغم دهائه السياسي كان مراوغًا وبلا وازع من ضمير، ومنغمسًا في علاقات غرامية مخجِلة، لا تليق بمكانته؛ ولا كليمنسو، ولويد جورج وبلفور وسايكس وبيكو، لأنهم كانوا من أساطين الإستعمار الإمبريالي الإستعبادي، والتقسيم والتجزئة ونكث العهود والمواثيق، ممّا أدّى إلى نشوب الحرب العظمى الثانية والحروب الفرعية الموضعيّة اللاحقة : في كوريا وفيتنام، وإلى خلق الكيان الإسرائيلي الصهيوني اللاشرعي، وما نجم عنه من حرب العدوان الثلاثي على مصر، وحرب حزيران/67 ، ومعاهدة كمب ديفد، والحرب العراقية ـ الإيرانية ، وحرب عام 2003 على العراق. في اعتقادي، إنّ دقّة موازين العَظَمة الحقيقية ،التي تُطلق على الأفراد الأعلام، تنفي عن أفراد هذه الزمرة الأخيرة صفة "الكِبار" أو "العظَماء"
في هذا الصدد يُذكر مبنى أو صرح (ألأنفاليد) ـ مثوى الخالدين ـ وأحد معالم باريس ، ومشيّد في النصف الثاني من القرن 17 ليضمّ أولاً رفات القادة العسكريين الفرنسيين، فضمّ مؤخّرًا رفات المارشال (فوش) المتوفى في عام 1929 ، وهو الذي قاد جيوش حلفاء أوربا إلى النصر في الحرب العالمية الأولى.، وساء صيتُه بسبب سوء سياسة حكمه في سوريا ولبنان إبان عشرينيات القرن الماضي. كما ضمّ (الأنفاليد) رفات نابليون بونابارت في تابوت غرانيتي أحمر. وهنا تتضارب الآراء بخصوص مكانة ودرجة التكريم في مجال إسباغ الصفات على الراحلين الكبار، التي تُطلق عليهم، مثل: العظيم، الكبير، الأكبر، الخالد، الفاتح، المعظّم، المجيد، الأمجد، نظير المشاهير: الإسكندر المقدوني، صلاح الدين الأيوبي، ريكاردوس قلب الأسد، نابليون، خالد بن الوليد، فشعوبهم وأسفار التاريخ تُعدّهم كبارُا وعظامًا وأماجد وخالدي الذكر، ولا يخلو هذا الإضفاء من الصفات والإكبار من المبالغة أو الإطناب أحيانًا لدى البعض والفرقاء والأقوام. لكن ّ نعت العظَمة ـ في اعتقادي ـ لا يستحّقه المشهورون االآنف ذكرهم لأنّ سِيَرَهم ووقائع حياتهم لم تخلُ من سلبيات وجرائر تثلب مزايا العظمَة الإنسانية ونُبلها في مجالات العلوم االمفيدة والمعرفة والمآثر والإنقاذ والنجدة والتضحية والإستشهاد في سبل قويمة ومثل عُليا.
فمن الذين لا جدال في عظَمَتهم ـ في تقديري ـ أذكر توماس أديسون، مخترع المصباح الكهربائي والحاكي وغيرهما؛ والعالمَين أنشتااين ونيوتن؛ وشارل فوكو الفرنسي المستشهد في الجزائر في عام 1916 بفضل دوره النبيل في التآخي بين أبناء العقيدتين المسيحية والإسلامية؛ والراهبة تريزا الألبانية ذات الدور الإنساني في إسعاف الفقراء ومرضى وجِياع الهند المهمَلين والمعدمين، وفي زيارتها العراق في أعقاب حرب 1991؛ والبابا الراحل يوحنا بولس الثاني الذي غفر جريرة العتدي على حياته، ونادى كثيرًا دول الغرب العديدة بعدم شن الحرب على العراق في عام 2003 ، لكن مشعلي أوار الحرب أسهموا كثيرًا في حجب ندائه وخنق صوته وحذف كلماته؛ ولا أنسى الشهيد اليوتوبي توماس مور ( ت 1535) ناقد الإرهاب والإستبداد والظلم وجشع الحكّام، والمطالِب في عام 1553 بحرية الكلمة في البرلمان، ولما كان مؤمنًا بالقيَم والمثل العليا التي يدين بها جميع دعاة "الحركة الإنسانية "، وعمل طول حياته على تحقيقها، وصار هو الوزير الأول للملك هنري الثامن، كما هو كبير القضاة، أبى أن يوافق على طلاق الملك من قرينته للإقتران بأخرى، كما رفض رئاسة الملك العليا للكنيسة بدلاً من رئاسة البابا، فكانت النتيجة الحكم على توماس مور بالإعدام بقطع الرأس في 6 تموز 1535. فهذه عظَمة ما بعدها عظَمة ، في نظري ، تضاهي عظمة سقراط في تجريعه السُم، حتى إن الكنيسة الكاثوليكية عدّته قديسًا في عام 1935 ، أي بعد أربعة قرون ونصف من إعدامه.
قالت الدكتورة أنجيل بطرس سمعان، مترجمة كتاب (يوتوبيا ) كاتبة أطول مقدمة طالعتها في حياتي (66 صفحة) لترجمتها في ص 36ـ 37 : " ولعل أكبر شاهد على عظَمة ( مور ) هو أنّ صورته ما زالت ماثلة أمام عيوننا إلى الآن وأن أعماله ما زالت متداولة مقروءة، وخصوصًا تلك التي تعالج فيها أمورًا شغلت رجال إنكلترا وأوربا في مستهل عصر النهضة كما لم تزل تُشغل العالم كله اليوم، ربما بدرجة أكبر من ذي قبل. فقد شغلته أمور ستظل تُشغل الإنسانيىة ما دام هناك ظلم وجشع واستبداد وطغيان .......وجميعها أشياء ما أحوج الإنسانية إليها في هذا العصر وكل عصر." ـ تاريخ المقدّمة يناير 1973 ـ كلية الآداب جامعة القاهرة.
لسمير شيخاني كتاب معَنوَن (مع الخالدين) صادر في عام 1959 عن دار المعارف اللبنانية، إحتوى نُبَذًا عن صنوف من المشاهير والخالدين والكبار بحسب أدوارهم في الإسهامات الحضارية العديدة، لكن كثر فيها من لا يستحقون صفة العظَمة نظير هتلر وموسوليني وماكيافِلّي وجنكيز خان ونيتشة وبوذا وكالفِن. ويؤآخَذ المؤلف على عدم احتواء كتابه على مشاهير من الأدباء والشعراء والمفكرين والفنانين العرب قديمًا وحديثًا حتى من الراحلين قبيل بضعة عقود من تاريخ تأليف الكتاب، لكن هذا الباب إقتصر على أسماء أوربية وأمريكية وروسيّة معاصرة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

810 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع