حسن العاني
كتاب ( 50 عاما في الصحافة ) من جديد :زيد الحلي .. شهاده لصالح الآخر ، واعتراف ضد الذات
من حق زيد الحلي ان يصاب بالغرور، ولا حرج عليه ، حين يحظى بشهادتي تتويج صادرتين من اعلى قمتين في تاريخ الصحافة العراقية المعاصرة (فيصل حسون وسجاد الغازي)، يقران فيهما :
ان هذا الولد الحلي من ذريتهما الصالحة، وانه وريث شرعي مؤهل لحمل راية (المهنة) من بعدهما، ولعل اهمية هذه الاعترافات لا تكمن في كونها صادرة فقط عن سيدين كبيرين من سادات قريش ، آلت اليهما زعامة الكلمة الشريفة ردحاً طويلاً من الزمن ، قبل ان تحل اعوام النكران والجراد والنسيان ، وانما كذلك تكون شهادتاهما، جاءتا بملء الارادة، ومن دون اكراه ولا انتزاع اقوال تحت سطوة السيف! وما زلت مقتنعاً بحق زيد الطبيعي ان يصاب بداء الملوك ووباء النرجسية وبيروقراطية العصر، وهو يروي عبر الخمسين سنة من رحلة التالق والتعب انه وراء تشجيع او اكتشاف اسماء باتت اليوم نجوماً في عالمنا الثقافي، ليس ابتداء بعوني كرومي وغزوة الخالدي ، وليس انتهاء بعلاء بشير وياس خضر وحسين نعمة وسعدي الحلي وغيرهم ، ولو قدر لي ان اقف وراء واحد من هذه الاسماء -واحد ليس اكثر- لتناهيت بتاريخي ، وتاجرت باكتشافي، وانفجرت من الغرور، ولكن من يصدق ان حفيد (عبود العادي) احد ابطال ثروة العشرين – وهذا سبب اخر للتباهي – ظل محافظاً على اتزانه وتوازنه طيلة (290) صفحة من مذكراته وذكرياته التي تداخلت فيها مسارب السيرة الذاتية والعشائرية ، مع الرحلة الصحفية الممتدة الى خمسة عقود، تداخلاً كان محمولاً على كف عفريت ، وعرضة لإحداث شرخ في عنوان الكتاب (50 عاماً من الصحافة)، لولا كثير من الفطنة والذكاء على تمرير ما هو شخصي، وتهذيب عالم الذات بسرية تامة الى اعوام الصحافة من دون اعطاء فرصة للقارئ كي ينتبه الى مؤامرة الحلي بعد اخضاعه الى حالة من التنويم المغناطيسي، ومزيد من عناصر التشويق والجذب والحدث الذي يقود الى حدث، بحيث لا يجد المتلقي متسعاً من الوقت لتامل المؤامرة التي حاك المؤلف خيوطها بحبكة عالية، عابقة بالالعاب السحرية، من غير ان يفطن الى اسرارها الخفية!، حذار من هذا الكاتب فانه يحسن الامتاع والتامر، مثلما يجيد اللعب خارج قانون المالوف!.واذن.. نأى زيد بنفسه عن نوازع النفس الامارة بالسوء، ونجا من النرجسية باعجوبة، ولكن الاعجب، وربما الاكثر مدعاة للاستغراب، يستحضر الحلي وهو في وهج الكتابة ولذائذ خصوصياتها ومواجعها، كل خزينه الاخلاقي جرى الحديث عن (الانا)، انهالت الاعترافات بالاخطاء والخطايا، كما جرت وقائعها سواء عن قصد او عن غير قصد، وسواء كانت نزوة مراهق ام تقديرا خاطئاً ام قصوراً في الفهم، انه لا يبرئ نفسه، ولا يعفي سلوكه من الاثم البشري، زيد يدين زيداً، ويرفض اللجوء الى التزويق ومساحيق التجميل، لقد وضع التاريخ المكتوب من حيث هو امانة وملك للناس وارث للاجيال، نصب عينيه، فاحتمل اعباء الامانة على ما فيها من خدوش، قد يكون بعضها مؤذياً. ثار للمتلقي حرية اتخاذ القرار في ادانته او العفو عنه، وكانه بهذه الفعلة الشجاعة، اراح ضميره من اعباء ضاق ذرعاً بالتكتم عليها، وقد آنت ساعة الخلاص والراحة، وحيث جرى الحديث عن (الاخر)، احياء او في ذمة الخلود، كان عفيفاً، فاقداً لحياده، منحازاً، لا يرسم الا صوراً مشرقة لهم مثقلة بالمدائح، وكأن الاخر بلا خطايا ولا اخطاء، انهم ملائكة الحلي, ويوحي لك انهم كذلك, وقد بلغت به العفة الى الحد الذي جعله يتناول الآخر الذي اساء اليه، او عرضه الى الاذى، بالشارة الى دوره وفعله وموقفه، من دون التنويه الى اسمه او لقبه او كنيته، او ما يساعد على اكتشافه او الاستدلال عليه، الاخر (السيء)عند زيد نقاط بين قوسين، انه المجهول، او الاخر (الايجابي)، فهو بالاسم والتعريف والتفصيل، ولنا ان نتامل هذا المنهج الاخلاقي، حين ننظر الى صورة محمود شيت خطاب مثلاً او الدكتور هاشم حسن او الحاج نعمان العاني او شاكر علي التكريتي ..الخ في مرآة زيد النقية.حين انتهيت من قراءة الكتاب، سالت نفسي، هل زيد الحلي من كبار السياسيين او الاعلاميين او المفكرين، بحيث يمتلك الجرأة لتدوين مذكراته وذكرياته؟، وقد توصلت الى اجابة غريبة –ربما ليست اكيدة- مفادها، ان الحلي كان على الدوام في قلب الحدث السياسي والاعلامي، او قريباً منه الى حد التماس، من دون ان يكون هو صاحب القرار بالضرورة، ولكنه شاهد عليه باليد والاذن والعين، ولم اقف له على شهادة سماعية واحدة رواها فلان او فلان عن فلان، انه الحضور الذي فرضته طبيعة الشخصية التي يتحلى بها زيد والتواقة ابداً الى معرفة كل شيء، والالمام بكل شيء، وملاحقة كل شيء مثلما هو حضور فرضه الفضول الصحفي الطاغي لدى الحلي، ولهذا يجب الكف عن الاستغراب اذا قلت: ان هذا الرجل موسوعة معارف بالاشخاص والاحداث والاماكن، ويساورني الشك ان هناك فناناً او اديباً او علماً من اعلام العراق يسكن خارج الدائرة الزيدية، فهو اما صديق او زميل او من المعارف المقربين، اما حين يجري الحديث عن الصحفيين والصحافة وعوالمها وحوادثها وخباياها واسرارها، فلا يحق لأحد غير الحلي ان يتصدر الكلام، وهذا هو ما يوجب التنويه عنه، لانه السمة الخفية الابرز في الكتاب، فلو جردناه من ذاتيات الحلي وخصوصياته المقحمة عليه، فانه يمثل (وثيقة) بالغة الاهمية، لمن يعنيهم قليل من امور السياسة، وكثير من امور الصحافة وسيرتها الذاتية، وقد تساءلت بعد قراءتي للكتاب: كيف يمكن لطلبة الماجستير والدكتوراه ان يستغنوا عبر بحوثهم الاعلامية عن (50 عاماً في الصحافة ولا يعتمدونه مرجعاً رئيساً، حيثما درسوا المرحلة التي غطاها المؤلف وعاصرها على مدى اربعة عهود؟، وكان مرة طرفاً في (احداثها) بهذا القدر او ذاك، وفي المرات كلها شاهداً مباشراً عليها، وقوة شهادته انها ليست سماعية، بل عيانية، واهمية روايته (العيانية)، انها لا تكتفي بالمروي العام والمعروف عن احداث المرحلة، وانما تقدم معلومات جديدة، ومفاجئة لم يكشف النقاب عنها، كفيلة باضاءة جوانب من مسيرة الاعلام عامة، والصحافة خاصة، ظلت في منطقة العتمة، ومن هنا اؤكد قناعة رسخت في ذهني، ان هذا المطبوع استطلاع الافلات من قبضة (الذكريات الخصوصية) الضيقة، التي قد لا تعنينا في شيء، ولا يعنينا التعرف على ماذا يلبس زيد، وما هي اكلته المفضلة، الى محيط الاشارات الدالة والجوهرية للاقتراب من خصوصيات مرحلة حافلة بالوقائع المزدوجة، من غير ان يقول لنا الكاتب ذلك، او يطرح نفسه مؤرخاً او وثائقياً او باحثاً، انه يترك الابواب امامنا مفتوحة على مصاريعها للتعرف على ما كان وحدث وحصل كما هو على ارض الواقع، وليس كما تحب او ترغب او تشتهي اهواء زيد الحلي!.
1107 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع