وائل المرعب
( لميعة عباس عمارة ) غنج القصب وتمايل البردي
أنها سومرية السلالة ..وحين ولدت في منطقة الشواكة من كرخ بغداد لاحت في عينيها الواسعتين ظلالاً لزقوّرة أور ودارت فيها حكايا وأساطير .. وحين عمّدوها تلك المندائية الصغيرة بنهر العمارة ما كانوا يعلمون بأنها ستسرق من الماء عذوبته ورقته .. وعندما أزهرت كشابة أتسعت عيناها أكثر فبدت كشبعاد وأخذ قوامها شكل وأنحناءات قوام عشتار .. ولمّا كتبت أوّل قصيدة وأرسلتها الى الشاعر المهجري ( ايليا أبو ماضي ) وهي لم تتجاوز الخامسة عشر .. سأل من أين هذه الصبية الشاعرة ؟ أخبروه أنها من مدينة في جنوب العراق .. مدينة لا يبين ترابها لفرط ما غاصت أرجلها في الماء حد الركب .. مدينة أينعت أوجاعها قصباً وبردي حتى غدت سماؤها ملعباً لطيور الدنيا .. مدينة مجروحة القلب والصوت , يتبادل أهلها الغناء كما تتبادل النائحات النواعي ... فمن ذلك الماء وتحت رفيف تلك الأجنحة وبين أعواد ذات القصب وضمن صدى ذلك الغناء المجروح , تكوّنت اللبنات الأولى لتلك القدرة الشاعرة في وجدان تلك الصبية .. فتفتـّق الشعر لديها بلونه الشعبي أوّل مرة فبرعت بالموّال و( الأبوذية ) والقصيدة , وحين أسرتها الفصحى بعد أن أمتلكت مفاتيح أسرارها فكتبت القصيدة الكلاسيكية التقليدية وكتبت قصيدة التفعيلة وأبدعت في كليهما .
شاهدتها اوّل مرة في اتحاد الأدباء العراقيين وكنت صبيا تشكلت أنتباهاته الشعرية حديثاً , وشاهدتها للمرة الثانية وهي تلقي قصائدها بعد أنتهاء الحرب العراقية الأيرانية وكانت قد زارت العراق من منفاها .. وفي كلا المرتين كان صدى أستحسان جمهور المستمعين ذو دويٍّ مضاعف .. مرّة لعذوبة شعرها الذي أشاع في رحبة المكان كمٌّ هائل من العواطف والأستثارات الحميمة , ومرّة لها هي .. ألقاءاً سحرياً .. وقدّاً يتمايل على أيقاع جرس القصيدة , وكأن ستون عاماً ـ كان عمرها آنذاك ـ لم تأخذ من رونقها وأناقتها شيئاً , كانت تقرأ ويلوح في عينيها سؤال فاضح .. من منكم أيها الجالسون يقوى على أغراء أنوثة قصائدي وأنوثة ألقائي ؟ .
عشقها غالبية الشعراء .. وحين قال فيها بدر السياب في واحدة من قصائده الجريحة ( أحبيني ) :
( وتلك وتلك شاعرتي التي كانت لي الدنيا وما فيها
شربتُ الشعر من أحداقها ونعست في أفياء
تنشـّرها قصائدها عليّ فكل ما فيها
وكل شبابها كان أنتظارٌ لي على شطٍّ يهوّمُ فوقه القمرُ
وتنعسُ في حماه الطير رش نعاسها المطرُ )
أعترفت الشاعره بهذا العشق وأعترفت أنها ناشدته هو بعد عشرين عام على رحيله حينما قالت ( لو أنبأني العراف ) :
( لو أنبأني العراف
أني سألاقيك بهذا التيه
لم أبكِ لشيءٍ في الدنيا
وجمعتُ دموعي
كل الدمع
ليومٍ قد تهجرني فيه )
أن فترة أغترابها الطويلة التي قضت أغلبها في مدبنة سان دييغو الامريكية فشلت في أن تمحو شيئاً من ذاكرتها العراقية , بل تعمّق لديها الشعور بالأنتماء وظلّت مواويلها هي ذات المواويل بطعمها البرحي تملأ أسماع الدنيا في المحافل والندوات الشعرية وتنثال قصائدها مطراً ربيعياً على جباه مستمعيها التي وسمتها الغربة بلون الرماد , كما نراها أوّل المؤبنين حين يرحل مبدع عراقي كبير .. فهي أوّل من رثى العالم العراقي البارز الدكتور عبد الجبار عبد الله ..
صافح محبّيك الكثار فلطالما أنتظروا اللقاء
أين البسيط السمح عمق البحر تحليق السماء
أحببت حتى قاتليك فجلَّ خلق الأنبيـــاء
وحين وصلها خبر رحيل الجواهري الكبير كانت في مقدمة من وقف على منصّة الأربعين ..
تحدّيت الاّ الموت وحسب تحدّيا ومت وظل الظلم في الأرض طاغيا
وكنتَ غراماً في يباس حياتنـــا اذا قلتَ أشعلت الفضاء قوافيـــا
وعيناك عين الصقر ترقبُ أنملي فأشطبُ بيتاً لم تكن عنه راضيا
وهكذا تقف لميعة عباس عمارة في الصف الأول من شعراء الحداثة الشعرية العراقية والعربية , وهكذا أستطاعت من أن تفلت من آسار القصيدة الذكورية لترسم مساراً جديداً في الشعر الأنثوي وتؤسس لقصيدة التحدّي ..
أتدخنين ؟
لا
أتشربين ؟
لا
أترقصين ؟
لا
ما أنت جمع لا ؟
أنا التي تراني
كل خمول الشرق في أرداني
فما الذي يشدّ رجليك الى مكاني
ياسيدي الخبير بالنسوان
أن عطاء اليوم شأن ثان
حلـّق
فلو طأطأت لا تراني
لذا ولكي نراها دائماً علينا أن لا نطأطأ أبداً .. فهي نشأت محلـّقة وظلت محلـّقة .. ونحن سنبقى في أنتظار دائم لرفيف أجنحة قصائدها وغنج قوافيها وإنوثة إلقاءها الساحرة .
1445 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع