جودت هوشيار
رواية «حماتي الذهبية» للروسي يوري نجيبين: ترنيمة للجمال والعاطفة المحرمة
يوري نجيبين (1920-1994) واحد من أنبغ الكتّاب الروس في العهد السوفييتي، روائي وقصصي ذو موهبة كبيرة، وقدرة متميزة على العمل الدؤوب المتواصل، يجد الكلمات المطلوبة بسهولة ويرتبها سريعاً على نحو شائق وجميل، كما لو كانت قوة عليا تحرك يده. وهذا ليس بالأمر العادي بالنسبة إلى معظم الكتّاب الآخرين.
في السنوات العشر الأخيرة من حياته، كتب أعمالا سردية ذات قوة اعترافية غير مسبوقة، أهلته لشغل مكانة مرموقة في الأدب الروسي على قدم المساواة مع كبار الكتّاب الكلاسيكيين. ومن هذه الأعمال «الظلام في نهاية النفق» «انهض وانطلق» «حماتي الذهبية». أصدر خلال حياته الإبداعية أكثر من مئة كتاب في الرواية والقصة وأدب الرحلات. حصل على جائزة «الأسد الذهبي» الإيطالية في الأدب. وكتب سيناريوهات أكثر من أربعين فيلما سوفييتيا ناجحا. منها سيناريو فيلم «المدير» الذي شهد إقبالا منقطع النظير في منتصف الستينيات. كنت يومها طالبا في موسكو وشاهدت الفيلم أكثر من مرة. وفي كل مرة كان عليك الوقوف في طابور طويل لاقتناء تذكرة الدخول. ومن أعماله المتميزة أيضاً، سيناريو فيلم «ديرسو أوزالا» – وهو إنتاج سوفييتي ـ ياباني مشترك حصل على جائزة الأوسكار عام 1976.
رواية «حماتي الذهبية» من أفضل أعماله، وهي في الواقع ترنيمة للجمال والعاطفة المشبوبة المحرمة: « يا إلهي، كيف خلقت امرأة بشكل مثالي، بلد رائع لا يمكن اكتشافه مرة واحدة وإلى الأبد، والعمر كله لا يكفي لفهمه». كان بطل الرواية منغمسا في حب حماته، لدرجة أنه عند سرد هذه الرواية، لا يستطيع أن يتذكر، ما إذا كانت أحداث الرواية قد وقعت قبل الحرب أم بعدها.
نادراً ما نصادف في الروايات مثل هذه الرغبة العارمة الملتهبة الموصوفة بقوة.. ومع ذلك، لا توجد في النص نغمة خاطئة واحدة، ولا ابتذال، أو بهارات وتوابل تشويقية رخيصة، كما هي الحال في معظم الروايات الإيروتيكية الأخرى – شغف ذكوري قوي لا يقاوم يلقي ظلاله على العقل. يقول بطل الرواية: «عندما رأيتها للمرة الأولى وصافحت يدها البضة الدافئة، بالكاد استطعت الاستمرار في الوقوف على قدميّ. كنت أرتجف والأرض تنزلق تحتي. في بعض الأحيان يبدو لي أنني عانيت في هذه اللحظة كل العذاب والشوق والمتاعب، وكل الرعب الرائع الذي ستجلبه هذه المرأة إلى حياتي». «كان سوء حظي يتمثل في حقيقة أنني كنت على مقربة خطيرة من تتيانا أليكسييفنا، في فساتينها الشمسية الخفيفة، والبلوزات الشفافة بلا أكمام، والتنانير القصيرة، عارية الذراعين والساقين، وقد أثارتني بشدة، دون أن أرغب في ذلك على الإطلاق. لا أستطيع أن أقول إنني أحببتها في ذلك الوقت، لقد كان شعورا حيوانيا، شعورا غير واع ولم يكن، حتى، شعورا، بل شغفا، ذلك الشغف الذي لا يرحم.. شهوة مجنونة تقتل تماما غريزة الحماية في أي كائن ذكوري يتنفس».
«إن القول إنها فاتنة القوام، وممتلئة، كما تليق بالجمال الروسي، وإن لديها شعراً ذهبياً، وعينين رماديتين – زرقاوين، وأنفا جميلا متجها لأعلى قليلا، وفما قرمزياً، يعني عدم قول أي شيء عن مظهرها الرائع. وبشكل عام، من المستحيل وصف جمال الأنثى.. كان ليف تولستوي يعرف هذا جيدا، وفاز على تورغينيف ودروجينين في منافسة لوصف جمال المرأة. لجأ دروجينين إلى الوصف الساذج المباشر للأعضاء: الفم والأنف والجبهة والرقبة والكتفين، إلخ. حاول تورجينيف خلق صورة للجمال دون اللجوء إلى التفاصيل. في حين اكتفى تولستوي بجملة هوميروسية واحدة: «عندما دخلت إيلينا، نهض جميع الشيوخ وقوفاً».
يبدأ السرد بضمير المتكلم، ثم يتحول إلى ضمير الغائب. وهذا يربك القارىْ قليلا. لكن الراوي يستدرك قائلا، إنه يكتب بعد فترة طويلة، ومن الصعب عليه بالفعل أن ينظر إلى نفسه الآن على أنه ذلك الشاب الذي كان قبل عقود، لذا يستعمل ضمير الغائب.
حبكة الرواية
في عام 1944، تزوج صحافي شاب ابنة مدير مشروع استراتيجي مهم، وهو فاسيلي كيريلوفيتش زفياغينتسيف، كان زفياغينتسيف مقربا من ستالين، وتعيش عائلته في بحبوبة وتنعم بخيرات الكرملين، قصر باذخ، وضيعة واسعة جميلة، وامتيازات كثيرة أخرى. كانت حاشية ستالين تتلقى خلال سنوات الحرب سلعاً أمريكية متنوعة بينها الملابس والأغذية، فتقوم تتيانا اليكسييفنا ببيع حصة زوجها في السوق السوداء. يعيش المدير علانية مع زوجته وعشيقته في آن واحد، ودون تردد يذهب إلى عشيقته في منزل مجاور. ابنته (زوجة البطل) لديها طفل من زوجها الأول، الذي طرده المدير من المنزل لأنه نام مع حماته. تعبت تتيانا أليكسييفنا من ازدواجية زوجها، فأخذت تغري صهرها الثاني. الشعب يخسر يوميا الآلاف من أبنائه في جبهات القتال، ويقاسي ضنك العيش، والطبقة الحاكمة تغرق في الملذات والسكر والعربدة. المدير لا ينام مع زوجته، لذلك فهي تنام مع أصهارها. وتبين أن أخلاق رجال حاشية ستالين – ومنهم زفياغينتسيف غريبة للغاية، بل صادمة حتى بالنسبة إلى مواطن سليل عائلة مثقفة ونبيلة مثل الراوي. يقول نجيبين في يومياته: «نشأنا وترعرعنا في بيئة اصطناعية، ممزقة بين الحقيقة الصامتة في المنزل، والأكاذيب الصاخبة في المدرسة، و(الكومسومول). رغم أنني تمكنت من تجنب الانتماء إلى هذه المنظمة، لكنني مع ذلك كنت مشبعا بروحها المدمرة. كان الواقع خارج المنزل والعائلة يتطلب أكاذيب مستمرة. ما يؤدي إلى إيقاف التكوين الطبيعي ونمو الشخصية. الرجل الحر يكتسب كرامة شخصية في وقت مبكر، والعبد يظل غير ناضج حتى الشيخوخة..».
كشف الكاتب عن عفونة الطبقة السوفييتية الحاكمة. الرواية تستند إلى أحداث حقيقية – كان نجيبين متزوجا من ابنة مدير مصانع ليخاتشوف المقرب من ستالين، لكنه غيّر أسماء شخصيات روايته إلى أسماء وهمية.
نهاية القصة حزينة: امتلاك جسد المرأة، لا يعني امتلاك قلبها. وزفياغينتسيف نفسه ليس في أي حال من الأحوال بسيطا غير مؤذ، لكنه رجل حديدي وقائد قدير بالفطرة. وأحس البطل بما كان يحدث في روح حماته، فتراجع مدركا أن النضال من أجل قلب السيدة غير متكافئ وغير منطقي بشكل عام ومهين له. تراجع، لكنه لم ينس أبدا حماته الذهبية. فصلهما القدر، رغم أنهما كانا متشابهين. كلاهما كان محاصرا بالهواجس: هو – في شغفه بها – وهي في حبها الأعمى لغيره. المشاعر القوية دون المعاملة بالمثل تذهب سدى.
«حماتي الذهبية»صادمة لأولئك الذين يحنون إلى العهد السوفييتي الشمولي. الرواية كتبت بلغة جميلة ودقيقة، والسرد رائع، اعتراف بلا رتوش عن عذاب العيش في فضاء عفن. الآن، بعد ما يقرب من ثلاثة عقود على وفاة الكاتب، من الواضح أن أعماله الروائية في فترة البريسترويكا وما بعد الاتحاد السوفييتي، عكست بصراحة متناهية ليس فقط دراما حياته حسب، بل عبر أيضا عن ملامح العصر الذي كان شاهدا عليه ومشاركا فيه.
هنري ميلر ويوري نجيبين
سخر نجيبين في إحدى رسائله من مزاعم بعض النقاد الذين أطلقوا عليه اسم هنري ميلر الروسي، يقول نجيبين. لم يقرأ الروس رواية «مدار السرطان» إلا بعد نصف قرن من صدورها في الغرب. ولم يكن أي كاتب روسي معروف قد اطلع عليها، لذا لم يؤثر في الكتاب الروس من الأجيال الأكبر سناً بالطريقة السحرية والمغرية نفسها التي أثرت في الكتاب الأمريكيين في الثلاثينيات، بالإضافة إلى ذلك، فإن «مدار السرطان» مثل «عيد متنقل» لهمنغواي،، هي في المقام الأول مديح لباريس، ولا يشغل مديح الحب فيها سوى المرتبة الثانية أو الثالثة».
لم تكن «حماتي الذهبية» تقليدا لـ»مدار السرطان» فقد بدأ هنري ميلر رحلته في الأدب بهذه الرواية، في حين أنهى نجيبين رحلته بأشياء مماثلة. رواية «حماتي الذهبية» هي أولاً وقبل كل شيء ترنيمة الحب القوي. وتعود أصولها الأدبية إلى أساطير الحب اليونانية حول العواطف المحرمة والمميتة.
341 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع