
ذو النورين ناصر زاده
الأصيل واللصيق...حين تُختبر الجذور ويغبر الطريق
يُقال إنّ المعدن الأصيل لا يلمع في الرفاه، بل في الصدأ والضيق؛ فالنار هي الممحّص الأكبر لكل ما يُدَّعى من نقاء، والبلاء هو المِصفاة التي تُسقط الزيف وتُبقي الصدق. فالحياة في جوهرها ميدان امتحانٍ لا ميدان زينة، وغاية الوجود فيها أن يُختبر الإنسان في صدقه لا في قوله، وفي ثباته لا في ادّعائه. وكما لا يُعرف الذهب إلا حين تُسلّط عليه النار، كذلك لا يُعرف جوهر الإنسان إلا حين يُبتلى بحرّ الموقف وضيقه، فهناك تتساقط الأقنعة وتتكشّف المعادن.
في أزمنة الرخاء واليسر، تتشابه الوجوه وتتداخل الألوان وتتماهى الأصوات، حتى يصعب التمييز بين من يحمل في قلبه الولاء صدقًا، ومن يتخذه سلعةً يُتاجر بها. تغدو الانتماءات حينئذٍ شعاراتٍ تُرفع، والعناوين الكبيرة تُعلَّق كما تُعلَّق الزينة في المواسم، يلوّح بها كل من أراد وجاهة أو مصلحة. ولكن ساعة الجدّ لا تعرف التزيين ولا تحتمل الزيف؛ هناك، في المحكّ الصادق، يبين الأصيل من اللصيق، ويُكشف الثابت من المتلوّن، وتُفرز القلوب كما تُفرز المعادن في النار.
الأصيل، حين تشتدّ الخطوب، لا يُفارق أصله، لأنه ينتمي لا بالاسم بل بالجوهر، ولا بالادعاء بل بالفعل. فالأصل عنده ليس شجرة مورقة يفيء إليها حين يحتاج الظل، بل جذرٌ يسكن في دمه، وذاكرة تعيش في مروءته، وميثاق يضبط بوصلته في وجه العاصفة. الانتماء لديه ليس ورقة نسب تُعلَّق على الجدار ولا عنوانًا يُقدَّم في المجالس، بل هو عهد بينه وبين التاريخ، وعروة وثقى لا تنفصم مهما طال الزمن أو تبدّل الظرف. فالأصيل لا يبدّل رايته وإن خسر، ولا يساوم على جذره وإن أُقصي، لأنه يدرك أن الأصل لا يُستعار، وأن الشرف لا يُشترى، وأن المجد لا يُنال بالتصفيق، بل بالصبر والصدق والموقف.
أما اللصيق، فهو كظلٍّ يتبع الضوء ما دام ساطعًا، فإذا غاب النور تلاشى معه. يتغنّى بالأصل ما دامت الكلمة تورث وجاهة، ويتفاخر بالنسب ما دام يُدرّ عليه منفعة، فإذا تبدّلت الأحوال أو تزعزعت الموازين، تنكّر وانسلّ، كما يتنصّل التاجر من صفقة خاسرة. إنّه ابن الظرف لا ابن الموقف، وابن المصلحة لا ابن المروءة. لا يعرف ثباتًا في ولاء، ولا صدقًا في انتماء، لأن أصله من صنع اللسان لا من عمق الجنان.
ويا للمفارقة المؤلمة في زمننا هذا، زمنٍ كثر فيه الادّعاء وقلّ فيه الثبات، زمنٍ تتبدّل فيه المواقف كما تتبدّل الفصول، ويُباع فيه الشرف في أسواق المصلحة بأبخس الأثمان. صار بعضهم يبدّل انتماءه كما يبدّل ثوبه، ويُبدّل لقبه كما يُبدّل لهجته، ليرضي ظرفًا ويغازل نفعًا. نسي هؤلاء أن الأصل ليس عباءةً تُخلع عند الغبار، بل جلدًا لا يُنتزع إلا بانتزاع الروح، وأن الانتماء الحقيقي لا يُغيَّر كما تُغيَّر الشعارات، بل يُولد مع الإنسان ويموت معه.
وما أشدّ المفارقة حين ترى من كان بالأمس يفاخر بالانتساب والانتماء إلى آل بوناصر، تلك القبيلة النبيلة التي نُسجت من فروسيتها أساطير المجد، ومن شهامتها دروس الكرامة، ومن شرفها عنوان الأبوة والشمم، يتنصّل اليوم من لقبه وانتسابه حين تميل الرياح، ويغيّر انتماءه ليرضي واقعًا زائلًا. كأنّ الأصل في ميزان اللصيق عبءٌ يُثقل، لا شرفٌ يُشرّف؛ وكأنّ الدم الشريف صار عنده رقمًا في سجلات الهوية لا عهدًا في سجل الضمير.
لكنّ التاريخ لا يُخدع عوارفه، والأرض لا تُكذّب أبناءها. فـآل بوناصر منذ فجر سربتهم مرورا بكل ما نابهم لم يكونوا قبيلةً تُقاس بعدد، بل قيمةً تُقاس بثبات الموقف. عرفهم الناس حيث يُختبر الرجال، لا حيث تُوزّع المغانم؛ في الملمات لا في الولائم، في ميادين الفعل لا في موائد القول. حملوا الشرف لا كوسامٍ يتباهون به، بل كتوريثٍ للواجب، وكوصيةٍ في الكرامة، وتوارثوا الكبرياء كما يُورّث السيف من غمده وهجَه. لم يبدّلوا جلودهم أمام تبدّل الزمان، ولم يرضخوا لسطوة المصالح، لأنهم أدركوا أن الكرامة لا تورَّث بالأسماء، بل تُصان بالفعل والثبات.
من هنا، كان الأصيل من هذه السلالة إذا ضاق به الزمان ازداد شموخًا، وإذا تكاثرت حوله الرياح ازداد رسوخًا. لا يبيع نسبه بثمن، ولا يغازل ظرفًا بقول، لأن الانتماء عنده هوية لا بطاقة، وميثاق لا علاقة ظرفية. ولأنه صادق مع أصله، فإنه لا يُقاس بما يملك، بل بما يثبت عليه حين يخسر كل شيء. فالثبات في زمن التلون بطولة، والوفاء في زمن التقلّب بطولة أعظم.
أما اللصيق، فحاله حال الريشة في مهب الريح؛ لا قرار له ولا اتجاه. تارةً مع الريح وتارةً ضدها، يُغيّر لونه كما تُغيّر الحرباء جلدها، فلا يُعرف له وجه واحد ولا مبدأ ثابت. وإذا سُئل: "من أنت؟" أجاب بما يوافق اللحظة لا بما يصدق التاريخ. وهنا يتجلّى الفرق الجوهري بين الأصالة والانتحال، بين من يُعبّر عنه أصله، ومن يتزيّا بأصلٍ ليس له.
لقد علّمتنا الحياة أن البلاء مرآة الوجوه، وأن الأزمات هي المِمحاة التي تُزيل طلاء الادّعاء، وأنّ الحقيقة لا تظهر إلا حين تغيب الزخارف. فحين تعصف العواصف وتضطرب الأرض وتختل المواقف، يبقى الأصيل واقفًا كالنخلة في مهبّ الريح، يضرب بجذره في عمق الأرض وإن انحنى غصنه قليلًا، بينما يُقتلع اللصيق من أول نسمة لأنه لم يُغرس أصلًا. الأصالة هنا ليست ماضٍ يُتغنّى به او فرصة تتسنى له، بل حاضرٌ يُختبر فيه الوفاء والارتباط كل يوم.
الأصالة هي أن تبقى وفيًّا لما وُلدت وشببت وجبلت عليه من اسم ولقب وعنوان، حتى لو غيّر الناس وجوههم وأقنعتهم والقابهم. هي أن تحمل اسمك كما يحمل الجندي سيفه، لا يضعه إلا حين يموت. فالأصيل لا يُساق حيث يسير القطيع، ولا يبدّل وجهه إرضاءً للزمن، بل يسير في طريقه ثابتًا على ما يُمليه عليه ضميره، حتى لو سار وحيدًا. لأنه يعلم أن الوحدة في الحق أشرف من الزحام في الباطل، وأن الوفاء للأصل فخر، حتى لو صار الصمت ثمنًا له.
مخلص القول، تبقى الحقيقة ناصعة لا يطمسها غبار المصالح ولا تُبدّلها رياح المواقف: الفرس الأصيل يبين في المخاضة، والإنسان الأصيل يبين في الموقف. أما الزيف، فيغيب مع أول غروب، وأما الأصالة، فتبقى كالنجم في ليل التاريخ، لا يُطفئه غبار، ولا تنال من ضوئه ريح. فمن يبايع على ثبات اصالته

1020 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع