حول قصة دوستويفسكي" في قبوي"

                                                      

                              د. جابر ابي جابر

           

حول قصة دوستويفسكي" في قبوي"

كتب دوستويفسكي هذا العمل في النصف الأول من عام 1864. وكانت الفترة المذكورة سعيدة ودرامية في آن واحد بالنسبة له. فمن جهة حصل الكاتب مجدداً على اعتراف أدبي بعد عودته من المنفى ، ومن جهة أخرى شهد آنذاك مرض ووفاة زوجته الأولى ماريا دميتريفنا. وقد كان العقد السابع من القرن19 عصر تجديد بالغ الأهمية بالنسبة لروسيا حيث جرت خلاله الإصلاحات الكبرى للقيصر ألكسندر الثاني. كما كان هذا العقد، في الوقت نفسه، عصراً جديداً لدوستويفسكي أيضاً حيث بدأ مع أخيه ميخائيل بإصدار مجلة"فريميا " (الزمان-1861-1865)، التي نشر فيها قصته" في قبوي"، ثم أصدر بعدها مجلة" ايبوخا"(العصر). وقد شهدت هذه الحقبة، على خلفية الإصلاحات المذكورة، انتشاراً سريعاً للحركة الصحفية في روسيا. وفي هذا السياق تابع دوستويفسكي إلى جانب انتاجه الأدبي العمل الصحفي فأصدر مجلة"غراجدانين" (المواطن) وكتب أثناء ذلك روايته"المراهق" ثم ظهرت مجلته الرابعة وهي" يوميات كاتب". وعلى هذا النحو أصبح النشاط الصحفي مقدمة وخاتمة لرواياته الكبيرة. وقد حافظ باستمرار على هذه الخوارزمية بدءاً من الجريمة والعقاب وانتهاء بآخر أعماله الادبية" الأخوة كارامازوف". ومما لا شك فيه أن قصة" في قبوي" فتحت حقبة جديدة في أعمال دوستويفسكي الأدبية كانت، في الوقت نفسه، المفتاج الضروري لفهم آرائه الفلسفية.
تشكل قصة"في قبوي" اعترافاً أدبياً مقروناً بنثر فلسفي يتجلى موضوعه الرئيسي في مشكلة المثقفين العاجزين عن استخدام إمكانياتهم في المجتمع . وهي تًعرض في شكل تأملات للبطل وتمثل مذكرات موظف سابق يبلغ من العمر أربعين عاماً استقال من وظيفته بعد حصوله على ميراث صغير. وهو يعيش في شقة رثة بأطراف العاصمة الروسية بطرسبورغ منقطعا انقطاعاً شبه تام عن
المجتمع حيث توقف عن مغادرة شقته واعتزل الناس. ويجري سرد القصة على لسان البطل الرئيسي. وهنا يعود دوستويفسكي مجدداً إلى تناول مشكلة المثقف الروسي العاجز عن استخدام امكانياته في المجتمع، الذي حطمته الكتل الحجرية الضخمة لمدينة بطرسبورغ. ولكنه، في هذه المرة، يصوره ليس في شكل عاطفي وإنما بسخرية لاهوادة فيها. يسعى هذا الموظف السابق، بعد أن ابتعد عن صخب الحياة الروتينية اليومي، ووجد نفسه وحيداَ، إلى إجمال محصلة حياته وتقديم تحليل مسهب لها. فهو يبحث في جوهر المجتمع المعاصر له. ويصبح من الواضح أنه يحتقر العالم الحقيقي والناس العاديين. وقد وجد في مطالعة الكتب ملاذاً له. وهو إذ يعارض المجتمع كإنسان مفكر ليس راضياً، مع ذلك، عن نفسه، على ضعفه وجبنه وعجزه عن مقاومة الواقع المحيط ولهذا اختار العيش في "قبوه" بمعزل عن الناس.
من الصعب إجراء عرض موجز لمضمون القصة نظرا لشحة أحداثها وخاصة في الجزء الأول، الذي يمثل بصورة أساسية تأملات البطل حول حياته ومكانته في المجتمع وآرائه الفلسفية. وعلى العموم تأتي هذه التأملات بمثابة اعتراف أدبي.
يقع العمل في جزأين. ويضم الجزء الأول 11 فصلاً صغيرة وهو يكاد يخلو من الأحداث. أما الجزء الثاني فإنه يحتوي على 10 فصول وعنوانه" حول الثلج الذائب" وهو أكبر بثلاثة أضعاف من الجزء الأول. في الجزء الأول يتحدث البطل المجهول الاسم عن مشاعره وآرائه الشخصية إزاء العالم. إنه يعتبر نفسه شريراً وشخصاً غير جذاب. ولكنه فيما بعد يصف نفسه على نحو معاكس. ولدى قبوعه في قبوه يحلل هذا الرجل طبعه الخاص ويتحدى الآراء السائدة في عصره بخصوص الطبيعة البشرية ونظرية تطور المجتمع. وهو ينفي التقدم في تطور الإنسان والنظرية التي تذهب إلى أن الإنسان يحتاج فقط إلى إظهار مصلحته الخاصة والسعي إلى حياة سعيدة . ويرى البطل أن أهم شيء بالنسبة للإنسان ليس فقط النعيم والهناء وإنما المعاناة أيضاً . فإن النزوة والخيال والرغبات العابرة بالنسبة له أهم من المصلحة،إذ أن الحق في أن تكون له رغباته الخاصة يشغل عنده المقام الأول.
وفي القصة نجد البطل الراوي مسرفاً في جلد الذات وهو يعاني من حالة قنوط وتناقض ويريد الإفلات من القيود والضوابط العقلانية والاجتماعية. ويبدأ مذكراته بالشكوى من مرضه ويعرب عن علاقته بالطب والأطباء حيث يعلن:" أنا رجل مريض ... أنا إنسان خبيث، أحسب أنني أعاني مرضاً في الكبد، على أنني لا أفهم من مرضي شيئاً على الإطلاق. ولا أعرف، على وجه الدقة، أين وجعي. وانا لا أداوي نفسي ولا داويت نفسي في يوم من الأيام رغم أنني أحترم الطب والأطباء. ولكنني، من جهة اخرى، أؤمن بالخرافات إلى أقصى حد...".
ثم يتحدث عن تصرفاته عندما كان موظفاً وطريقة تعامله مع المراجعين فيقول:" كنت موظفاً شريراً يتصرف على نحو فظ. وقد كان يسرني ويبهجني أنني كذلك. كنت لا أرتشي، فكان لا بد أن أعوض خسارتي هذه بتلك الفظاظة... حين كان المراجعون يقتربون من مكتبي ليسألوني عن أمر من الأمور، كنت أشعر بلذة لا حدود لها إذا أفلحت في أن أذل أحدهم". وبعد ذلك يناقض البطل نفسه بشأن تصرفاته مع المراجعين فيقول: " لا! لقد كذبت حين زعمت أنني موظف شرير. وذلك كذب مرده إلى غضبي . كل ما هنالك أنني كنت أتسلى مع أولئك المراجعين وذلك الضابط، ولكنني لم استطع يوماً من الأيام أن أجعل نفسي شريراً حقاً...ولكن ألا يتراءى لكم، ايها السادة، أنني نادم على شيء لا أدري ما هو، وإنني أستفزكم لسبب لا أعرفه؟ لا شك في أنكم تقدرون ذلك.... على كل حال سيان عندي أن تظنوا هذا أو لا تظنوه...". ويتابع حديثه المتناقض قائلاً :" وطبيعي إنني كنت أبغض جميع موظفي الدائرة، من أولهم إلى آخرهم، وكنت احتقرهم كلهم. ولكنني كنت، في الوقت نفسه، أخشاهم جميعاً فيما أظن. حتى لقد كان يتفق لي أن أضعهم فوقي وأن انزلهم في منزلة أعلى من منزلتي...فأنا تارة احتقر الناس وتارة أرفع من شأنهم وأعظِّم قدرهم". ثم يقع البطل في حالة شديدة من الإحباط فيقول:" لم أستطع أن أصبح أي شيء، لم أستطع ان أصير حتى شريراً، لا خبيثاً ولا طيباً، لا دنيئاً ولا شريفاً، لا بطلاً ولا حشرة...". ثم ينتقل إلى الحديث عن أسباب تركه للوظيفة " التمست لنفسي عملاً لأنه كان عليّ أن أقيم أودي ، فلما ورثت في العام الماضي عن رجل يمت إليّ بقربة بعيدة ، ستة آلاف روبل، أسرعت أستقيل من وظيفتي واستقريت في ركني ... غرفتي دميمة، قذرة، تقع في آخر المدينة. خادمتي امرأة قروية، عجوز تبلغ من الرداءة حد الخبث والشر، وهي فوق ذلك كريهة الرائحة دائماً...". ويشعر البطل بنفسه إنشاناً ضائعاً تماماً لا محل له من الإعراب في هذا العالم فيقول :" ... ليتني لم أكن إلا كسولاً! لشد ما كنت سأحترم نفسي عندئذ! لأنني كنت سأرى أنني قادر على ان أكون كسولاً في أقل تقدير، أن تكون لي على الأقل مزية محدودة معينة أنا منها على يقين...". ويعرض البطل مفهومه الخاص للألم، الذي يعتبر عادة من المفارقات. فهو يرى أن في الألم لذة إذ يقول:" ...طبعاً! إن في وجع الأسنان لذة: لقد عانيت وجع الأسنان شهراً بأكمله، فأنا أعرف ماذا أقول. إن الإنسان لا يتوجع صامتاً حين يكون في أسنانه مرض. إنه يئن. ولكن أنينه تعوذه الصراحة. إن في الأنين شيئاً من المكر. والأمر كله إنما يكمن هنا. إن الأنين هذا يعبر عن لذة الشخص الذي يتألم. فلو لم يشعر المريض بشيء من اللذة لكف عن التوجع والشكوى".
ثم يستعرض رجل القبو مسألة" الجدار الحجري" حيث يؤكد أن الإنسان الفعال يفعل أو يتوقف عن الفعل عندما يصطدم بالمستحيل أي بالجدار الحجري. وهو يعني بذلك القوانين الطبيعية وثمرات العلوم الدقيقة ونتائج الرياضيات وهي القوانين التي تجعلنا نسلم بأن 2×2=4 وأن نستنتج كل ما ينبثق عن هذا الواقع. ويتابع البطل حديثه قائلاً:" عفواً، إنكم لا تستطيعون أن تحتجوا: أن" 2×4=2" ؛ والطبيعة لا تحفل بدعواتكم ولا تكترث لمزاعمكم. إنها لا تهتم برغباتكم، ولا يعنيها كثيراً أن لا توافقكم قوانينها ، فأنتم مضطرون أن
تقبلوها كما هي، وأن تقبلوا كل ما ينحدر منها ويترتب عليها...ولكن فيما يعنيني قوانين الطبيعة والرياضيات يا رب، إذا كانت هذه القوانين وهذه المعادلة "2×2=4" لا ترضيني ولا تعجبني؟ صحيح أنني لن أستطيع أن أحطم هذا الجدار بجبيني، إذا كانت قواي لا تكفي لهذا العمل، ولكني أرفض أن أذل أمام هذا الحاجز لمجرد أنه جدار من صخر وأن قواي غير كافية".
وفي مكان آخر يؤكد البطل تمييزه من ناحية الذكاء عن الآخرين حيث يقول:"لقد كان ذكائي نامياً نمواً عظيماً يبلغ حد المرض، كما كان ينبغي ان يكون ذكاء رجال هذا العصر، أما هم فقد كانوا جميعاً أغبياء، وكانوا يتشابهون تشابه الخراف. ولأن كنت الوحيد الذي يعد نفسه جباناً، وعبداً، ، فلعل ذلك هو أن ذكائي كان أنمى من ذكائهم...".
من المهام الرئيسية للكاتب في هذه القصة هي نقد التصورات التقليدية حول الوعي، التي ترجع إلى الفيلسوف الفرنسي ديكارت"... إن الإسراف في إدراك الأشياء والشعور العميق بها مرض، مرض حقيقي، مرض كامل، إذ أن إدراكاً عادياً هو، من أجل حاجات الإنسان، اكثر من كافٍ، إن نصف الإدراك أو ربع الإدراك، الذي يصيب المخلوق المثقف في قرننا التاسع عشر هذا الشقي، أكثر من كافٍ، ولاسيما إذا كان هذا المخلوق قد أوتي سوء الحظ فأقام في مدينة بطرسبورغ". إن نموذج الإنسان، الذي يطوره دوستويفسكي في عمله، يتيح لنا الاستنتاج بأن الصفة الرئيسية للإنسان بالنسبة له هي القدرة على معارضة العالم ومقاومته وعدم الخضوع لقوانينه. فهو، حسب اعتقاد المؤلف،لا يستطيع أن يكتسب شخصيته الفريدة إلا من خلال معارضة كهذه رغم أن الأغلبية من الناس غير قادرة على ذلك.
يشن دوستويفسكي في قصته هذه هجوماً عنيفاً على فلسفة عصر التنوير، التي وصلت إلى روسيا في الستينات من القرن 19 بعد تأخر دام عشرات السنين. ورغم ذلك فإن هذه الفلسفة استولت على عقول الشباب وسيطرت على أذهان المثقفين الروس الطليعيين وفي مقدمتهم نيكولاي تشيرنيشفسكي بكتابه"ما العمل؟"، الذي دوخ رؤوس أجيال عديدة. ففي القصة يتجادل المؤلف مع تشيرنيشفسكي والتنوير الروسي الراديكالي المتأخر ويخوض صراعاً مريراً ضد النزعة العقلانية. ويلاحَظ هنا ان تشرنيشفسكي هو الخصم المباشر، الذي يتحدث عنه دوستويفسكي في القصة دون أن يسميه على الإطلاق، حيث يصل وطيس الصراع ضد نظرية الأنانية المعقولة والتفاؤل التاريخي لتشيرنيشفسكي إلى حد غير مسبوق، إذ يعلن البطل أن نظرية مؤلف رواية " ما العمل؟" غريبة عن الجوهر الحقيقي للطبيعة البشرية ويرى في الأنانية المعقولة مجرد تمويه لنزعة التملك والجشع. ويتساءل الكاتب قائلاً على لسان البطل:" هل اتفق للإنسان في يوم من الأيام خلال هذه الألوف من السنين،أن يعمل إلا وفقاً لمصلحته؟ فما قولكم إذن بتلك الملايين من الوقائع التي تشهد بأن البشر مع إدراكهم لمصلحتهم، ينبذون هذه المصلحة إلى المحل الثاني، ويسيرون في طريق آخر مختلف كل الاختلاف ، طريق مليء بالمصادفات والمخاطر؟ وهم رغم هذا غير مضطرين إلى ذلك اضطراراً ولا هم مجبرون عليه إجباراً ، وإنما يبدو أنهم يريدون عامدين أن يتنكبوا الطريق الذي يُدلُون عليه، وأن يرسموا بحريتهم، على ما يشاء هواهم وتحب نزواتهم، طريقاً آخر مليئاً بالمصاعب، طريقاً عجيباً مستحيلاً غامضاً لا يكاد يُعرف أو يُدرك. إن هذا يدل على أن هذه الحرية هي في نظرهم أكثر فتنة وجاذبية من مصالحهم".
ويضيف قائلاً " ...إن المدنية لا تزيد على أن تنمي فينا تنوع الإحساسات... ولا شيء غير ذلك. وبفضل نمو هذا التنوع، قد يحدث أن ينتهي الإنسان إلى أن يكشف في(إراقة) الدم نوعاً من اللذة .. ولكن إن لم تكن المدنية قد جعلت الإنسان أشد تعطشاً للدم، فمما لا شك فيه أنها جعلت تعطشه إلى الدم أخبث وأجبن. ففي قديم الزمان كان الإنسان يرى أن من حقه أن يسفك دماً، فكان إذا سفك دم من يشاء من الناس، يفعل ذلك هادئ البال مرتاح الضمير. اما اليوم فنحن نسفك الدماء مثلما كان يسفكها الأقدمون بل أكثر منهم، رغم أننا نعد سفك الدماء عملاً سيئاً. فهل هذا أفضل؟ أفصلوا في الأمر بأنفسكم! ويتوقف البطل قليلاً عند نظرته إلى الانتقام إذ يؤكد على " أن الإنسان ينتقم لأنه يعد ذلك عدلاً. فهو إذن قد وجد المبدأ الأساسي الذي كان ينشده. إنه العدل. وهو يشعر إذن بطمأنينة كاملة. فينتقم هادئاً كل الهدوء. وهو يظفر بالانتقام ظفراً تاماً لاقتناعه بأنه يقوم بعمل عادل شريف. ولكنني أنا أرى في ذلك لا عدلاً ولا خيراَ. فإذا حاولت إذن أن أنتقم كان ذلك من جانبي شراً محضاً. صحيح أن الغضب الحانق قد ينتصر على جميع هذه الترددات وقد يستطيع أن ينوب مناب تلك العلة الأساسية، لا لشيء إلا لأنه لا يمكن أن يعد هو تلك العلة الأساسية. ولكن ما حيلتي إذا لم أكن شريراً بقدر كافِ؟".
وفي معرض حديثه عن مبدأ حرية الاختيار يشير إلى " أن الإنسان، أيا كان، يتطلع في كل زمان ومكان إلى أن يعمل وفقاً لإرادته لا وفقاً لأوامر العقل والمصلحة. وإرادتكم يمكنها بل و"يجب عليها" أحياناً ... أن تناقض مصالحكم. فإرادتي الحرة، ومشيتي الطليقة، ونزوتي مهما كانت مجنونة، وبدوات خيالي مهما تكن مهتاجة محمومة، ذلكم هو بعينه الشيء الذي يغفلونه ويسقطونه من الحساب، تلكم هي المصلحة التي هي أغلى وأثمن من سائر المصالح، والتي لا يمكن أن تجد لها مكاناً في تصنيفاتكم، والتي تحكم جميع المذاهب وجميع النظريات ألف جزء".
ويتابع البطل الكلام حديثه حول هذا الموضوع الهام حيث يقول:"اسمعوا يا سادتي، إن العقل شيء ممتاز، ذلك أمر لا يمكن جحوده، ولكن العقل هو العقل، وهو لا يرضي في الإنسان إلا ملكة التفكير العقلي، أما الرغبة فهي تعبر عن مجموع الحياة، أي عن الحياة الإنسانية كلها، بما فيها العقل ووسواسه. ورغم أن حياتنا في تعبيرها عن نفسها على هذا النحو، تكتسي، في كثير من الأحيان، مظهراً رديئاً جداً، فذلك لا ينفي أنها الحياة، لا استخراج الجذر الطبيعي... إن العقل لايعرف إلا ما تعلم (ولعله لم يعلم شيئاً غير هذا في يوم من الأيام، وليس ذلك عزاء ولكن ما ينبغي أن نخفيه)، اما الطبيعة البشرية فإنها تفعل بكل ثقلها إن صح التعبير، مستخدمة كل ما تضمه وتشمل عليه، بشعور وغير شعور . قد ترتكب أكاذيب، ولكنها تحيا.... إن هناك حالة، حالة واحدة، قد يريد فيها الإنسان، عامداً، أن ينشد ما هو مخالف لمصلحته، وأن يسعى إلى ما يبدو له غباء وبلاهة وسخفاً، لا لشيء إلا أن يتحرر من الاضطرار إلى اختيار ما هو نافع ولائق. ذلك ان هذه السخافة، هذه النزوة، قد تكون يا سادتي أنفع شيء في نظرنا على وجه الأرض، ولا سيما في بعض الأحوال حتى لقد تكون هذه المنفعة أعلى من سائر المنافع، ولو كانت تحمل إلينا أذى واضحاً وكانت تناقض أسلم النتائج التي ينتهي إليها استدلاننا العقلي وتفكيرنا المنطقي . ذلك أنها تصون لنا وتحفظ علينا الشيء، الذي هو أعز عندنا وأغلى في تقديرنا من سائر الأشياء، ألا وهو شخصيتنا".
ونلاحظ في القصة تكرار إشارات البطل إلى "قصر الكريستال"، الذي يقصد به نظاماً اجتماعياً دولياً قائماً على العقل وخالياً من الفوضى. فهو، في اعتقاده، ليس حلماً رائعاً وإنما بناء بارد جرى تشييده بنسب محسوبة على نحو دقيق حيث لا مكان للفرد ولحرية الاختيار، ويتم فيه تحديد دور اجتماعي معين لكل شخص. ويكمن موقف البطل من هذا القصر في رفض القيم الإنسانية التقليدية والعلاقات المتعارف عليها بين الناس عموماً وإعراض البطل عن عالم الواقع. وهو يرى أنه في الطبيعة البشرية ليس فقط الحاجة إلى النظام والازدهار والسعادة فحسب، بل وكذلك الفوضى والدمار والمعاناة. فإن"قصر الكريستال"، الذي لا مكان فيه للأمور الأخيرة، لا يمكن الدفاع عنه كمثل أعلى نظراً لأنه يحرم الإنسان من حرية الاختيار.
في مستهل الجزء الثاني من العمل، الذي يأتي بعنوان" بمناسبة الثلج الذائب"، يتحدث البطل عن علاقاته مع الناس وخاصة عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره فيقول "كانت حياتي عندئذ على ما هي عليه الآن قاتمة، مضطربة، فوضى، معتزلة اعتزالاً متوحشاً لم يكن لدي علاقات، حتى لقد كنت أتحاشى أن أكلم أي إنسان ولايخطر ببالي إلا أن أختبئ في ركني. وكنت أثناء الساعات التي أقضيها في المكتب أحاول ألا أرفع عيني نحو أحد؛ ولكنني كنت ألاحظ تماماً أن زملائي يعدونني إمرءاً متفرداً شاذاً، وكان يخيل إليّ أيضاً أنهم ينظرون إليّ بشيء من النفور والكراهية.... وطبيعي إنني كنت أبغض جميع موظفي الدائرة من أولهم إلى آخرهم، وكنت أحتقرهم جميعاً. ولكنني كنت، في نفس الوقت، أخشاهم جميهاً، فيما أظن. حتى لقد كان يتفق لي أن أضعهم فوقي وأن أنزلهم في منزلة أعلى من منزلتي. وتلك أمور تحدث لي دائماً على حين غرة: فأنا تارة أحتقر الناس، وتارة أرفع شأنهم وأعظم قدرهم...لقد كان ذكائي نامياً نمواً عظيماً يبلغ حد المرض، كما ينبغي أن يكون رجال هذا العصر؛ أما هم فقد كانوا جميعاً أغبياء، وكانوا يتشابهون تشابه الخراف. ولئن كنت الوحيد الذي يعد نفسه جباناً وعبداً، فلعل سبب ذلك هو أن ذكائي كان أنمى من ذكائهم...ففي جميع الأزمان كان الرجل الشريف جباناً وعبداً. وإذا اتفق له أن يصطنع الشجاعة فما ينبغي له أن يتباهى بذلك وأن يفاخر لأنه سرعان ما سيأخذ بعد ذلك بالتباكي. هذا قانونه الأبدي. الحمير والبغال وحدهم شجعان، بعض الشجاعة من جهة أخرى, وهؤلاء لا يستحقون منا عناء الالتفات إليهم! إنهم لا شأن لهم البتة".
كما يوضح الجزء الثاني محاولات البطل القفز من طرف إلى آخر من أجل أن يثبت لنفسه فعاليته وقوته. أمام القارئ، هناك العديد من الأحداث، التي يعتبرها المؤلف الأكثر لفتًا وكشفًا في سيرته الذاتية، ويشير فيها إلى فترة الشباب وهي تضم أشخاصاً حيّة كان لهم تأثير على حياة البطل. ففي هذا الجزء يصبح القارئ شاهداً على موقف أثار غضب البطل في إحدى الحانات حيث قام ضابط طويل القامة وقوي البنية بإبعاده من طريقه على نحو غير لائق ليتسنى له مشاهدة لعبة البلياردو. وقال بهذا الصدد:" لقد وقفت قرب مائدة البلياردو ، وأخذت أزعج اللاعبين وأنا لا أعرف منهم أحداً. وأراد الضابط أن يمر، فأمسكني من كتفي، وأبعدني دون أي شرح، دون أن ينطق بكلمة، ومرّ كأنني لا وجود لي. كان يمكن أن أغفر له لطمات يكيلها لي، ولكن الشيء الذي لم أطق احتماله هو أنه أبعدني صامتاً بغير كلام". وقد اعتبر بطل القصة هذا التصرف إهانة كبيرة، وبعد ذلك صار يبغض جميع الضباط وخطط للانتقام وكره نفسه لعجزه عن الرد على الجاني فوراً. وبعد بضع سنوات، التقى البطل صدفة بهذا الضابط على الجسر، وتوجه إليه مباشرة ودفعه بكتفه. ثم كان فخوراً بنفسه بشكل لا يصدق. وقد قال بهذا الخصوص:"... وفيما أنا أمشي، وجدتني أعزم أمري وأتخذ قراري فجأة وأنا على بعد ثلاث خطوات من عدوِّي. أغمضت عيني...وتصادمنا، كتفاً بكتف... لن أتنح شبراً واحداً... ومررنا متحاذين كما يمر ندّان... ولم يقم الضابط بأي حركة، حتى انه لم يلتفت برأسه، وتظاهر بأنه لم يلاحظ شيئاً. ولكنني على يقين من أن ذلك لم يكن منه إلا وضعاً مصطنعاً. وما زلت على يقين من ذلك إلى يومنا هذا. وقد أوجعتني الصدمة أكثر مما أوجعته طبعاً، فهو أقوى مني جسماً وأصلب عوداً. ولكن هدفي قد تحقق كله. لقد أنفذت كرامتي...".
ثم قام البطل بمحاولة أخرى لإثبات فرديته لنفسه وللمجتمع تجسدت في سلوكه أثناء لقائه مع زملاء المدرسة خلال حفلة عشاء فاشلة. فبدلاً من العمل على الدخول إلى دائرتهم، حاول أن يؤكد بشكل واضح تفوقه على البقية، حيث أهان رفاقه، ونتيجة لذلك بقي وحيداً ومنبوذاً من جديد. ويقول رجل القبو في معرض حديثه عن تلك الحفلة :" ... وشعرت في بعض اللحظات بما يشبه طعنات السكين قسوة حين كانت تشق ذهني تلك الفكرة الرهيبة وهي أنني سأظل أتذكر دائماً، باشمئزاز ومذلة وهوان، بعد عشر سنين، بعد أربعين سنة، هذه الدقائق التي هي أنذل وأسخف وأفظع ما عرفت في حياتي من لحظات. حقاً لقد كان من المستحيل أن يذل إمرؤ نفسه إذلالاً يفوق هذا الإذلال خبثاً وشراً، وقصداً وتعمداً. كنت أدرك ذلك إدراكاً تاماً، ولكنني أواصل سيري من المائدة إلى المدفأة ومن المدفأة إلى المائدة. وكنت أقول بيني وبين نفسي في بعض اللحظات، مخاطباً في ذهني أعدائي الجالسين على الأريكة : "آه...ليتكم تعرفون مدى ما أملك من ذكاء!". ولكن أعدائي كانوا يتصرفون تصرف من لا يشعر بوجودي البتة!".
أما الحدث الأكثر إشراقًا في الجزء الثاني فكان اللقاء مع ليزا، وهي فتاة من بيت دعارة لديها روح نقية ولطيفة. وقد أحس البطل بمشاعر دافئة تجاهها، لكنه على الفور تصرف بوقاحة معها من خلال حديثه المفصل عن مصيرها المأساوي، إذ حاول أن يثبت لنفسه أنه أفضل وأعلى مستوى من محيطه. لقد حدثها البطل بكل ثقة عن تصوراته حول مستقبلها القاتم شارحاً لها بصراحة متناهية وقسوة فظيعة عما ستلاقيه خلال عملها كمومس. وخلال ذلك أشار إلى "إن رفيقاتك سيهوين على ظهرك هن أيضاً، مداهنة للقوادة، لأنهن جميعاً مستعبدات في هذا المكان، فقد فقدن منذ وقت طويل كل شفقة وكل وجدان. إن فيهن جبناً وحقارة. وليس على وجه الأرض إهانات أقذر ولا أسوأ ولا أقسى من الإهانات التي سيغمرنك بها. سوف تفقدين هنا كل شيء، حتى دون أن تلاحظي ذلك: سوف تفقدين صحتك وشبابك وجمالك وآمالك".
واستطرد "رجل القبو" يحدثها على هذا المنوال قائلاً:" ....إنك تتكلمين عن المستشفى، ليتك تُنقلين إلى المستشفى. ولكن ماذا إذا كنت مدينة للقوادة، وكانت القوادة في حاجة إليك؟ إن السل داء يطول أمره، فما هو حمى طارئة تخطف الحياة خطفاً. المريض بالسل يظل إلى آخر لحظة يأمل أن يكون في صحة حسنة ويؤكد أنه في صحة حسنة. إنه يعزي نفسه... والقوادة تجني من هذه الحالة النفسية نفعا....حتى إذا جاءت ساعة الاحتضار أعرض الجميع عنك ونسوك، إذ لا يبقى لهم فيك مأرب، ولا يبقى فيك نفع. حتى إنهم سيلومونك على أنك ما تزالين تشغلين مكاناً كبيراً ولا تموتين يسرعة ... هذه هي الحقيقة. لقد سمعت هذه الملامات بأذني..لم أقبل تلك الحقيقة بسرعة. وحين استيقظت في الصباح يعد عدة ساعات من نوم ثقيل كارصاص، استعرضت ذكريات الأمس فأدهشتني تلك " العاطفية المائعة" التي أظهرتها تجاه ليزا، وأدهشتني أحاديثنا تلك كلها عن " الشفقة والشرف". كيف أمكن أن أنقاد ذلك الانقياد الرخو لمثل تلك النوبة العصبية التي لا تجدر إلا بامرأة ضعيفة؟... ولماذا أعطيتها عنواني؟ ما عساي فاعلاً إذا هي جاءت؟ أوه! ألا فلتأت إذا شاءت أن تأتي! لا ضير...".
وبعد بضعة أيام جاءت ليزا إلى بيته فسارع إلى لومها على ذلك قائلاً" هلا قلت لي لماذا جئت إليَّ؟ هلا قلت لي ذلك من فضلك؟ لماذا جئت؟ أجيبيني! أجيبيني!... طيب... سأقول لك أنا، يا عزيزتي، لماذا جئت! لقد جئت لأنني قلت لك في ذلك اليوم"كلمات مؤثرة"، فرق قلبك، فأردت أن تسمعي كلمات أخرى من ذلك النوع. ألا فاعلمي أنني كنت في ذلك اليوم أسخر منك وأضحك عليك... لماذا ترتعشين؟ نعم، لقد سخرت منك. كانوا قد أهانوني أثناء العشاء... أولئك الذين وصلوا إليك قبلي، وقد جئت لأثأر من أحدهم، من الضابط، ولكنني لم أظفر بذلك، فإنهم كانوا قد انصرفوا. وكان لا بد لي مع ذلك أن أصب غضبي على أحد من الناس، فظهرت أنت في تلك اللحظة، فثأرت لنفسي منك وضحكت عليك....أنا في حاجة إلى الهدوء. إنني مستعد لأن أبيع الكون كله بقرش واحد، شريطة أن أُترك وشأني هادئاً مطمئناً! لو سُئلت ماذا تؤثر: ان يُهلك العالم كله أو أن تُحرم من احتساء نصيبك من الشاي لقلت: ألا فليهلك العالم شريطة أن أشرب الشاي! أكنت تعلمين هذا؟ أما أنا فأعلمه". وأضاف قائلاً :" اصفر وجهها اصفراراً شديداً وحاولت أن تكلمني. تقلصت شفتاها من الألم. ثم تهالكت على كرسيّ تهالك مَنْ ضُرب بفأس. وظلت تصغي إليّ فاغرة الفم جامدة العينين مرتجفة من الخوف. إن ما في أقوالي من وقاحة شديدة قد سحقتها سحقاً تاماً". ومع ذلك فقد اتضح أن ليزا امرأة ذكية بما فيه الكفاية فهي لم تصدق افتراءه على نفسه حيث فهمت وراء كل الكلمات ،التي نطق بها، أنه تعيس للغاية في موقفه الرافض للعالم وفي تعطشه للمثل الأعلى. وهو يشير بهذا الخصوص قائلاً :" إن ليزا التي أهنتها وسحقتها قد فهمت أكثر كثيراً مما كنت أتوقع أن تفهم. لقد فهمت من كل كلامي ما تفهمه المرأة حين تحب حباً صادقاً. لقد رأت أنني شقي بائس... واخيراً هرعت إليّ وأحاطت عنقي بذراعيها إحاطة قوية وأخذت تبكي صامتة. لم أستطع أن أقاوم فأجهشت أبكي كما لم أجهش قبل ذلك طيلة حياتي". وإلى جانب هذا يؤكد البطل أن ليزا فهمت الأمر الأهم بالنسبة لها وهو أنه عاجز عن أن يحبها. ويشرح البطل عجزه عن الحب بشغف "الاستبداد". فهو يفهم الحب ضمن ثنائية الاستبداد والخضوع. وليس من قبيل الصدفة أنه يلعب مع خادمه أبولو دور البطل والعبد بينما هو يعتمد عليه تماماً في الواقع. وهكذا نجد أن رجل القبو يحاول باستمرار البناء على نموذج الهيمنة والاستسلام. وهو خلاف ذلك لا يفكر في وجود علاقات أخرى بين الناس. ولكن ثمة شخصية وحيدة في القصة تحطم السلسلة الشريرة من العبودية- إنها ليزا. فهي تتعاطف بصدق مع البطل وهذا الأمر يصدمه ويرغمه على الانتقام منها لانتهاكها منطق العبودية. هذا الانتقام، الذي يمليه الوعي العبودي لرجل القبو، يتيح لنا رؤية سمات الاستبداد في شخصيته وهو المفهوم الشهير الذي اقترحه الفيلسوف الألماني نيتشه للدلالة على مجموعة من المشاعر، التي تدفع الإنسان إلى خلق صورة العدو من أجل تحميله الذنب عن كافة إخفاقاته.
لدى ذلك تتوقف مذكرات بطل القصة. ويتيح هذا للقارئ أن يأمل في أن يغيّر البطل موقفه تجاه نفسه والعالم من حوله عبر مراجعة حياته كتابةً وتحليل أفعاله.
أدهشت القصة المعاصرين بنبرة الراوي الموجعة والمثيرة للأعصاب. فهو يتحدث عن نفسه وعن العالم بارتياب وتشوش واسترسال في الكلام. وبهذا الصدد وصف عالم فقه اللغة الكبير ميخائيل باختين هذه الطريقة بالكلمة ذات الثغرة أي الكلمة المنفذ. ويبدو ذلك بصورة واضحة من العبارات الأولى للقصة:" أنا رجل مريض... أنا إنسان خبيث. لست أملك شيئاً مما يجذب أو يفتن. أظن أنني أعاني مرضاً في الكبد. على أنني لا أفهم من مرضي شيئاً على الإطلاق، ولا أعرف على وجه الدقة أين وجعي. وأنا لا أداوي نفسي....". وهنا ينوع بطل القصة الفكرة نفسها حيث يدحض فجأة نفسه مشيراً بذلك إلى عدم إمكانية معرفة"الأنا" الخاصة به وتعذر التكهن بها من جانبه. ويمكن للبطل، في الوقت نفسه، أن يجد دائماً ثغرة(خدعة بلاغية) أو انعطافاً أو عذراً أو زلة لسان أو كذباً لكي يبتعد عن طرح الأسئلة على نفسه. وقد كان دوستويفسكي مدركاً تماماً للتأثير الذي يحققه.
تعتبر قصة " في قبوي" نقطة تحول هامة ترسم الخط الفاصل بين مؤلفات دوستويفسكي المبكرة وأعماله الناضجة اللاحقة. وهي تجمع كافة موضوعات أعماله السابقة وتشكل محصلة أولية لتأملاته حول سر الوجود البشري. ومن الملفت أن الكاتب يقوم بتجربة أدبية جريئة حيث يجمع الشخصيات الرئيسية لأعماله المبكرة في شخصية واحدة. لقد تسنى للكاتب إنشاء شخصية أدبية متكاملة إلى حد مذهل تعكس جوهر الإنسان على نحو أفضل من جميع شخصيات أعماله السابقة, وبهذا المعنى يجب أن ينظر إلى بطل القصة على أنه الممثل الأكثر تمييزاً لتلك الحقبة الجديدة (السنوات 50-80 من القرن 19). يقطع البطل كافة علاقاته مع الناس، ويحكم على نفسه بالعزلة الكاملة. لكنه، في الوقت نفسه، يعاني بشدة من وحدته. ويتضح أنه تحت قناع الفرد الفخور يقبع رجل ضعيف داخليًا تمزقه الشكوك الأبدية ويتوق إلى التعاطف والحب. ومن المعروف أن التطلعات الفكرية المعقدة للبطل ذي النزعة الفردية القوية وصدمته الروحية، والشعور المأساوي بالعزلة عن حقائق الخير والعدالة البسيطة - كل هذا قاد دوستويفسكي في النهاية إلى أحد أعماله المركزية - رواية الجريمة والعقاب. يعرب بطل"في قبوي" عن احتجاجه ضد عالم العقل والمنطق، الذي يقوم العالم البشري على أساسهما. إنه احتجاج على معادلة 2×2= 4 وعلى أي "قرية نمل" و"قصر الكريستال" كأساليب لبناء المجتمع البشري. ويُطال احتجاجه في نهاية المطاف محاولة الإنسان الاستقرار على الأرض وتحسين أوضاعه المعيشية بدون الله. إن رجل القبو ليس نذلاً بأي حال من الأحوال. فهو يحاول أن يعارض العالم القائم ليحتفظ لنفسه بالحق في أن يكون له وجهة نظر نقيضة. إنه يسعى جاهداً إلى تجنب الكهف الافلاطوني ليجد زاوية الرؤية التي يمكنه من خلالها أن يرى عالم العقل المتعارف عليه وهو عالم الظلال والظلام والأوهام. وهو أيضاً، شأنه شأن العلامة ترتليان القرطاجي المسيحي، يعلن أن العالم المقبول عموماً ليس له أي شيء مشترك مع العالم الحقيقي، الذي يقع خارج حدود"الجاذبية" في المجال اللاعقلاني والعبثي.
كما أنه يعارض أرسطو، الذي لم يجد مصيبة أسوأ من فقدان الإنسان لعقله. ويصف رجل القبو نفسه على أنه شخص"سيئ" و"شرير" و"مريض". على كل حال ألم يقل دوستويفسكي في مذكراته: " أجل، إنهم يصفونني بالمريض. لكن مرضي أفضل من مرضهم". وهنا، في هذه القصة، تجري للمرة الأولى صياغة أسس الفلسفة الوجودية.
في كتابه "دوستويفسكي ونيتشه" أشار الفيلسوف ليف شستوف لدى حديثه عن قصة"في قبوي" إلى أنها " صرخة رعب تمزق الروح
انطلقت من رجل اقتنع فجأة أنه كان يكذب طوال حياته وهو يؤكد لنفسه وللآخرين أن الهدف الأسمى للوجود هو خدمة البشر. وحتى الآن، كان يعتبر نفسه محبوب القدر، وحامل رسالة عظيمة. أما الآن فقد شعر فجأة أنه ليس أفضل من الآخرين، وأنه لا يهتم بأي أفكار بقدر ما يهتم به الناس العاديون. وإن لسان حاله يقول دعوا الأفكار تنتصر ألف مرة على الأقل ودعوا الفلاحين يتحررون، ولتنشأ محاكم عادلة ورحيمة، ولينهار التجنيد الإجباري اللعين ! فهذا لا يجعل روحه تشعر بأي راحة أو تصبح أكثر بهجة. فهو مجبر بأن يقول لنفسه أنه إذا ألمت مصيبة بروسيا، لن يشعر، بدلاً من كل هذه الأحداث العظيمة والسعيدة، بالسوء والإنزعاج - وربما سيكون في حال أفضل...". ويشير الفيلسوف إلى أنه من حيث الجوهر تم التعبير عن كامل دوستويفسكي في "مذكرات في بيت الموتى" و" في قبوي" واعتبر هذين العملين خلاصة أعمال الكاتب حيث نجد كافة أفكاره الأساسية التي تحصل على تطورها في رواياته اللاحقة.
أما مكسيم غوركي فقد قدّم خلال المؤتمر الأول لاتحاد الكتاب السوفيت في عام 1934 تقييماً سلبياً لاذعاً لهذه القصة ترسخ خلال سنوات طويلة في النقد الأدبي السوفيتي. ولكنه اعترف بأن دوستويفسكي مارس تأثيراً قوياً على عدد من الكتاب في أوروبا. ويرى الكاتب البروليتاري أن بطل "في قبوي" جمع في شخصيته الملامح المميزة لفريدريك نيتشه واوسكار وايلد وبوريس سافنكوف وعدد كبير من "الانحطاطيين الاجتماعيين". وهو لدى ذلك لم يفرق بين التطلعات الروحية لدوستويفسكي وجوهر بطل " في قبوي" حيث قال:" ينسب إلى دوستويفسكي أنه باحث عن الحقيقة. فإذا كان كذلك فعلاً فإنه وجد هذه الحقيقة في الأصل الحيواني المتوحش للإنسان ولم يقم بذلك لدحض هذا الأمر وإنما من أجل تبريره". وفي بداية الخمسينات تهجم الناقد الأدبي يرمولوف على قصة"في قبوي" معتبراً إياها أكثر مؤلفات دوستويفسكي رجعية حيث يجري، حسب اعتقاده، "جدال حقود" مع رواية الثوري الديمقراطي "العبقري" تشرنيشفسكي " ما العمل". كما اتهم الناقد مؤلف "الأخوة كارامازوف" بالصوفية الدينية والظلامية. على كل حال جاءت انتقادات يرمولوف اللاذعة لدوستويفسكي مواكبة لروح العصر في الاتحاد السوفيتي الذي هيمن فيه الفكر الإلحادي. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أنه لم يتح إعطاء أعمال دوستويفسكي حقها من التقدير. وينسحب ذلك بصورة رئيسية على الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن العشرين. ففي تلك الحقبة حذا حذو يرمولوف، إلى هذا الحد أو ذاك، عدد كبير من النقاد السوفيت. وفيما بعد أصبح النقد الأدبي السوفيتي عموماً أكثر موضوعية، ثم جاءت حقبة البيريسترويكا وانهيار النظام الشيوعي ليتحرر الأدب تماماً من ربقة الرقابة المقيتة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

425 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع