د. سوسن إسماعيل العساف*
فوز بوريس جونسون في الانتخابات البريطانية لعام ٢٠١٩: الدلالات والابعاد
بعد جدل واسع وتذبذب في الاراء العامة وسط الجمهور البريطاني بين مؤيد للخروج من الاتحاد الاوربي ورافضاً له، وبعد سلسلة من التوترات والتجاذبات السياسية والاستقالات المتوالية أعقبها جمود في البرلمان، وتوقعات بأن الانتخابات البرلمانية المبكرة سوف لن تحسم كل ذلك، غامر رئيس الوزراء بوريس جونسون في الذهاب الى هذه الانتخابات، (التي بالأساس انقسم قادة حزبه و مستشاريه الى قسمين حولها قسم يدفع باتجاهها وقسم يحذر من عواقبها). الاسباب التي وضعها جونسون في حسابات خوض الانتخابات بإستراتيجية (فوز ممكن ولكن غير مضمون)، تتجسد في: أولاً ضعف موقف منافسه الأهم اليساري الاشتراكي رئيس حزب العمال، السيد جريمي كوربين، الذي تعرض الى حملات رافضة له، كان أهمها الحملة التي شنتها عليه المنظمة الصهيونية العالمية وتوابعها متهمة إياه بمعاداة السامية. وهذه اتهامات يمكن ان تنهي الحياة السياسية، بل وحتى الاجتماعية، لأية شخصية تتعرض لها في اوربا وامريكا. وذنب الرجل الوحيد هو انه دافع عن حقوق الفلسطينين ورفض انتشار المستوطنات وطالب بحل الدولتين. والأهم ان كوربين، الذي نفى التهمة عن نفسه، رفض الاعتذار عن ما صرح به في هذا المجال. كما ان كوربين تحدث عن تأميمات لمشاريع عامة وهذا الحديث ارعب رؤوس الأموال البريطانية والأوربية والأمريكية ووجدوا فيها عودة للحقبة الشيوعية. السبب الثاني تمثل في الدعم الامريكي الكبير الذي قدمه الرئيس الامريكي ترامب لجونسون واعداً إياه باتفاقية تجارية كبيرة تعوض بريطانيا عن العلاقة التجارية مع اوربا. وعلى الرغم من ان وعود ترامب وأحاديثه لا توخذ بمنظار الجد، وان الكثير من الساسة البريطانيين حذروا من ان هذه الوعود لا يمكن الاعتماد عليها بسبب شخصية الرئيس الامريكي، و بأنها، (الوعود) جاءت نكاية بأوروبا وبمحاولة بعض قادتها تقوية دورها أمام الهيمنة الأمريكية، الا ان جونسون استغل هذه التصريحات لصالحه، وبدا يتحدث عن برنامج يمس حياة المواطن مباشرة ويلامس شعورهِ بالقوة في الاستقلال والتركيز على الذات.
بدأت المفاجأة من وكالات استطلاع الآراء التي أعطت جونسون و حزبه من المحافظين أغلبية في أية انتخابات قادمة الامر الذي شجعه أكثر وطرح برنامج حكومته القادمة بشكل أصلب بوعود حول إنشاء آلاف المدارس الجديدة ودعم نظام الرعاية الصحية، برفع الميزانية المخصصة للجانب الصحي بمبلغ إضافي يصل الى 650 مليون باون استرليني اسبوعياً، بحيث تكون هذه الخدمة متوفرة وعلى حدٍ سواء للفقراء والاغنياء والشباب والكبار والاطفال، و تخفيض الضرائب عن المواطنين وغيرها،وهذه كلها أمور لاقت ترحيبًا بين عامة الناس، وهكذا ارتفعت نسبة المستعدين لانتخاب جونسون كثيرا.
وبالفعل فاز حزب المحافظين برئاسة جونسون في الانتخابات، التي حدثت في كانون الاول 2019، باغلبية كبيرة ومريحة بعدد مقاعد (365) من اصل عدد الاعضاء الكلي (650) وإن كان هناك من اعتبرها غير متوقعة بسبب أن نسبة عالية من البريطانيين كانوا قد ابدوا سابقا ندمهم لانهم انساقوا خلف إدعاءات رئيس حزب المحافظين الأسبق ديفيد كاميرون وصوتوا باغلبية بسيطة بنعم للخروج من الاتحاد الأوربي، وأنهم صوتوا بعد ذلك ضد محاولات السيدة تيريزا ماي التي خلفت كاميرون للخروج من الاتحاد عن طريق عدم منحها الأغلبية لكي تفعل ذلك مما ادى الى استقالتها. كما انهم فعلوا الشيء ذاته في البداية مع جونسون بعد ذلك. وقد اعتبر هذا الفوز تاريخيا للمحافظين، ولم يتحقق منذ العقد الثامن من القرن المنصرم، وبالمقابل فقد حصل حزب العمال على (203) مقعد برلماني برئاسة المعارض الشرس كوربون، الذي اعتمد في دخول الانتخابات على رؤية بأن الفوز متوقع ولكن بحاجة الى الدعم، ويعتزم حالياً كوربن على الاستقالة من حزبه بعد ان اعتذر واعترف بتحمل مسؤولية هذه الضربة القوية وهي خسارة كبيرة لم ينالها حزبه منذ عام 1935، بعد ان استطاع حزب المحافظين اكتساح دوائر انتخابية تعتبر مناطق مغلقة لحزب العمال. وعلى كل حال فهناك من يقول ان نتائج الانتخابات هذه، التي جاءت عكس المزاج البريطاني و السياسي العام قبل فترة ليست بالبعيدة، ربما قد مثلت ملل البريطانيين من الحالة السياسية المتذبذبة والجامدة التي مرت بها دولتهم منذ صدور نتائج الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوربي قبل ثلاث سنوات تقريباً، وأنهم قرروا ان يذهبوا في هذا الاتجاه مهما كانت النتائج وصولاً الى مرحلة الاستقرار. وهناك من يرى بأن الفضل في تحول الرأي العام في الإنتخابات الأخيرة يرجع الى نجاح جونسون في إقناعهم بأنه و حزبه سيحولون بريطانيا الى بلد أفضل و أكثر رفاهية بعد ترك الأتحاد الأوربي. ناهيك عن أن حقيقة الادراك البريطاني لمجريات الامور السياسية والتطورات الواقعية التي تعيشها مملكتهم، انعكست في تصويتهم لصالح المصلحة العليا والخاصة، والتي تعتبر هدف اساسي لا ناقش عليه. وهكذا فلقد حصل جونسون على أغلبية كافية ستمكنه من ترك الإتحاد الأوربي ومؤشرا كافياً على دعم الاغلبية للسياسة التي ينتهجها وحزبه للمضي قدماً بذات السلوك السياسي الداخلي والخارجي، وفي الوقت نفسه قد اغلقت الباب على دعوات القيام بإستفتاء جديد على الخروج أو البقاء ضمن الاتحاد الاوربي.
ألان وبعد ان هدأت الأمور وظهرت النتائج لصالح المحافظين و بوريس جونسون بالذات، يبقى السؤال ما هي ابعاد هذا الفوز؟ فرئيس الوزراء يمتلك الآن أغلبية مطلقة تؤهله للخروج من الاتحاد الأوربي حتى ولو كان ذلك بدون اتفاق في موعد اقصاه نهاية عام 2020 و إبتداءا من 31 كانون الثاني/يناير، (نعم هناك قرار برلماني سابق يلزم أية حكومة بعدم اللجوء لهذا الخيار، لكن أغلبية المحافظين تستطيع ان تغير هذا القرار). بكلمة اخرى هل سيتخذ جونسون مثل هذه الخطوة اذا ما استمر الاتحاد متمسكا بالاتفاق الذي قدمه للسيدة ماي وله بعدها؟ واذا فعل ذلك كيف سيواجه رفض كل من إسكتلندا و إيرلندا الشمالية الرافضتين للخروج من الاتحاد الأوربي، هذا الرفض الذي وصل الى حد اثارة الأحزاب القومية في إسكتلندا مسألة المطالبة باستفتاء جديد للانفصال عن بريطانيا. وهذا هو التحدي الاول. التحدي الثاني يتمثل في إمكانية جونسون احداث إصلاحات تدعم الاقتصاد البريطاني المهزوز عملياً والجنيه الأسترليني المتراجع. صحيح ان انتخاب جونسون بالأغلبية قد حسن من وضع العملة البريطانية وارتفعت كثيرا، الا انها عادت وانخفضت وتوقفت عند مستوى لا يدلل على انها ستستعيد عافيتها السابقة، او بكلمة اخرى انها، وكذلك السوق التجارية والشركات الكبرى وسوق العقارات وفوائد القروض للمواطنين، ستبقى تنتظر قرارات ونتائج ملموسة من الحكومة الجديدة لكي تنتعش. وهذه كلها أمور ليست بالهينة. نعم لقد وعد جونسون البريطانيين بانه سيفتح افاقا تجارية لبريطانيا تعوضها عن الأسواق والعلاقة مع اوربا، ولكن السؤال هل يستطيع ان يفعل ذلك في ظل اقتصاد دولي يعاني من انكماش؟ ربما هو يفكر في الدول الخليجية العربية والهند وجنوب شرق اسيا، ولكن كل هذه الدول نفسها تعاني أزمات مالية ليست بالهينة. كما ان اتجاهه الى الصين سيكون مستبعدا بسبب رفض الولايات المتحدة الأمريكية لذلك. وهل سيستطيع ان يطمئن الشركات والمصارف التي رحلت عن بريطانيا، والأخرى التي قد ترحل إذا ما فشلت وعود جونسون في تطمينهم، وهل سيستطيع رئيس الوزراء ان يقنعها بالبقاء في بريطانيا هذه السوق الصغيرة والتي ستكون شبه محاصرة من اوربا، خاصة اذا ما اختار جونسون توثيق علاقاته الاقتصادية مع الولايات المتحدة على حساب اوربا. وأخيرا ماذا سيكون موقف جونسون اذا ما تحققت خطوة عزل ترامب، داعمه الأساسي، والتي بدأت بقرار الكونكرس بإحالته للاستجواب؟ نعم إحتمال عزل الرئيس ترامب يبقى بعيدا، ولكن هذا الإجراء سوف يضعف من موقف الرئيس الأمريكي لفترة قد تصل الى موعد الأنتخابات الجديدة.
هناك من يقول ان جونسون سينجح، وهناك من يقول ان هذه النجاحات الأولية مظللة وان العواقب ستكون وخيمة خاصة اذا ما فشل في توفير المليارات التي وعد بها لإصلاح مجال الخدمات الصحية والخدمات الأمنية، بل وكل الخدمات الاخرى التي تمس حياة المواطن العادي. وهناك من يعتقد ان النظام الرأسمالي العالمي سوف لن يدع جونسون يفشل لكي تكون النتيجة دعماً للاتجاه الاشتراكي اليساري. الاشهر القادمة وما سينتج عنها هي الكفيل بالرد على هذه الأسئلة ولكن في الوقت نفسه ستظل الاثار الجانبية تبرز هنا وهناك بشكل غير مباشر وعديم الوضوح وحتى تنتهي فترة اعياد الميلاد واستقبال العام الجديد التي ستطغى على الامور السياسية في كل اوربا حالياً.
*أكاديمية من العراق
1194 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع