في الطائرة يعرف الإنسانُ قدْرَه

                                                

                            إحسان الفقيه

في الطائرة يعرف الإنسانُ قدْرَه

«في الطائرة يعرف الإنسان قدْره» إحدى شوارد الأديب عبد الوهاب عزام، أخذتني على حين غرّة، فأرعدت في قلبي وأبْرَقت، وقطعتْ عليّ رتابة التفكير، وجمّدت اندفاعي تجاه الرغبة بدوران الحياة في فلك الـ»أنا».

عنْونَ الأديب بها لفكرة نسجها شعوره وهو في السماء كريشة في الفضاء، لدى انقطاعه عن عالمه الأرضي، وصيرورة الموت إلى شاخص رهيب يسد أفقه ويطلق إنذاراته المخيفة، ويجعله مطأطئ الرأس أمام تلك الحقيقة الهازمة لكل فكرة عن القوة، فمن يغيثه إذا سقط به ذلك الطائر المعدني المُجنّح؟ من يستجيب لصرخاته إذا هوى إلى الأرض؟
لحظة فارقة تلك التي يطل شبح الموت على المرء وكأنه يُجري تجربة الحصاد، حينها يصطكّ الخبر وشِبْه المعاينة، ويستحضر الإنسان هيبة الموت ودُنوّه، حينها ينكسر الغرور، ويطلق الضعفُ ضحكاته الساخرة مُعلنًا تمكنّه من ذلك البشري الذي نسي خلْقه وظن أنه سيخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا.
ربما يكتفي القارئ بتلك السطور الفائتة ليطلق ضحكة ساخرة لأجل تلك الكاتبة التي لبست ثوب الواعظ الديني وتحدث القراء عن الموت.
بالفعل استوقفني هذا الخاطر قبل كتابة هذه السطور، لكن هذا التصور لم يلامس قناعاتي، فأرخيت العنان لأناملي. لماذا يكون الحديث عن حقيقة الموت ضرباً من الوعظ الديني وحسب؟ أليس من العبث أن يكون الموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا تختلف عليها البشرية، ثم نجعل الحديث عنه مجرد وعظ ديني لا يهتم به سوى أهل التديّن؟ لئن كان استحضار حقيقة الموت ضرورة لأهل الإيمان بالبعث والحساب، تهوّن عليهم ما فات وترغبهم في ما هو آت، وتقيمهم على الصراط السوي الذي مآله الفوز في الآخرة، فإن الإنسانية جمعاء مطالبة باستحضار حقيقة الموت من أجل حياتها الدنيا، من أجل استقامة أمر المعاش والسير فيها بالقسطاس المستقيم، ومن أجل مواجهة المادية التي شوهت في الإنسان إنسانيته وأعلت فيه من شأن البهيمية. تلك المادية التي جعلت بعض عقلاء أوروبا وغيرهم يفكرون في اللجوء إلى هداية الدين، وأنه العلاج لأدواء هذه الحضارة المادية والترياق لسمومها، كما قال محمد رشيد رضا في «الوحي المحمدي».

عندما يطل الإنسان على حقيقة الموت، فإنه بذلك يحمل نفسه على الخروج من ربقة المادية وطغيانها الطامس على البصيرة. ذلك الإنسان بتكوينه الجسدي والروحي، يلزمه العمل الجدي على الارتقاء بروحه طمعا في مواجهة الحياة بسكينة وطمأنينة، وسعيا لتحصيل السلام النفسي، وحين تُطلق إشراقات الروح، فإن صاحبها يدرك لذته في الحسي والمعنوي، يدركها في حب الآخرين، والرغبة في إسعادهم، ويرى الجمال الذي اندثر تحت ركام المادية.
وعندما يطل الإنسان على حقيقة الموت، سيخفت ضجيج صوته الذي يملأ الدنيا بالمطالب والمظلوميات، يعبر عنها الأديب بقوله: «كل واحد يقول: حقي فأعطوني، وكل طائفة تقول: غُبنتُ فزيدوني، وكل أمة تنادي: أنا أريد مالي فلا تلوموني». فعندما يستحضر قرب المشهد ويرى أن ذلك الزائر سيقطع عليه كل صراعاته مع طواحين الهواء، حينها سوف يتساءل عن المغبون فيزيده، وتقف شهيته المادية إلى حيث حدود حقوقه، ويقول: هذا لي وهذا لغيري، يترك العمل بمنطق «أنا ومن بعدي الطوفان» وهذا من شأنه أن يفسح المجال أمام الحق ليجمع البشر، بعد أن فرقهم الباطل ومذاهب القول. وعلى أعتاب تلك الحقيقة ينكسر الغرور البشري، ففي حالة من المصارحة مع النفس سيدرك أن أوجه العظمة التي أنتجتها يداه وظن أنه قادر عليها، أنها ستتمرد عليه، تكسره، قد يموت بصناعته، فطائرة تسقط، أو قطار يصطدم بآخر، أو حريق بسبب موقد، كل ذلك من صُنعه ربما يهزمه. البشرية تفترس نفسها بسبب هذا الغرور، جنسٌ يحارب العالم بادعاءات نقائه وتفرده، ودولة ترى نفسها الأحق بثروات العالم، وفكرةٌ تصنف الناس على أساس، القوة لتحدد من يركب قارب النجاة على حساب بقية البشر الضعفاء، وشعبٌ يزدري الوجود البشري في غير أبنائه بدعوى أنهم أبناء الله وأحباؤه.
تلك الحقيقة لم تحتج إلى فرضيات ونظريات ومعامل وتجارب لإثباتها، والناس فيها ما بين مؤمن بحياة تعقب الموت، وواقف بحدود تصوراته عند مشهد مفارقة الحياة، لكنهم يشتركون في اعتباره السطوة الكبرى والمنتظر الذي يَهزِم ولا يُهزم، الزائر الذي يقطع دابر الأحلام والطموحات والخطط والتدابير. كل الناس في هذا العصر بحاجة إلى هزة يستفيقون على إثرها من تلك السكرة، ويتعاهدون ضد ذلك الشرخ الذي أصاب قيمهم الإنسانية، ويرتقون إلى مستوى استخلافهم في الأرض، ويدركون أن إقدارهم على التعامل مع هذا الكون والاستفادة من القوى الكونية، لا يعني أنهم أقوياء بذواتهم، بل هم أضعف من الصمود أمام فيروس قاتل لا تراه أعينهم، أضعف من القوة التي صنعتها أيديهم، أضعف من مراجعة الموت.
هل كان من المناسب أن أطلق هذه الدعوة الوردية لجعل مطالعة حقيقة الموت ضرورة حياتية للإنسانية؟ حقاً لا أدري، لكنها هزة وجدانية أصابتني عندما طالعت عبارة عزام، فهيجت رغبة الإصلاح أناملي لأن أطرق هذا الباب، لأن يعرف الإنسان قدْره، حتى إن لم يركب الطائرة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1440 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع