د. زكي الجابر
الفِكرُ القَومِيُّ بينَ المفهومِ والنظريّة
إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد
تَناثَرَ الاتّحادُ السوڤياتيُّ إلى كِياناتٍ مستقلّةٍ وانحسَرَ النِظامُ الشيوعيُّ عن الكُتلةِ الشَرقيَّةِ ولكنّ الماركسيَّةَ كنظريّةٍ لم يُصِبْها ذلك التناثرُ. ومِن قَبلِ ذلكَ أسقَطَتْ أكثرُ من دولةٍ النظامَ الرأسماليَّ واختبأتْ تحتَ مظلّةِ الاشتراكيّةِ ولكنّ الرأسماليَّةَ كنظريّةٍ لم تَسقُطْ، وحينَ تَفتّتِ الجُمهوريةُ العربيّةٌ المتّحدةُ بَقِيَ الفكرُ القوميُّ قائماً مَفهُوماً وتَصَوُّراً، ولم تَسقُطْ نظريَّةُ القوميّةِ العربيّةِ لِسببٍ واضِحٍ هو أنّهُ لم تَكُنْ هناكَ نظريَّةٌ قوميَّةٌ ذاتُ صِياغةٍ تُوضِّحُ الارتباطاتِ وتُنِيرُ مَعالِمَ طريقِ العملِ حاضِراً ومُستقبَلاً وتُعِينُ على تَحديدِ المَشاكلِ والاهتداءِ إلى الحُلول.
إنَّنا لَنَجِدُ سِناداً للفِكرِ القوميِّ العربيِّ، مَفهوماً وتَصَوُّراً، في جُملةِ مُقَوِّماتٍ أورَدَتْها الأدبيّاتُ القوميّةُ حينَ تحدَّثتْ عن رَوابطَ معنويّةٍ تَجمَعُ بينَ العربِ تتجلَّى في وَحدةِ اللغةِ والتأريخِ والحَضارةِ والدينِ. هذه الروابطُ، أو سَمِّها إن شِئْتَ، العواملُ جَعَلَتْها مُعظَمُ تلكَ الأدبيّاتِ مُتَصدِّرَةً على عَواملِ الاقتصادِ وعَلاقاتِ الإنتاجِ وما يَرتبِطُ بها من تَطَوُّراتٍ اجتماعيّة. تقولُ تلكَ الأدبيّاتُ أنْ لا أمَّةَ عربيَّةَ بلا لغةٍ عربيّةٍ وبلا تاريخٍ عربيّ. لقد ذهبَ المُفكِّرُ القوميُّ ’’ساطع الحَصْري‘‘(1) إلى القولِ بأنَّ الأمّةَ كائنٌ عضويٌّ له ’’حَياتُه‘‘ و’’شُعورُهُ‘‘ واللغةُ حياةُ الأمّةِ والتأريخُ شُعُورُها، كما ذهبَ إلى القولِ بأنَّ الأمَّةَ التي تَنسَى تأريخَها تَفقدُ شعورَها، وتُصبِحُ في حالَةٍ من السُباتِ وإنْ لم تَفقُدِ الحياةَ، وفي وُسْعِ هذه الأمّةِ أن تعودَ إلى وَعيِها القوميِّ حِينَ تَعودُ إلى تأريخِها القومِيّ، ولكنّها تدخلُ في عِدادِ الأمواتِ حينَ تفقدُ لُغتَها.
ومهما كانتْ عليهِ تلكَ الروابطُ المَعنويَّةُ مِن وَجاهةٍ وإقناعٍ نِسْبِيٍّ فإنَّها لم تكنْ قادِرةً علَى أن تَجدَ لها مَكاناً في نُفوسِ وأذهانِ أولئكَ الذينَ يَفتَقدونَ في ذَواتِهم ’’الرُوحَ القوميَّة‘‘ أو ’’الحِسَّ القوميَّ‘‘ أو ’’الشُعورَ القوميَّ‘‘. إن النزعةَ القوميَّةَ، على حدِّ تعبيرِ الحَصْرِي، ’’تُشبِهُ حُبَّ الأطفالِ لأُمّهاتِهم، وحُبُّ الأُمّهاتِ لأطفالِهنَّ‘‘. لقد واجَهَ المتشبِّعونَ بالروحِ القوميّةِ بالاستنكارِ والسُخطِ ما جاءَ على ألْسِنَةِ بعضِ المُتناقِشينَ في نَدوَةْ عقدتْها مجلّةُ ’’المُصَوَّر‘‘ القاهريّة، 1953، حولَ موضوعِ شخصيّةِ المصريين. لقد كانَ مَحَطَّ استنكارِهم وسُخطِهم ما جاءَ على لسانِ ’’عبد الرحمن عزّام‘‘(2)، أوّلِ أمينٍ عامٍّ لجامعةِ الدُولِ العربيّةِ، من تَردادِ لِشِعارٍ يقولُ في بَعضِ ما يقولُ: ’’نحنُ مِصريُّونَ أوّلاً وعَرَبٌ ثانياً‘‘ ومن قولِهِ بأنَّ صِلَةَ مِصْرَ بالبُلدانِ العربيّةِ إنّما هيَ تقومُ علَى اعتباراتٍ أمنيّةٍ دِفاعيّة.
لقد استهجَنَ ’’الحَصْرِي‘‘ ما كانَ يَنقُله ذلكَ الأمينُ العامُّ للجامعةِ العربيّةِ إلى الرأيِ العامِّ من رَأْيٍ يَنسِبهُ إلى ’’سَعد زَغلول‘‘(3)، زعيمِ حزبِ الوفدِ المِصريِّ، يقولُ: ’’إذا جَمعتَ صِفراً إلى صِفرٍ إلى صفرٍ، فستكونُ النتيجةُ صِفراً. يقولُ ’’ساطِعْ الحَصرِي‘‘ في كتابه ’’العُروبةُ أوّلاً‘‘ (بيروت 1957، ص 38) مُعبِّراً عن استهجانِه لهذا الرأي: ’’علينا أولاً أن نَكُفَّ عن اعتبارِ أنفسِنا وشعوبِنا أصفاراً، وعلينا ثانياً أن نُؤمِنَ بأنَّ في شُعوبِنا قُوىً كامنةً هائلةً يُمكنُ أن تتحوَّلَ إلى قُوىً فاعِلةٍ، وعلينا في آخِرِ الأمرِ أن نَكُفَّ عن الاستشهادِ بكلمةِ ’جَمعِ الأصفارِ إلى الأصفارِ إلى الأصفارِ في قضايا القوميَّةِ العربيّةِ، ولو كانتِ الكلمةُ المذكورةُ من بَناتِ أفكارِ سعد زغلول الخالدة‘‘.
إنه لَأمرٌ مُلاحَظٌ شِبهُ خُلُّوِ أدبيّاِت القوميّةِ العربيّةِ من مُصطَلَح ’’نظريّة‘‘ بَلْ نجدُ مصدَراً رئيسيّاً بين هذه الأدبياتِ، وهو الميثاقُ الوطنيُّ للجُمهوريّةِ العربيّةِ المتّحدةِ الذي أقرَّهُ المُؤتَمَرُ الوطنيُّ للقُوَى الشعبيّةِ، القاهرة 21 أيار 1962، يَعتبرُ الميثاقَ إطاراً للحياةِ ودليلاً للعملِ من أجلِ المستقبل، ولكنّهُ في الوقتِ نفسِهِ يَنفي عنهُ صِفةُ ’’القداسةِ‘‘ النظريّةِ، ويذهبُ إلى وَصفهِ بأنه ’’أسلوبٌ‘‘ للحركةِ الشاملةِ، وأنّه أداةٌ في يَدِ تَحالُفِ قُوَى الشعبِ العاملةِ وليس قيداً عليها.
وإنه لَأمرٌ مُلاحَظٌ استمراريَّةُ شِبْهِ الخُلُوِّ هذا في تلكَ الأدبيّاتِ إلى أيّامِنا المُعاصِرَةِ، فَقَبْلَ أسابيعَ أصدرَ المُؤتَمَرُ القوميُّ السابعُ الذي انعقدَ في الدارِ البيضاءِ بيانَه الخِتاميَّ ’’بيانُ الأمّةِ‘‘، وهو مُجَرَّدٌ من كُلِّ إشارةٍ إلى مُصطَلَحِ ’’نظريّة‘‘، بَلْ نجدُ فيهِ كلَّ ما يَدعمُ الفكرَ القوميَّ بمُصطَلَحاتٍ قد تَزيدُ المفهومَ والتصوُّراتِ ضَبابيَّةً من أمثالِ مُصطَلَحاتِ ’’العَقلانِيَّةِ‘‘ و’’العَصْرَنَةِ‘‘ و’’الأصالَةِ‘‘ و’’الديمقراطيَّة‘ِ‘ و’’التَكامُلِ‘‘ بينَ الجَماعات. يَعتبرُ البيانُ هذه المصطلحاتِ أُسُسَاً تُشكّلُ ’’ردّاً حقيقيّاً‘‘ على ’’كلِّ ما تُواجِهُه الأمّةُ من تَحَدِيّات‘‘!
ورُبَّما يكونُ في كلِّ ذلكَ ما يَدفعُ إلى الخَلطِ في التَوجُّهاتِ والتَناقُضِ في الاتجاهاتِ على نَحوِ ما يُلاحَظُ في ذلكَ البيانِ من خَلطٍ وتَناقُضٍ بين ’’مُجابَهَةِ النظامِ العالَميِّ وتَيّارِ العَولَمَةِ‘‘ و’’تحقيقِ أكبرِ قَدرٍ من المَنافِعِ في إطارِه‘‘، أيْ إطارِ تَيّارِ العولَمَةِ، وعلى نَحْوِ ’’وَضعِ نهايةٍ للهَروَلَةِ في مَجالِ الخَصخَصَةِ وبَيعِ القَطّاعِ العامِّ‘‘ و’’إفساحِ المَجالِ للقَطّاعِ الخاصِّ وتَوجيهِه نحوَ إقامةِ مشاريعَ مُنتِجة‘‘.
وقد يُطرَحُ تساؤُلٌ عن مَدَى ضَرورَةِ التحوُّلِ من ’’المَفهومِ‘‘ و’’التَصَوُّرِ‘‘ إلى نظريّةٍ، ألا يُمكنُ الاكتفاءُ بالممارسةِ العمليّة ِواستقاءِ العِبَرِ والدُروسِ من التَجربةِ والتجاربِ والخطأِ أو الأخطاء؟
إن كَثْرةَ المشاكلِ وتَعَدُّدَ ارتكابِ الأخطاءِ وتَكْرارَ الاصطدامِ بالعَثَراتِ يَحصرُ المُفكِّرَ القومِيَّ في دائرةٍ ضيّقَةٍ من الموضوعاتِ لِتَغيبَ عن مَجالِ رُؤيَتهِ موضوعاتٌ أخرَى لها خُطورتُها، إنهَ يفتقِدُ النظريَّةَ التي تُتِيحُ له الرؤيةَ الشاملةَ والّتي في وُسعِها تَيسيرُ ملاحظةِ العَلاقاتِ بين الموضوعاتِ وما في القَضايا من تَشابُكٍ وتَقاطُعٍ والتعرُّفُ على مَواقِعِ التشابُكِ ومَراكزِ التَقاطُع والإحاطةُ بالوَزنِ النَوْعيِّ للمَشاكلِ ومَدَى تأثيراتِها حاضِراً ومُستقبلاً.
إنَّ التجربةَ مفيدةٌ ولَكِنْ من الأجدَى أن تكونَ هناك رؤيةٌ شاملةٌ قبلَ خوضِ التجربة. وإذا ما دخلَ القائدُ معركةً من أجلِ أنْ يُفَكِّرَ مِن داخِلِها مُخَطِّطاً ومُحارِباً في آنٍ واحدٍ فإنّه كثيراً ما يَنتهي، هو نفسه، إلى إلحاقِ الهزيمةِ بِجَيشِه، وقد تكونُ الهزيمةُ مُرَّةً وعميقةً وساحِقةً نفسيّاً وبَشريّاً ومادِّيّاً، وفي التاريخِ القريبِ للأمّةِ العربيّةِ أكثرُ من شاهدٍ ومِثال.
لَقدْ قِيلَ فيما قِيلَ بأنَّهُ ليسَ هناكَ شئٌ جيّدٌ على صَعيدِ المُمارَسةِ والتَطبيقِ العَمَليِّ أحسنُ من نَظريّةٍ جيّدةٍ، وإنَّ تَوفُّرَ نظريّةٍ قوميّةٍ عربيّةٍ يُساعِدُ المفكِّرَ القومِيَّ العربيَّ على اكتشافِ مُعاناتِه، إنّه مِثلُ الطبيبِ الذي يُشَخِّصُ أعراضَ ما يُعانِيه من مَرَضٍ أسرعَ من غيرِه. وفي انعدامِ الرغبةِ في تَوَفُّرِ نظريّةٍ دَليلٌ على أمرَيْنِ، أولُّهما العَجزُ عَن وَضعِ نظريّةٍ واضِحةٍ المَعالمِ مُحكَمَةِ الصياغةِ، لها قُدرتُها في التعرُّفِ على المَشاكِلِ ومعالَجتِها، وثانيهِما الرِضَا بِما هو قائِم. وإنَّ دُعاةَ الفكرِ القوميِّ قد رتَّبُوا مُمارساتِهم على أنْ لا تكونَ هناكَ نظريَّةٌ ولِأيّ مِن السَببينِ يَظَلُّ ’’المشروعُ الحضاريُّ القوميُّ‘‘ عاجزاً عن الاستِواءِ على قَدَمَيْهِ، فاقداً الحيويَّةَ والحركةَ بالرغمِ من كلِّ التحدّياتِ القائمةِ والمُستَقبَليّةِ.
إن مُصطَلَحاتِ ’’الهُوِيّة‘‘ و’’الوُجودِ القوميِّ‘‘ و’’الشُعورِ القوميِّ‘‘ و’’الحِسِّ القوميِّ‘‘ ستبقَى مُصطلحاتٍ إنْ نفعتْ في تحريكِ الأقلامِ شعراً ونثراً فإن الاستمرارَ على تَردادِها سينتهي إلى بُطلانِ مَفعولِها الحَماسيِّ وإلى عَطَلٍ في الفِكرِ وخَلَلٍ في التَصَوُّرِ وضَبابِيَّةٍ في الأهدافِ وارتباكٍ في المَساعي وتَناقُضٍ في الوسائلِ وانحِسارٍ في الجُهدِ التَنظِيري.
وكَلامي، كما قال شيخٌ من شيوخِنا، صَوابٌ يحتملُ الخطأَ، وكلامُ غَيري خَطأٌ يحتملُ الصوابَ، وفوقَ كلِّ ذي عِلْمٍ عَلِيم.
*****************
1- ساطع الحُصري (1879-1968)، مفكر وكاتب سوري، كان أحد رموز القوميّة العربيّة في العصر الحديث. أسس وزارة المعارف السورية ووضع المناهج التربوية في سوريا والعراق وشارك في تأسيس كليّة الحقوق في جامعة بغداد، وكان مستشاراً لدى جامعة الدول العربية.
2- عبد الرحمن عزّام (1893-1976)، مصري، الأمين العام الأول لجامعة الدول العربية (1945-1952)، وهو من المؤسسين لهذه الجامعة.
3- سعد زغلول (1858-1927)، زعيم مصري وقائد ثورة 1919، من أبرز المطالبين باستقلال مصر. شغل منصب رئيس وزراء مصر ورئيس مجلس الأمّة، وزعيم حزب الوفد المصري.
نشرت في صحيفة ’’البيان‘‘ (الإمارات)، 7-5-1997.
1143 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع