د. زكي الجابر
حاجتنا تتضاعف للتنسيق والتخطيط(١)
خلال السنوات الخمس المقبلة ننتظر انفجارا في استخدام الاتصالات اللاسلكية قياسا على ما شهدناه من تطور خلال العقدين المنصرمين. والصورة التي قدمتها ’’ذي وول ستريت جورنال‘‘ (The Wall Street Journal) للأرضية التي اعتركت وتعترك عليها تلك الاتصالات تخبرنا بأن المتوفر منها في عام 1982 تمثل في التلفزيون والراديو والراديو ذي الاتجاهين والاستدعائية أو المناداة والاتصالات عبر الأقمار الصناعية، وبالأخص في مجالات الدفاع. وفي عام 1997 يتوفر، إلى جانب كل ذلك، البث التلفزيوني الرقمي عبر تلك الأقمار ومتابعة التصوير من خلالها والتليفونات الخلوية والتليفونات الرقمية الذكية التي تجمع بين التليفون الخلوي والراديو ذي الاتجاهين والاستدعائية والتراسل القصير وخدمات الانترنت والحواسيب اللاسلكية اليدوية والاستدعائية ذات الاتجاهين وخدمات التليفون اللاسلكي المحلي الثابت، وكذلك الخدمات اللاسلكية المتصلة بالتلفزيون الحبلي (الكيبل) وشبكات الحواسيب وأجهزة فتح المرآب (الكراج) وتشغيل التلفزيون عن بعد ومجسات آلات البيع ومقاييس الكهرباء وصناديق البريد. ومن المتوقع أن تعايش البشرية في عام 2002، فضلا عن كل ما سبق، ومن خلال الأقمار الصناعية، بث البيانات وخدمات التليفون الخلوي وخدمات الانترنت ذات السرعة الفائقة والاستشعار والتلفزيون الرقمي ممتزجة مع خدمات الانترنت والشبكات الرقمية ذات الحزمة العريضة وضمان أمن المساكن لاسلكيا.
إن قراءة تلك التطورات تكشف عن التسارع الذي يشهده عالم الاتصالات اللاسلكية، كما تكشف كذلك عن تعقيد التكنولوجيا تصنيعا وصيانة. وإذ لا يبدو أمرا صعبا شراء تلك المعدات وحيازتها ما دامت أيدينا تدفع فإن الأمر الأصعب هو استيعاب صناعتها وصياغتها، وتمكين المواطن من الاستفادة المثلى منها عن طريق وصوله إلى المعلومات واستثمارها. إن عدم التوصل إلى المعلومات يماثل الحرمان من الضوء، كما أن توفر المعدات في ظلام غياب المعلومات والاستفادة منها لا يعني سوى اقتناء كتل من الحديد والنحاس والبلاستيك، وذلك أمر يرسم في أذهاننا صورة الليل الذي تتلبس فيه البقر لونا واحدا هو السواد.
يذكرنا ’’بيرل رودال‘‘، أحد المعنيين بتطوير عمليات التسيير على النطاق الدولي، بدعوة الاستضافة التي وجهت إليه، ولقد أخبره مستقبله بالكيفية التي تمكنه من الاتصال به، وتشمل عدة عناوين بريد الكتروني وأرقام فاكس وتليفونات خلوية، ثم أردف مستقبله يقول: ’’ومع ذلك، وبالرغم من كل تلك العناوين والأرقام، فلست متأكدا أنك قادر على الاتصال بي‘‘. ترى ما نفع أجهزة التواصل إذا لم تسعف على التواصل بمعناه المحدود والتواصل بمعناه الأشمل، حين يستهدف توطيد السلم وإقامة العدالة وضمان كرامة كل البشر. وبخلاف ذلك فإننا نعيش لغز البقاء متسائلين كما تساءل ’’سير جوليان هكسلي‘‘ من قبل: ’’البشر، لأي شيء؟‘‘. وإذا ما كانت الحواسيب وأجهزة الإعلام تستهدف نشر المعلومات فإننا في الواقع بدأنا نحس أكثر بشيوع التماثل وانحسار إرادة الاختيار وتلاشي البدائل إن لم نقل تلاشي وجود تصور لبدائل!
وفي حدود هذه الإشكالية، إشكالية اقتناء معدات التواصل، لا يمكن إغفال وجهة النظر التي تعتبر هذه الأدوات أو الوسائط محايدة لا تضمر نوايا، وتجاوبا مع وجهة النظر هذه يضرب ’’مارشال ماكلوهان‘‘ لنا مثلا بالمصباح الكهربائي الذي يضيئ ما حوله من غير تمييز. وعلى عكس وجهة النظر هذه هناك وجهة نظر أخرى تذهب إلى نفي الحياد عن هذه الوسائط، وأنها عبر التاريخ تسيطر على الإنسان والطبيعة.
ومن هذا المنظور فإن شراء هذه الأجهزة من بلد مصنِّع معين يحمل في طياته توجها سياسيا. إننا لا نشتري الأجهزة وقطع غيارها وخبرة تشغيلها وصيانتها فحسب بل نتبنى، ضمنيا، قيم البلد المنتج، وبالرغم مما في كلتا وجهتي النظر من تضاد فإنهما تغفلان التعرض إلى أن هذه الأجهزة ينبغي أن تكون من أجل حرية التعبير والإفصاح عن الإرادة ومعالجة إشكاليات تعايش الإنسان مع أخيه الإنسان ومع الطبيعة. إن شرعية وجودها تصبح موضع شك وتساؤل عندما توظف من أجل قهر الفكر الناقد وتجاوز حدود الحياة الشخصية.
ومن هنا تتجلى الحاجة الماسة إلى حرية الإرادة في عمليات اقتناء هذه الأجهزة، كما تتجلى ضرورة تكوين خبرات ومهارات وطنية قومية في الجوانب المعرفية لهذه التكنولوجيا تصنيعا وتشغيلا وصيانة وتخطيطا لمراحل الاستعمال. إن البقاء في موقع ’’التبعية‘‘ لا يشتمل على تبني قيم البلد المنتج فحسب بل ينطوي كذلك على ألفة التهميش والرضا به والتعامل معه كواقع لا مفر منه.
أيكون هذا الاقتناء المتسارع للمصنعات المتسارعة في مجال الاتصالات اللاسلكية ظاهرة لا تنفصل في جزئياتها ومجملها عن التيار العام الذي يحمل معه مظاهر حضارة الاستهلاك، حضارة الأكلات السريعة والنماذج المتماثلة من الفنادق ومكاتب الطيران ووكالات الإعلان والسيارات وموسيقى الصخب وأقراط الآذان؟ أم يأتي حصيلة جهود متواصلة لخلق إحساس بالجوع حيث لا جوع، وبالتحرق إلى الري حيث لا ظمأ، وما في كل ذلك من مظاهر ’’تقمص‘‘ ما لدى الطرف الآخر؟ ألم نسمع عن إمكانية خلق حاجة لدى سكان الأسكيمو لاقتناء الثلاجات وأجهزة التبريد، وخلق رغبة تدفع ساكنة الأكواخ إلى شراء أجهزة التلفزيون الملون؟ أم أن الأمر ينحصر في غياب الرؤية المستقبلية وضمور خبرة التخطيط وافتقاد كفاءة البرمجة؟!
قد أميل إلى الجمع بين كل تلك الأسباب، وإن كنت أرى في السبب الأخير، غياب الرؤية المستقبلية، عاملا له مساهمته العميقة في هذا الاندفاع غير المتزن لاقتناء أجهزة اتصالات أصبحت، لدى تأمُّل اتساع انتشارها، مثار إشفاق لما ينطوي عليه الأمر من تبذير وغفلة وسوء استعمال.
أليس مثيرا للإشفاق أن يزورك صديق في بيتك لتداول شأن خاص من شؤون الحياة، وإذا تليفونه المحمول يرن، ويأخذ الضيف بالحديث مع طرف آخر في شأن آخر، وأنت تنظر ببلاهة لا تدري ما تفعل خلال ذلك؟!
أليس مثيرا للإشفاق أن تمتلك أقطارنا العربية مجتمعة قنوات فضائية موجهة للخارج أكثر مما تمتلكه الولايات المتحدة أو كندا أو أستراليا أو روسيا أو..؟!
أليس مثيرا للإشفاق أن تجد قنواتنا الفضائية تبث المسلسلات ذاتها، والنشرة الإخبارية الموجهة للداخل هي ذاتها الموجهة للخارج، وترتسم على الشاشات الوجوه المعدودة ذاتها من الممثلين والممثلات؟!
أليس مثيرا للإشفاق أن يتوفر لدينا العديد من محطات الإذاعة والتلفزة ونحن نفتقد المهارات والقدرات العالية في كتابة البرامج وصياغة الدراما وتوظيف اللقطات؟!
أليس مثيرا للإشفاق أن نرى كل ذلك ولا نفعل شيئا، وكأن سفننا تمخر عباب الاتصالات بلا بوصلات، مفتقدة التنسيق والتشاور في رسم الخطط ووضع البرامج؟!
إن حاجتنا لتتضاعف إلى التنسيق والتخطيط لكي نحقق استفادة مُثلى عن طريق إرضاء مختلف التخصصات والتصادي مع مختلف الهوايات والرغبات، وقبل ذلك وبعده التجاوب مع الحاجات الأساسية للمواطن العربي، وفي مقدمتها قهر الأمية الأبجدية التي يعاني منها ما يقرب من ثمانين مليون عربي، والأمية النفسية التي تشيعها أغاني ’’الفيديو كليب‘‘ و ’’الحنجلة‘‘ والرقص المبتذل والموسيقى التي تهز البطون والأكتاف قبل النفوس، والأمية الفكرية التي تتسرب إلى الأذهان حين ينتفي الحوار ويغيب النقاش، وتسود الدعاية التي توظف التقنيات لاحتلال عقل المواطن وسلب إرادته وقتل اختياراته.
لعلك تشاركني الرأي في أهمية التنسيق والتخطيط في حيازة أجهزة الاتصالات والاستثمار النافع لهذا الركام من المعدات والأجهزة وصولا إلى تلبية الحاجات الأساسية، حاجات قهر الأمية بكل ألوانها وتصانيفها، و ’’الثوب القذر أحوج إلى الصابون منه إلى البخور‘‘.
**********************
(1) نشرت في صحيفة البيان (الإمارات)
26-4-1998
1057 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع