الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ متمرس/ جامعة الموصل
أغنية " سَمَرْ سَمَر" أيقونة الغناء العراقي في الزمن الجميل
للفتاة السمراء حضور متميز في المجتمع العراقي والعربي، بل وحتى الأوربي. ولهذا نجد أن الكثير من الأغاني قد صيغت على السمراء، مثل أغنية (سمراء من قوم عيسى) لناظم الغزالي وأغنية (سمرة يا سمرة) للمطرب المصري كارم محمود وأغنية (أسمر يا أسمراني) لعبد الحليم حافظ وأغنية (جميل وأسمر) لمحمد قنديل.
وهناك أغنية شهيرة في التراث الموصلي، فيها مقطع مثير عن السُمر (أرجو أن لا يزعل البيض):
البيض لو سيَّروا ... زَيَّنوا بستاني: ( أي إذا زار البيض بستاني زانوها من جمالهن)
والسُمر لو سيَّروا ... كل البلا جاني: ( أي إذا زار السُمر بستاني جاءني بلاء نتيجة لجاذبيتهن)
السُمر رز العَقر ... يا رز مولاني: ( تشبيه السُمر برز عقرة، وعقرة مدينة جميلة في شمال العراق تشتهر بزراعة الرز الفاخر)
والبيض مثل الشلب ... طايف على المية: (تشبيه البيض بالشلب الذي يطفوا على الماء)
أغنية " سَمَرْ سَمَر":
الجمال صفة محمودة ونعمة من نعم الله تعالى على عباده، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)، وتدبر الإنسان ما في خلق الكون من جمال وإبداع يجعله يُدرك عظمة خلق الله تبارك وتعالى الذي خلق كل شيء فأبدع صنعه في أفضل صورة.
ومن السياقات الشائعة في مجتمعاتنا الشرقية: تشبيه الفتاة الجميلة بالقمر لجماله وروعته، قال (ابن الزيات):
يا من رأى صورة فاقتْ على الصورِ ... يا من رأى قمراً أبهى من القمرِ
وقال (ابن الدهان):
أود من قمر في الأرض غيبتهِ ... وأرقب الشمس من شوقي إلى القمرِ
وللفتاة السمراء حضور خاص في كل مكان لجاذبيتها الخاصة، وقد تغنى الشعراء والمطربون بجمالها وبخفة دمها. ومن أشهر الأغاني الشعبية العراقية وأحلاها أغنية " سَمَرْ سَمَر"، وقد بقيت هذه الأغنية أكثر من نصف قرن تُردد في الأعراس والحفلات والمناسبات في داخل العراق وخارجه.
ولدتْ أغنية "سَمَرْ سَمَرْ" من الوجدان العراقي، وهي تصف السمراء (السمره) بأن القمر يغار منها لجمالها؛ ولكونها أجمل منه فهو يغار منها!
لقد أعطت كلمات أغنية (سَمَرْ سَمَرْ) دفعة للحياة الشبابية والمتطلعة لغد أفضل والتي بدأت بالنهوض الحضاري والعمراني والاجتماعي في أوائل الخمسينيات، وهذه الدفعة تمثلت بكلمات غزل بريء كأداة للشباب لم تضاهيها أغنية في وقتها، إضافة إلى اللحن المتجدد الجميل وصوت رضا علي الأصيل. وما زالت هذه الأغنية باقية لحد الآن كلما سمعتها كأنك تسمعها لأول مرة وقد مضى على تسجيلها أكثر من ستين سنة، فأين هذا وما نسمعه الآن من أغاني أشبه بالفقاعات عديمة الطعم والمذاق.
هناك من ينسب كلمات أغنية (سَمَرْ سَمَرْ) إلى محمد حسن الكرخي (1935-1969)، وهناك من ينسبها الى الشاعر سيف الدين ولائي (1915-1984). أما ملحن ومغني أغنية (سَمَرْ سَمَرْ) فهو رضا علي (1929-2005).
الفنان رضا علي:
يعد الفنان رضا علي واحدا من أشهر مطربي العراق، وهو من مواليد بغداد، وهو بحق سفير الأغنية العراقية. درس في معهد الفنون الجميلة فرع العود وانضم إلى فرقة الموشحات. وعند تخرجه أواسط الأربعينات دخل إلى الإذاعة وبدأ رحلة احتراف الفن، ونال شهرته داخل العراق وخارجه في مجال التلحين والغناء، واشترك في عدد من الحفلات في مصر وسوريا ولبنان فضلا عن الولايات المتحدة وفرنسا.
يعتبر رضا علي من طليعة الفنانين الذين نهضوا بالأغنية العراقية في مرحلة الأربعينات والخمسينات وما تلاها من سنوات. ويمثل رضا علي مرحلة متكاملة في تطور الغناء العراقية، وأضاف لها إضافات نوعية تجلت في نقله ألحان الموروث الفلكلوري إلى الأغنية الشعبية المُلَحنة أصلاً للروح المدنية.
وكان رضا علي يعمل مشرفا تربويا، وكانت له سفرات كل صيف إلى مصايف لبنان ويقيم الحفلات هناك. وقد سبقته الحانه الجميلة التي اعطت الشهرة لنجوم الطرب، واستطاع رضا علي من خلال ألحانه أن يشكل مركز جذب وتأثير في الساحة الغنائية العراقية، وذاع صيته في لبنان وسوريا والأردن ومصر، وانجذبت إليه أصوات المطربات العربيات مثل: (فائزة أحمد) و (الثلاثي المرح) و (سميرة توفيق) و(فهد بلان) و (طروب) و (نرجس شوقي) و (إنصاف منير) و(نهاوند) وغيرهن.
لقد عانى رضا علي الكثير من أصله الكردي الفيلي، وكان مطاردا من النظام السابق فاضطر للرحيل عن العراق إلى أوروبا للعيش هناك والعمل في معمل للصناعات الجلدية، وعاد للعراق بعد سقوط النظام ليسجل بعض الأغاني الدينية ولم يشارك في أغنيات عاطفية. ثم أصيب بجلطة دماغية أقعدته لسنوات طويلة على الكرسي المتحرك حتى وفاته.
أغنية ممنوعة أصبحت أيقونة الغناء العراقي:
اغنية رضا علي الشهيرة (سَمَرْ سَمَر) التي فتحت أمامه أبواب الشهرة، وقد غنتها أيضا المطربة (نظيمة إبراهيم) وسجلتها على اسطوانة.
يقول الشاعر أنه كان في إحدى الأمسيات في بيت أحد أصدقائه مدعوا لحفل زواج، وكانت الأجواء جميلة وساحرة وسط الأهازيج والأغاني الشعبية، والقمر مطل بدرا بجماله الفتان، فجائه شيطان الشعر وأخذ يداعب مخيلته. ثم رأى بالزاوية القريبة منه فتاة صغيرة فقيرة سمراء فاتنة الجمال واسعة العيون تراقب المشهد الجميل لعلها تحظى بحصتها من الطعام، فسألها عن اسمها فقالت له: إسمي (إسميرة)- مصغَّر (سميرة)، فأعطاها حصته من الطعام ومن شدة إعجابه بها أخذت مخيلته تنسج وهو يتأمل (إسميرة):
سمرة وسيعة عين ... عيني سَمَرْ
حلوة وجمالچ زين ... عيني سَمَرْ
وبعد أن أكمل الشاعر نسج أبيات قصيدته (سَمَرْ سَمَر) قدَّمها إلى رضا علي الذي فُتن برومانسية الكلمات الشعبية، فصاغ لها لحننا شعبيا جميلا يتناسب مع جمال كلماتها ثم سجلها لإذاعة بغداد.
وما أن اُذيعت الأغنية سنة 1953 حتى قامت قيامة الصحافة والنقاد لتهاجم هذا الفنان، وانصب هجوم الكُتاب بشأن موضوع الأغنية واللحن وإتهام الفنان رضا علي بإفساد ذوق المستمع والانحناء بالأغنية البغدادية وطالبوا منع هذه الأغنية وعدم بثها. أما موقف الفنان رضا علي فقد كان موقفا صلبا ومدافعا ومتحديا ومراهنا على نجاح الأغنية، إذ اعتبرها لونا جديدا ومغايرا لما هو سائد في الساحة من غناء. وبعد بث الأغنية اصبحت على كل لسان وغدت أغنية الشارع وطغت على الأغاني المنتشرة في ذلك الحين، وقامت العوائل تسمي المولودات من البنات (سَمَرْ) وأصبح الكبار والصغار يرددون:
سَمَر سَمَرْ .. يا سَمَر .. منچ یغارالگمر
عیني سمر وین تروح
وانت الگلب وانت الروح
https://www.youtube.com/watch?v=uzF_4jCZ7vk
612 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع