ابراهيم الولي*
السيادة The Sovereignty
مقدمة:
كنت في سبعينات القرن الماضي، مع وفد رسمي في زيارة لأوغندا (كمبالا) وقد دعينا لزيارة بحيرة فكتوريا التي تقع على خط الإستواء Equator. سألني أحد الزملاء عن خط الإستواء الذي لم يراه، قلت له إنه خط وهمي لا يُرى أو يُلمس، تذكرت هذه الحادثة و أنا أحاول أن أدبّج مقالة عن السيادة التي يقول عنها المسؤلون بأنها خط أحمر لا يجوز تجاوزه لأن في ذلك خرقاً للسيادة، فقد وجدتها كخط الإستواء لا تلمس بل تتصور في مفهوم افتراضي يرسم للدول وضعا قانونيا وسياسيا و جيوبولتيكيا.
معنى السيادة
تعني الهيمنة والسيطرة فهي اسم من فعل ساد يسود. تقول الخنساء في رثاء أخيها صخرا
طويل النجاد رفيع العماد سادَ قبيلته أمردا
فالخنساء اضفت على أخيها صخرا السيادة على القبيلة التي هي نموذج مصغر للدولة. ففي سياق البحث أجد في هذه الوحدة الإجتماعية أن أهلها قد أودعوا – طواعية- حقوقهم في يد قائد أو زعيم شجاع كريم وفيّ يرعى شؤونهم ويدافع عن حقوقهم سواء في داخل القبيلة أو خارجها أمام القبائل الأخرى. ذلك فيما أرى ، تجسيد مبسط للسيادة الناقصة Less Sovereignty ذلك لأنها لا تسمح بإنشاء علاقات دولية لتكون كاملة Full Sovereignty والمثل يصدق على الوحدات الفدرالية المنضوية تحت لواء الدولة الإتحادية.. فالوحدات هذه ، وإن سنّت لها دستورا فذلك لا يتسيد على دستور الإتحاد.
طبيعي أن هذا القيد لا ينطبق على الكونفدرالية. فوحدات هذه تتمتع بالسيادة الكاملة.
فالسيادة الخارجية للدولة External تشير إلى مكانتها في النظام العالمي وأنها تحكم نفسها بذاتها وهذه هي السيادة الوطنية. أما عن الداخلية Internal منها، فهي تشير إلى سلطة عليا في داخل الدولة تكمن في الأجهزة التي تتخذ القرارات الملزمة لجميع المواطنين أو أي جماعات أو مؤسسات موجودة داخل الدولة أو الإقليم، وهو ما يطلق عليه السيادة البرلمانية أو الشعبية.
فالدولة إنما هي إقليم له حدود معترف بها دوليا. وشعب، مواطنون أو مقيمون، وحكومة مستقرة ودستور وعلاقات خارجية، وكلمة وطنية وقدرة عسكرية ومعرفة تقنية وسيادة.
فالأصل في السيادة انها للشعب الذي سلمها إلى السلطة التشريعية (مجلس النواب أو ألأمة) يمارسها بالنيابة عنه مع سلطات قضائية وتنفيذية، وهي تفعل ذلك، أعني الدولة،امتثالا للعقد الإجتماعي بينها وبين المحكومين – أي الشعب – من خلال التوازن والرقابة Checks and Balances ، كما أن سيادة الدولة الداخلية تعطها الحق في اعمال اختصاصها القضائي على اقليمها أرضا وسماءاً ومياهاً إقليمية. بل وحتى على مافي باطن الأرض من خيرات.
صفات السيادة
بعد عرض ما تقدم من وصف متصور لمبدأ السيادة الكاملة أو الناقصة ، فهي ذات صفة دائمة و لا تتعرض للتآكل إلا في حالة انتفاء شروط قيام الدولة المستقلة، وهي تتساوى لدى الدول المستقلة كاملة السيادة، أعني كمثل، سيادة فرنسا هي نفس سيادة الغابون ، فلا عبرة بحجم أو ثروة الدول ، إذ ان المساواة هي المبدأ الحاكم ، ومن هنا جاء وجوب إحترام سيادة الدول الأخرى عملاً بالإعتماد الدولي المتبادل Interdependence كما أن السيادة تتصف بالشمولية أي أنها مظلة للسلطات وللشعب على السواء، كما أنها غير قابلة للتنازل Inalienable إلا إذا اضطرت لذلك قسرا، كأن يطاح بها في حالات الإحتلال أو حتى التدخل الصارخ في شأنها الداخلي، وهي لا تسقط بالتقادم وتتصف بالأخلاق والمساواة للسيادة في نظر علماء السياسة خمسة أوجه هي:
السيادة الإسمية Nominal Sovereignty
السيادة الشرعية Legal Sovereignty
السيادة السياسية Political Sovereignty
السيادة الشعبية Popular Sovereignty
سياسة الأمر الواقع Defacto Dejure Sovereignty
والسيادة المسؤولة أو الشرعية الحكومية تستلزم الإنسجام مع المعايير الإنسانية والقدرة على حماية المواطنين سواء من عسف السلطة ذاتها أو من دول أخرى، فهي سلطة مطلقة حين تكون السيادة كاملة.
تاريخ:
كان المنظرون لمفهوم السيادة فلاسفة أربعة. أولهم جان بودان Jean Bodin 1596-1530 وهو فيلسوف قانوني فرنسي. يقول أن السيادة هي القدرة المطلقة الدائمة ، فيكمن أن يكون لكل شخص داخل الملكية المطلقة، سيدا على نفسه وممتلكاته وبإمكان كل أب التسيد على أسرته، وأن يحتل كل شخص مكانه الذي وهبته الطبيعة له، وهنا يكون التناغم Harmony
بين الحاكم والمحكوم، فالأفراد هم الذين منحوا الحاكم صلاحية التسيد عليهم لكي يستخدمها في صالحهم. وهو يعتبر سيادة الملوك من إرادة الله والقانون الطبيعي.
الثاني، الفيلسوف الأنكليزي توماس هوبز Thomas Hobbes 1588-1679 فهو يتفق مع بودان بتبرير السلطة المطلقة للحاكم لكنه يرى أن السيادة إنما هي سلطة قاهرة خاصة بالملك الذي وضعت بيديه السلطة القاهرة، جاء ذلك في كتابه التنينLeviathan ومع هذا الإختلاف بينهما ، فهما يريان في ذلك التوصيف أي التسيّد المطلق، ضمانا للاستقرار . يأتي بعدهما جان جاك روسوJean-Jacques Rousseau الفرنسي 1778-1712 فهو يرى أن السيادة الشعبية تنبثق من المشيئة العامة.
وبعده يأتي الفيلسوف الفقيه القانوني الإنكليزي جون أوستن John Austin 1859-1790.
الذي يقرر أن الدولة هي نظام قانوني وسلطة عليا وهي المصدر النهائي للقوة، فالسيادة عنده تقوم على فكرة القانون الطبيعي بوجود رئيس أعلى في الدولة لا يطيع أحدا بل يفرض هو طاعته فهو بذلك صاحب السيادة في المجتمع، وسلطة الدولة تكون في الداخل أما استقلالها ففي الخارج.
لابد لي من الاشارة هنا بان مفهوم السيادة الذي جاء على لسان هوبز وروسو واوستن ، انما كان ثمرة انجازات معاهدة او مؤتمر وستفاليا المنعقد في 1644 – 1648 في اثر حروب داهمت ثلاثين سنة في اوربا ، فقد انبثقت هناك اسس الدولة المدنية او القومية الحديثة ذات السيادة وفق مبادئ التمسك بالالتزام بمبدا العفو و الغفران فهما جوهر السلام ، وهذا شعار المؤتمر ..........
. In Amnestia Consista Substantia Pacis
ولقد كان التمسك باحترام سيادة الدول بعد ذلك في صعود وهبوط حتى دخول العالم في حربين كونيتين اعقبتهما حرب باردة لم تقل سلبيتها عن الحروب العالمية تاثيرا .
محددات السيادة
وهنا سيطرت الامم المتحدة بميثاقها ووكالاتها المتخصصة من جانب، والعولمة .......Globalization التي حولت العالم الى قرية ساعدها في ذلك التقدم التكنولوجي المتسارع في العالم بحيث صار التفكير بالسيادة المطلقة للدول شان مشكوك فيه ، من جانب اخر .
فالعولمة الاقتصادية من خلال اذرعها الشركات العملاقة عابرة القارات والحدود باتت تسخر من السيادة المطلقة للدول ، هذ امر واضح انما الامر الاهم من ذلك الموقف القانوني الملزم لاحكام ميثاق الامم المتحدة The Charter الذي يعتبر ان دستور العالم فهو فوق دساتير كل الدول الاعضاء في الهيئة الدولية .
الم ترتضي الدول الاعضاء الدخول طواعية ، وبحماس في نطاق سطوة وسيادة الميثاق الذي هو نوع من العقد الاجتماعي والسياسي ارتضته الدول الاعضاء لنفسها . هذا القبول الذي يشبه الاذعان حمل في طياته جهرا او سرا التنازل عن بعض شروط السيادة للدولة العضو كبيرة ام صغيرة على حد سواء ، خذ مثلا ميثاق حقوق الانسان او حقوق المراة والطفل او منظمة التجارة العالمية وما الى ذلك من حقوق المجتمع الدولي ممثلا بمجلس الامن في التدخل لتعديل اي اعوجاج في تنفيذ العضو كامل السيادة لاحكام المواثيق تلك ، فربما ادى ذلك التدخل الى الاعتداء شرعيا ،ربما بالقوة المسلحة على سيادة ذلك العضو برضى مسبق و مضمر منه .
استنتاج :
اذن فان القول باطلاق السيادة وحرمتها وكانها كما يقول الناس بان المساس بها وبالوحدة الاقليمية للدولة خط احمر ، اليس الخط الاحمر هذا كخط الاستواء الذي جاء ذكره انفا! ومسئلة اخرى تلك هي تعامل الدول الكبرى بتعال وبتميزية مع الاخرين .
والامثلة على ذلك عديدة، فان جئت بالعراق مثلا لوجدت ان الولايات المتحدة الامريكية ساقت في عدوانها المتكرر على العراق ، وبخرق واضح وفاضح لسيادته ، وهو البلد الذي كان وقتئذٍ يتمتع بجميع اشتراطات الدولة ذات السيادة الكاملة، فشنت عليه عدوانا غير مبرر قانونا، أن المرء ليتسائل عما اذا كان الموقف الأمريكي سيكون مماثلا بنفس المعايير حيال دول أخرى، ومنها اسرائيل، بمثل ما خرقت سيادة العراق!
خلاصة:
أخلص الى القول بأن الحفاظ على السيادة مسئلة نسبية تحددها قدرة الدولة المستهدفة على الردع والصمود في وجه التحديات. تلك هي كوريا الشمالية وآخرين إلى درجة ما، كل يخرق النظام العالمي بأوجه متعددة ومتفاوتة ، كل بحسب نطاق منطقة نفوذه، صحيح أن بعضا منها معاقب اقتصاديا، ولكن هل كان هذا مثيل أو موازٍ لما جرى للعراق من مآس منذ 2003 وماتزل ..
سيادة العراق مثلومة إن لم تكن في نظري ناقصة ؛ تركيا تخرقها من الشمال بذريعة وجود قوات معارضة لها هناك ، فضلا عن تحكمها بمصادر مياه العراق من الفرات ودجلة ربما كأداة إذعان. وتظل العلاقة مع الجمهورية الإسلامية إيران متوترة للأسف. وهنا أجرؤ على الجهر بان من يتسبب بخرق سيادة العراق انما هم بعض ابناءه الذين يسخرون من السيادة الوطنية بشروطها الدولية المتعارف عليها، فهم وحدهم السبب في خرق الآخرين لسيادة بلدهم بما أوقع افدرح الضرر بالزراعة والصناعة، وما حرائق المزارع الواسعة والمتكررة ، ونفوق الأسماك سوى مؤشر على نيات سيئة مبيتة ضد سيادة العراق. وأمثلة كثيرة على ذلك ، لعل أبرزها السيطرة غير الشرعية الكاملة على إقتصاد البلاد بترك الحدود مكشوفة عمدا لدخول البشر والبضائع بغير مسؤلية ، أضيف على هذا وقوف هؤلاء المواطنون بوجه أية محاولة تقرب العراق من أشقاءه العرب عامة والخليجيين خاصة هو كمثل على العدوان على سيادة العراق ، حتى لقد وصل الأمر إلى رفض ، أو على الأقل تردد الحكومة بالاستجابة لعروض استثمار كريمة في مشاريع يكون العراق بامس الحاجة لها و لكن التدافع و المنافسة كانت وماتزال وراء هذه الظواهر السلبية التي تجرح السيادة.
والسبب في كل ما تقدم، افتقاد روح المواطنة الحقة لدى البعض، فالمواطنة هي عماد السيادة تكمِّل إحداهما الأخرى، فإن انتقصت روح المواطنة ، انتقص جوهر السيادة وعلة فاعليتها.
واني لأرى أن روح المواطنة قد بدت ضعيفة عند الإنسان العراقي الذي يميل إلى غير قومه ، وربما جاهر بنصرة الغير على بني جلدته ، حتى وان كان في سره.
ختام:
ومرة أخرى أردد ما قالت الضفدع حين لم تسطع الجهر بما في نفسها، كمِثلي:
قالت الضفدع قولا فسّرته العلماء في فمي ماءٌ وهل ينطق من في فيه ماء !
واخيرا وليس اخرا فإن جعل ساحة العراق مفتوحة لصراعات دولية واقليمية، كالذي هو جار بين ايران وامريكا و اخرين غيرهم ، من عمليات استخباراتية وعملياتية يوميا في الغالب، هي مثل صارخ على العدوان السافر على سيادة العراق، التي باتت ربما كمثل خط الإستواء الذي لا يُرى ولكنه يُستشعر من تاثيره على المناخ وعلى سير الزمن، انما ذلك من خلق الله وطبيعة التكوين، أما الثاني فمن صنع بشر خطائين في حق وطنهم.
اللهم اهدي قومي إلى الرشاد وإلى كلمة سواء وأنت من وراء القصد .
*سفير عراقي سابق
——————————
References
Key Concepts in Politics,Andrew Heywood
Concise dictionary of politics ,Jain Mclean+ Alister Mcmillan
A Dictionary of Diplomacy ,G.R.Berrige+Alan James
Satow’s Diplomatic Practice,7th Edition
4803 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع