
قلم باندان
مناطق العراق الاغر بين فتحٍ يطهِّر ووجودٍ يستعمِر
ما من تجربة في التاريخ حملت من الطهر والعدل ما حملته تجربة الفتح الإسلامي الأول، يوم كان السيف لا يُشهر إلا لإزالة ظلم، ولا تُرفع الراية إلا لتستقيم بها حياة، ولا تُدخَل مدينة إلا لتُطهَّر من طغيانٍ أو جهلٍ أو فسادٍ في ميزان الإنسان والحق. كان الفاتح المسلم، يومذاك، يفتح ليقيم المبدأ، لا ليبني إمارة، ويعبر الأرض ليزرع في تربتها شجرة العدل لا خيمة السلطان.
كانت سُنّة الفتح يومها، أن لا يقيم الجيش في الأرض التي فتحها إلا ريثما تستقر أمورها ويُبنى صرح إدارتها بأيدي أبنائها، وفق عهودٍ موثقةٍ تحفظ الكرامة والحقوق، وترسم الواجبات بين الطرفين: الفاتح والمفتوح.
فإذا استقام الأمن واستتبّ النظام، غادر الفاتحون المكان كما يغادر الطبيب سرير المريض بعد أن يستردّ عافيته، لا يبقون حوله إلا في حدود الحاجة. مبقين من يحكم المكان ويكون من اهله.
لم تكن تلك الفتوح مشروع استيطان، ولا كانت غزواتٍ من أجل المكسب أو الغنيمة؛ كانت رسالة تحريرٍ من الظلم، لا استبدالًا لظلمٍ بظلمٍ آخر.
ولهذا، استطاعت تلك الدولة الفتيّة أن تتعاظم في عقودٍ معدودة حتى غدت من أعظم دول التاريخ، لأنها بُنيت على أساسٍ من العدل، لا على فوهات البنادق، وعلى إرادة الناس، لا على هيمنة الجيوش.
لكن حين نطلّ على مشهد العراق اليوم — في مدن الشمال والغرب، من الموصل إلى تكريت، ومن بيجي إلى سامراء، ومن بعقوبة إلى الدور وما حولها — نجد صورةً معكوسة، تُحزن الضمير وتستفز الذاكرة.
فقد جاءت سرايا وميليشيات تحت شعار “التطهير من الإرهاب”، وحقًّا كان الإرهاب آنذاك سرطانًا مستشريًا لا بد من استئصاله.
غير أن الجراحة التي كان يُفترض أن تكون علاجًا مؤقتًا، تحوّلت إلى إقامةٍ دائمة، والجراح لم يغادر غرفة العمليات بعد أن تماثل الجسد للشفاء.
لقد مكثت تلك القوى بعد أن انقضى مبرر وجودها، واستحالت من سرايا تحريرٍ وتطهيرٍ إلى سرايا سيطرةٍ وتمكين، ومن أدوات إنقاذٍ إلى أدوات نفوذٍ واحتلالٍ مموّه.
طاب لها المقام بعد أن كان واجبًا عليها الرحيل، واستمرأت البقاء بعدما انتفى الموجب الأخلاقي والعسكري لوجودها.
وها هي اليوم تتحرك في الأرض التي كانت من قبلها موطئًا لجيش الفتح النزيه، تمارس دورًا لا يمتّ إلى روح الفتح الإسلامي بصلة، وإن تشبّثت باسمه ورايته.
شتّان بين راية تُرفع لتُحرّر، وراية تُرفع لتستحوذ؛
بين من يُقيم العدل ثم يرحل، ومن يُقيم في الأرض ثم يفرض مشيئته عليها؛
بين من يرى في السيف وسيلةً إلى حقٍّ أعلى، ومن يجعل من السيف غايةً بحدّ ذاته.
الذين فتحوا المدن في صدر الإسلام، لم يتركوا وراءهم ثكناتٍ أو سرايا تقيم في أحشاء المدن، بل تركوا قيمًا تسري في العقول والضمائر.
أما الذين يقيمون اليوم باسم التحرير، فقد حولوا المدن إلى خرائط نفوذ، والناس إلى مناطق تماس، حتى صار الأمن ذريعةً للبقاء، وصار التحرير سلمًا للتمكين.
إنّ التاريخ لا يُعيد نفسه إلا حين يُغفل دروسه. والدرس الأبلغ هنا أن السلاح، متى تجاوز مداه الطبيعي، يفقد شرعيته الأخلاقية.
وأن الجيش الذي لا ينسحب بعد انتهاء مهمته، يتحول من قوة حمايةٍ إلى قوة ابتلاعٍ للسيادة.
وأن من يبرّر الإقامة باسم الخطر، يُخفي في باطنه خوفًا من زوال المكسب لا من عودة العدو.
لقد وُجدت تلك السرايا لتواجه خطرًا طارئًا، لا لتستبدل به خطرًا مستدامًا،
والمجتمع الذي يُسلّم أمره إلى الميليشيا، يُفرّط بسيادته وإن رفع ألف شعارٍ وطني.
فالمسؤولية لا تُقاس بعدد البنادق، بل بقدرة الدولة على استعادة قرارها من السلاح المنفلت.
في فتح الأمس، كان الجيش يغادر ليترك المدينة لأهلها؛ وفي واقع اليوم، يبقى الجيش ليجعل أهل المدينة غرباء فيها.
في فتح الأمس، كان العهد صكًّا للكرامة؛ وفي واقع اليوم، صار “العهد” كلمةً تبريرية لتكريس واقع السيطرة.
في فتح الأمس، كان القائد يزهد في الغنيمة ويزهو بالعدل؛ وفي واقع اليوم، صار العدل شعارًا والغنيمة ممارسة.
ذلك هو الفارق بين من فتح الأرض ليُقيم فيها القسط، ومن أقام فيها ليُمسك بمفاتيحها.
ولذلك فإن كل ادعاء بالانتساب إلى “دولة الإسلام” أو إلى “نهج الفاتحين” لا يُثبت إلا بالفعل، لا بالقول، وبالانسحاب بعد الانتصار، لا بالإقامة بعد انتهاء الخطر.
إن العراق اليوم أمام لحظةٍ تاريخية حرجة:
فإما أن يستعيد معناه الوطني الكامل عبر إنهاء عسكرة المدن ورفع ثقل الميليشيات عن صدور الناس، وإما أن يبقى أسير دورةٍ لا تنتهي من “تحريرٍ يعقبه تمكين، وتمكينٍ يعقبه استبداد”.
العراق لا يحتاج إلى سرايا تمكث في المدن، بل إلى ضميرٍ وطنيٍّ ينهض من بين الركام،
ولا يحتاج إلى سلاحٍ يفرض الأمن، بل إلى دولةٍ يُولَد الأمن من هيبتها وعدالتها.
فما من مدينة تُشفى وفي عروقها شوكةُ ميليشيا، وما من وطنٍ ينهض في ظل ازدواج القرار.
العراق، الذي حفظت تربته ذاكرة أولى الحضارات، يستحق أن تُعاد إليه هويته بوصفه وطنًا لا غنيمة، ودولةً لا ثكنة، ومجتمعًا لا ساحة صراع.
ولن يُكتب له ذلك إلا حين تُستعاد المدن لأبنائها، وحين تُزال المتاريس لا الأحياء، وحين يُدرك الجميع أن الكرامة الوطنية لا تقبل الشركاء في القرار.
التاريخ لا يرحم من يزوّر رسالته،
ولا يخلّد من جعل النصر ذريعةً للبقاء،
فالفتح الحقيقي اليوم ليس في السيطرة على الأرض، بل في تحرير الإرادة منها.
والجيش الأعظم ليس من يملك الأرض، بل من يعرف متى يغادرها مرفوع الرأس، بعد أن أعاد لها كرامتها.
فليت من يرفعون اليوم رايات “التحرير” يدركون أن الفتح ليس إقامة، وأن العدل لا يولد من فوهة بندقية، وأن الأرض التي تُطهّر ثم يُمكث فيها، إنما تُختطف مرتين:
مرة باسم الإرهاب، ومرة باسم محاربته.
العراق لا يريد منقذين يقيمون، بل عادلين يمرّون،
ولا يحتاج إلى سرايا تتكاثر، بل إلى ضميرٍ وطنيٍّ واحدٍ يعلو فوق كل راية.
ذلك هو جوهر الرسالة التي حملها الفاتحون الأوائل،
وذلك هو ما ضيّعه من جاء بعدهم حين بدّل العدل بالسلطان، والمبدأ بالمصلحة، والفتح بالهيمنة. فما أعظم الدرس، وما أبعد الشبه بين فتحٍ يطهّر ووجودٍ يستعمر.

1155 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع