موجات الحداثة في النصوص السردية

                                                 

                          يعقوب أفرام منصور

موجات الحداثة في النصوص السردية

لا ريب في أنّ دلالات أجناس النتاجات الأدبية في القصّة والرواية والمسرحية والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًا، ثم الأقصوصة، نص مفتوح، وربما غيرها أيضًا، هي من مفاهيم أحياء العصر الحديث الحالي من العرب ولدى الشعوب الأخرى كذلك. فلو أخذنا جنس الرواية الحديثة التي ظهرت في الغرب في أواسط/أواخر القرن التاسع عشر، ووصلت إلى البلاد العربية في أواخر القرن التاسع عشر (عصر النهضة العربية)، مترجمة أو باللغتين الفرنسية والإنكليزية، لوجدنا مفردتهاالإنكليزية (novel) ونظيرتها الفرنسية (nouvelle) تعنيان رواية ـ قصّة ـ حكاية ـ غريب ـ غير عادي ـ نادر ـ جديد ــ حديث العهد، ومثلها ( romance ) التي تعني رواية ـ قصّة ـ حكاية ـ رواية تخيلية. والرواية الحديثة في نشأتها إنبثقت أصلاً من النص التاريخي والرومانسي، وهي تفيد أيضًا حالة من حالات النص السردي الذي أُجريت عليه تعديلات أو تغييرات إمّا بفعل النسّاخ أو الرواة أو المترجمين. ثم تطوّر مفهوم الرواية في النتاج الأدبي، ليغدو بعيدًا عن الدين، ويصير سردًا نثريًا طويلا خياليًا. وهكذا نستطيع عَدّ بعض القصص القديمة حاملة بذور الفن الروائي عند العرب، نظير "قصة البرّاق" التي هي إحدى قصص عمر بن شبة (المتوفّى في 262 هجرية) المعروفة بإسم "ألجمهرة" و "حرب اليسوس"، وقصص عاطفية مثل ( كُثيّر لُبنى) و (جميل بُثينة) و (مجنون ليلى)، وقصة (حَي بن يقظان) المشهورة لإبن طُفيل الأند\لسي.

كثيرة جدًا هي الشواهد على النصوص السرديّة العربية التراثية في أجناسها : من السِيَر والمسامرات والليالي والمقابسات والمقامات، وكثرتها عسيرة الحصر والجرد إلاّ بعد جهد جهيد.
منذ أوائل عصر التهضة العربية حتى يومنا هذا، ما فتئت جمهرة من المبدعين والنقّاد العرب منشغلة بدراسة التقاليد الأدبية الملحوظة في النصوص السرديّة الحديثة : الرواية ـ المسرحية ـ القصّة بأنواعها؛ تلك التقاليد التي تنطوي على مكوّن أوعامل تراثي عربي، أو مؤثّر أجنبي ضاغط، ، إذ إنّ هذا العامل أوالمكوِّن التقليدي ظاهر وفاعل أيضًا في مجال جميع الأجناس الأدبية والفنيّة، والنتاجات الفكرية والثقافية، كما هو بادٍ في النتاجات السرديّة. وحقيقة الأمرإنه لا مُنتَدَحَ عن سريان المؤثّرات الغربية( وخصوصًا الأوربية منها) إلى الأقطار العربية، لعوامل معروفة في القرنين المنسلخَين، في جميع مرافق الحياة المدنية : كالملبس والأزياء والتأثيث وطُرُز البناء،، والأنشطة الإبداعية والثقافية في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، واستمرار هذه المؤُثرات الغربية حتى الآن وإلى حين قابل غير محدود. ومع أن المؤلّف السردي العربي المعاصر سعى بشكل وافٍ في إبراز نتاجه ضمنَ خصوصيّتة القوميّة وأصالته الثقافية، فالتأثيرات الغربية في نتاجاته السردية المعاصِرة هي الأبرز وضوحًا في وعيه ذاتيًا كما يقول الأستاذ عبد الله أبو هيف في كتابه الموسوم (القصة العربية الحديثة والغرب) من منشورات إتحاد الكتّاب العرب في دمشقق ـ عام 1994. ويستطرد المؤلّف قائلاً : إن أوربا لم تكن مصدر تِقنيّة وعلم وآلات ومصانع فقط، بل كانت أيضًا مبعث تحَدٍ حضاري جاوز المحاكاة أو التقليد نحو وضع نموذج من شانه أن يمسخ القِيَم القوميّة والصوَر التاريخية التي تُميّز أصالة الثقافات. وإذا كان المثقف العربي قد أفصح عن تساؤله إزاء الغرب مُبكّرًا في شأن مقدار ما أخذ من الغرب، ومدى تأثّره بالغرب، وتأثيره في العرب المعاصرين، ومدى الإقتباس منه، فإنّ الأديب أو المتفنّن العربي سرعان ما انغمس في التجربة ومعاناة التأصيل والتحديث، باحثًا عن هُوِيّته (ص 90) .
إن صورة الغرب في القصة العربية ( مفردة القصة هنا تشمل كل أجناس النتاجات السردية) قد عولجت إلى حد كبير بدراسات كثيرة في الموضوعات والأفكار والعلائق السياسية والإجتماعية والإقتصادية، فقد عُنِيَ باحثون كثيرون بالتجلّيات الروائية والقصصية لعلاقة الشرق العربي بالغرب الأوربي، وأبرزهم ـ كما يقول عبداللة أبو هيف ـ جورج طرابيشي، ومحمد كامل الخطيب، ونبيل سليمان (ص 19).
وما يُلفت النظر أن الطرابيشي والخطيب قد نظرا إلى علاقة الغرب بالشرق من خلال تجنيس العلاقات الحضارية، مشبّهين ذلك بالعلاقة المتبادَلة بين الرجل والمرأة ـ القرين وقرينته ـ حيث المتبوع والتابع، والمؤثّر والمتأثّر؛ فعامل المثاقفة ـ أي إستيراد الثقافة المتروبوليّة أي ( المتسلّطة ـ المهيمِنة) حاسسم الأثر في جعل الأمّة المستعمَرة تستمرّ في تبعِيّتها للثقافة الوافدة الغازية (ص 19). ثم يستكمل نبيل سليمان دراسة صورة الغرب في الرواية/القصة العربية على أنه وعي للذات والعالم، إذ إنتقلت معالجة الروائيين/القصصيين للعلاقة بين الشرق والغرب من الوطن العربي إلى مركز الآخَر، الذي تنوّع بعد أن كان حَكرًا على باريس ولندن، فابتدأ ظهور المركز الآخَر ـ الغرب الإشتراكي ـ ثمّ تغيّرت نوعية البطَل : من الطالب الذي يقصد الغرب للدراسة، إلى البطل المناضل النثقّف المهزوم في وطنه أو المنفي عنه، وبرز دور المرأة الكاتبة وبطلة التجربة، وظهور نوع جديد من معالجة صورة الغرب، ألا وهو تعبير التجربة من جديد للمرحلىة التاريخية التي أعقبت هزيمة حزيران بخاصّة (ص 19 ـ 20).
بعد انتهاء أحداث الثورة العربية التي إندلعت في عام 1916 ، طفق المثقفون العرب يحددون رؤية المستقبل العربي، وكانت هذه الرؤية عمومًا وغالبًا ميّالة إلى تبنّي إطار التقدّم الأوربي، ، ثم سعى التقدّميّون من عَلمانيين ومستغربين إلى تكييف تصوّراتهم للواقع في ضوء أنماط جديدة من المعرفة، في حين واصل الرجعيّون ممالأة الواقع وتبريره، تكريسًا للفكرة العثمانية، أو لفكرة الإستعمار، أو محاولة تحييد الجماهير الشعبية. ونتيجة لهذه المواقف المتباينة، إستطاع الغرب جاهدًا قولبة الثقافة العربية وِفقًا لسياسته، كي يرى المثقف العربي نفسَه ومستقبلَه من خلال المنظار الغربي إلى مصالحه الذاتية في المنطقة العربية، فكانت " المُثاقفة" بجانب القناعة السائدة في الموقف من الغرب الذي حمل ـ ولا يزال يحمل ـ أجنحة المعرفة والتحضّر.
لكن لبث القلق الوجودي القومي مُستكِنًّا في اعمال المثقفين العرب ، ومتجلّيًا في إبداعاته وممارساته ومواقفه من ذاته والعالم عِبر الأحزاب والتنظيمات والمؤلّفات والتعليم والتربية والإتصال بالجماهير. وما عتّم هذا القلق ظاهرًا ملموسًا حتى الوقت الراهن ولو بدرجة أقل ممّا كان عليه قبل زهاء عقد ونيّف.
مع ذلك، ثمة شبه إجماع على قناعة بأن من المقوّمات الأساسية للثقافة العربيىة وجود تعلّق بالماضي ، والتزام بالذات في نفوس المثقفين لغرض قيام الإنبعاث الثقافي والتحقق الذاتي، كما أن المثقفين يرتأون أنّ التحديث خارج هذين العنصرَين (تعلّق بالماضي والتزام التراث) إنما هو ضربٌ من الدوران في مدار الإغتراب الثقافي.
والمهم في الموضوع أنّ تعامل النقد الأدبي مع معضلات التحديث ينطوي على مَهَمّة إضافية، فضلاً عن توافر العنصرين المذكورَين آنفًا، وهذه المَهَمّة هي تعريب الحداثة عن طريق استنباط عيِّنة إجتماعية ثقافية عتيدة، تنقل الثقافة والمجتمع العربيَين من طرازهما التقليدي الحالي إلى طراز جديد، كما قال عبد السلام المسدي في كتابه (ألنقد والحداثة) الصادر عن دار الطليعة البيروتية في 1983 .
والجدير بالذكر في هذا الصدد أنّ مجموعة البحوث السوفيتية الجديدة في الأدب العربي للإستشراقيين الروس، تُعدّ بكونها المقاربة الأكثر توفيقًا في رؤية إشكالية التحديث، إستنادًا إلى التقاليد الأدبية، إذ تلتحم هذه التقاليد في بلدان الشرق العربي عفوِيًا مع الثقافة الجديدة، وتُمثّل تراثًا حيًا وكلاسيكية قوميّة (ص 24 ). ويقترح أبوهيف ـ في هذا المجال ـ أربع وسائل للإجابة عن سيرورة التقاليد الأدبية في الأعمال السردية العربية الحديثة، أوّلها: إعادة فحص التراث القصصي العربي من حيث منظور عناصر هذا القص واستمراريتها،؛ ثانيها : إعادة فحص مراحل تطوّر السرد العربي الحديث إزاء تحدّي الغرب ؛ ثالثها : إعادة فحص المؤثّرات الأجنبية من حيث تطوّر الموضوعات والأفكار والفن السردي؛ رابعها : دراسة تجلّيات علاقة السرديات العربية المعاصرة بالغرب من جهة، وبالتراث السردي العربي من جهة أخرى.
× × ×
من مطالعتي مقالة عنوانها( ألسرد العراقي القصير بعد انعطاف 2003 ) بقلم الأستاذ علي شبيب ورد، المنشورة في العدد الثالث عشر من مجلة (مسارات) لعام 2009، بدا لي أننا حيال أحدث موجة من موجات النتاجات السردية، وهي (موجة السرد العراقي القصير بعد انعطافة 2003 ) . فكي يتيح الكاتب للقارئ أن يقارن بين هذا النوع من السرد حينما كان قبل انعطافة 2003، وبين نظيره بعد الإنعطافة المذكورة نفسها، أورد أولاً المشهد قبل الإنعطافة هذه في إطلالة أولى، قائلاً : ـ
[ حفل المشهد القصصي العراقي، منذ (أعوام) نصوص (عبد الملك نوري) بمحاولات مغايرة جادّة ومتأثّرة بمنعطفات المشهد العراقي العام. بل إن القصّاص (فؤاد التكرلي) يرى أن القصة القصيرة العراقية لها الريادة في موجة الحداثة العربية، بقوله : " ألقصة العراقية القصيرة كانت تؤسس لموجة حداثة غير مسبوقة في العالم العربي وليس في العراق، ولكن قلّة من النقّاد من التفت إليها لأن الثقافة العربية تحتفي بالشعر. كانت الدعاية وراء انتشار موجة الشعر الحر العر اقي." ] ص 97ـ إستنادَا إلى حوار / فاطمة الحسن/ جريدة الرياض ـ تموز 2007 .
وبعد أن يذكر ريادة القصة القصيرة جدًا بقلم (نؤئيل رسّام) في قصته (موت فقير) المنشورة في عام 1930 ، يشير إلى توالي العقود حتى استُحدِثت مُغايرات نصيّة بفعل مُتغيّرات المشهد االعراقي العام بفضل عوامل عالميّة في الفلسفة والعلم، فتعَملقَت (أنا) السارد في الستّينيات، وتحوّلت مناخات السرد إلى يوتوبيّات متباينة، رافقتها إحتدامات فلسفات العبَث والوجوديّة واللامعقول، وأفضت التحوّلات التحديثيّة اللاحقة إلى بروز السارد الرائي، ثم المنغّلِق على ذاته، فالمتبرّم بالأحداث، مع الإستفادة من تِقنيّات السرد في الأدب العالمي، وكذلك بالإستفادة من نقدات علي جواد الطاهر، وعبد الإلاه أحمد، وعناد غزوان، وفاضل تامر، وناجح المعموري، وياسين النصيّر، وجميل الشبيبي، وعلي حسن الفوّاز، وجاسم عاصي وغيرهم. وكان السارد في ذلك المشهد آنئذٍ حريصًا على التعبير عن معاناة الطبقات المسحوقة بحميمية عالية، وكان يستبطِن في نصوصه نزعة تمرّد على صانعي القهر؛ ثم ذكر نموذجَين من مشهد تلك الحقبة كمنتوج تطبيقي هما: قصة (مساقط الضوء) للقاص جاسم عاصي، وقصة قصيرة جدًا بعنوان (التمثال) بقلم صلاح زنكتة.
أمّا بخصوص المشهد ما بعد انعطافة العراق الكبرى في عام 2003 ، فيرى الكاتب أن المشهد الثقافي قد انفتح وسيعًا بشكل عام، والمشهد القصصي القصير منه تحديدًا، وهو ـ برغم ضبابيته ودموِيّته ـ قد منح القاص إمكانيات شتى للتواصل الداخلي والخارجي.. ومن ملامح هذا السرد القصير حاليًا : التنصّل من متاريس الإيديولوجيا عن سبيل تنبيه ما هو وطني وإنساني حر ـ إرتقاؤه بالخاص نحو العام ـ حياديّته في قراءة الفائت ، والتناص المنتَج مع الموروث الشفاهي والمدوّن ـ إحتفاؤه بالهامش والمغَيّب والكامن والمُطلَق والقصّ المُهمّل ـ مواصلتُه على خرق الثابت والمركزي والمألوف ـ توطيد علاقته بشبكة المعلومات وتِقنيّات الصورة ـ بحثه الحثيث لإكتشاف الإغوائي والمُستفِزّ والمثير والمريِك لمنظومة التلقّي. ومن.نماذج السرد القصير التي أوردها الكاتب، أذكر قصة (الستّون) لمحمد خضيّر، المنشورة في مجلة (فنارات) الصادرة عن إتحاد أدباء البصرة ـ عدد تموز ـ آب/ 2003 ، وقصة (قطرة دم لاكتشاف الجسد) للقاص لؤي حمزة عباس، المنشورة في مجموعته المعنونة (إغماض العينين)، الصادرة في عمّان عن (دارأزمنة) في حزيران 2008 .
يختم الكاتب (ورد) مقالته برأيه المعقول أن النص السردي القصير سيبقى مفتوحًا عل احتمالات مغايرة في تِقنيّاته السرديّة، إستجابةً لمتغيّرات المشهد العراقي العام، وربما ستبرز أنماط جديدة ، وكل جديد هو نتاج طبيعي لقانونالتطوالحياتي؛وإذابدا الجديد هشًّا وغير وافٍ بالمرام، فالزمن كفيل بمآله ( ص 102 ).
× × ×
أختم موضوعي بالتعريج العاجل على معضلة أو إشكالية التحديث في الأنماط السردية كافة، من حيث التقاليد الأدبية في السرد الحديُ المحتوي على مُكوِّن تراثي، أو مُؤثّرأجبي ضاغط، فأقول : إني لا أرى بعد الآن معضلة أو إشكالية عصيّة على الحل الموائم في ضوء الدراسات والحلول المقترحة التي أسلفتُ ذكرها، لا سيّما وهي مطروحة من قِبل متخصصين وملمّين بالموضوع بشكلٍ وافٍ. والمهم هو الإستفادة منها والعمل بهديِها. وأضيف إليها الإستفادة من حسنات التِقنيّات ـ إن وُجدت في النتاجات السردية التراثية العربية ملائمة لعصرنا الراهن والمقبِل، كا الإستفادة أيضًا من التِقنيّات الموجودة في الأعمال السردية العربية العصرية، وبعد عملية استخراج التقنيّات تلك، يُؤخذ بنظر الإعتبار أن يكون النتاج الجديد ملائمًا لأذواق جماهير الأجيال الثقافية، وللإيقاع السريع في مسيرة الحياة اليومية والإجتماعية ومُتَغيّراتها العجلى في البيئات المختلفة، مع المحافظة على رونق وبهاء اللغة، وجمال أساليبها الكتابية، وعدم الإفراط في الإختزال إلى حد الجفاف في صياغة القصص القصيرة والقصيرة جدًا على غرار أسلوب البرقيّات، الذي تخلو فيه كليًا من الطراوة، ومن قليل من المُحَسّنات البيانية والبديعية، لأنها آنذاك ـ إن كانت على تلك الشاكلة من اليبوسة وشدّة الإختزال ـ لن تُصَنّف بكونها نتاجًا أدبيًا رائقًا، جيّدًا، وهذا ما لا نرومه لأدبنا العربي .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1146 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع