جلس الدكتور " معتز " على أحد المقاعد في صالة الإنتظار لإحدى مؤسسات الرعاية الإجتماعية في أحد بلدان المهجر في إنتظار موعده الدوري مع مسؤولة الرعاية الإجتماعية !! .
التقط إحدى المجلاّت الموضوعة على الطاولة التي أمامه وأخذ يتصفحها بمللٍ ظاهرٍ دون أن يتمكن من قراءةِ سطرٍ واحدٍ منها لجهله بلغة البلد فرماها جانباً وسرح كعادته بما آلت اليه أوضاعه .
عادَ بذكرياته الى عيادتهِ في بلده التي فقدها وفقد معها زوجته وبيته وكل ما كان لديه من حقيقة وحلُم !! .
تذكر يوم تخرجه في كلية الطب وكفاحه الطويل للحصول على تلك الشهادة ومن بعدها إكمال تخصصه في الجراحة العامة ـ ـ
تذكر يوم زواجه بمن خفقَ لها قلبه منذ الوهلة الأولى للقاءهما في سنتهما الجامعية الأولى وحياتهما السعيدة قبل أن يخطفها الموت بإنفجار عبوةٍ ناسفةٍ زرعها "مجهولون" في أحد الشوارع الرئيسية الذي تعودت أن تسلكه بسيارتها عند عودتها من عملها كل يوم ـ ـ
تذكر الحاحها عليه بالهجرةِ بعد أن محت أقدام الغزاة وزرّاع الموت والدمار آثار أقدامهما من على الطرقات والمتنزهات التي كانا يقصدانها بعد خروجهما من الكلية كل يوم ليعيشا لحظات حبهما الطاهر النقي وليخططا لمستقبلٍ مشرقٍ بدأ شعاعه بالسطوع وهما في سنتهما الدراسية الأخيرة !!
دَمعت عينيه وشعر بلهيبٍ يلتهم أحشاءهِ حين تذكر عناده ومقاومته المستمرة لرغبتها بالهروب من بلدهما ـ ـ ـ كان دائماً يقول لها : كيف تطلبين مني مغادرة الكلية التي تركنا في أروقتها وزواياها ذكرياتنا الجميلة ، فكل يوم أذهب اليها للتدريس أتذكر موقف أو لحظة عشناهما معاً ـ ـ ـ أتدركين بأنك تطلبين مني التوقف عن حبك ؟!! أتريدين مني أن أهدم كل ما بنيناه معاً !!! .
كان دائماً يُذكّرها بأن الأمير الذي يغادر إمارته يفقد هيبته ويصبح من عامة الشعب !!
كانت تقول له : أنا مثلك بل ربما أكثر منك حُباً وهياماً بأماكنِ ذكرياتنا ، لكن خوفي عليك أكثر من خوفي على نفسي هو الذي شجعني على طرح الفكرة !! ، فالبلد أصبح بلا قانون ، وتجّار الموت وعصاباتهم المسلّحة يسرحون ويمرحون في كل شارعٍ وزقاق ، وأنتَ معروف وربما مستهدف ، فكل دقيقة تتأخر فيها بالعودةِ الى الدارِ تمر عليّ كدهرٍ من الزمنِ ، ولولا خوفي من ضجرك وملامتك لأبقيت الهاتف الخلوي مفتوحاً بيننا حتى عودتك سالماً !!
عادَ بذكرياتهِ الأليمة حين إستلم نبأ "إستشهاد" زوجته وقراره المفاجئ بالهجرة ـ ـ فلم تعد لديه ذكريات جميلة فيه !!! ، بل كل ما تبقى له فيه من ذكريات هو خليط من مرارةٍ وحسرةٍ وندمٍ ـ ـ ـ هكذا أقنع نفسه بتنفيذ رغبتها إكراماً لها ولكن بعد فوات الآوان !! .
تذكر الدكتور "معتز" يوم خروجه من دائرة الشهر العقاري بعد بيع بيته ومطاردة اللصوص له وسرقة المبلغ الذي حصل عليه تحت تهديد السلاح !!
ثُمّ سرح بذكرياته التي أوصلتهُ الى اليوم الذي غادر فيه بلده عبر الطريق البري الى البلد المجاور وإتفاقه مع المهربين لنقله الى بلدٍ أوربي ـ ـ ـ خجلَ من نفسه حين تذكر كيف حشروهُ مع تسعةِ أشخاصٍ آخرين لساعاتٍ طويلةٍ في مكانٍ خفي أعدهُ المهربون في شاحنةٍ كانت متوجهة الى أحد البلدان الأوربية وحصوله بعدها على جوازِ سفرٍ مزورٍ ليحلّق في الجو على متنِ إحدى الطائرات الى البلد الذي منحهُ حق اللجوء الإنساني !!
قطعت مسؤولة الرعاية الإجتماعية سلسلة ذكرياته المؤلمة حين دعتهُ للدخول الى غرفتها ـ ـ ـ كانت الفتاة طافحة بالحيوية والنشاط والجمال ، وقد أضاف اليها مركزها قليلاً من الكبرياء ـ ـ ـ وبحكمِ نشأتها في بلدٍ لم تعرف فيه معنى للعنف أو الفقر أو الألم ، فقد كانت تنظر الى مراجعيها من اللاجئين على أنهم أناس "مساكين" يجب مساعدتهم ومعاملتهم بلطفٍ !! ، لكنه في ذات الوقت كانت تحاول عدم التجاوز على القوانين المشددة بعدم السماحِ لهم بالبقاءِ عاطلين عن العملِ ، كما إنها لم تكن تفرّق بين طبيب وعامل أو عالم وجاهل ـ ـ فالكل في نظرها أشخاص "بؤساء" هربوا من بلدانهم المُتخلفة والفقيرة وجاءوا الى بلدها طالبين المُساعدة المادية للعيش بأمانٍ وإستقرارٍ !!ـ ـ كانت كبقية أبناء شعبها تعتقد بأنهُ ليس من العدل والإنصاف أن تعمل هي وغيرها من مواطني بلدها طوال النهار ليدفعوا في النهاية نسب عالية من الضرائبِ ليعيلوا هؤلاء اللاجئين حيثُ وجد البعض منهم تلك القوانين الإنسانية فرصة يجب إستغلالها للإسترخاء والراحة بعد سنواتٍ من القهر والألم عاشوها في بلدانهم الأصلية !! .
إبتدأت مسؤولة الرعاية الإجتماعية حديثها مع الدكتور "معتز" بزفِ بشرى كانت تعتقد من إنه سيقفز فرحاً عند سماعها !! ـ ـ قالت : لقد وجد مكتب العمل عملاً لك في أحد المطاعم حيثُ ستعمل على غسل الصحون !! ـ ـ ـ
نظر اليها بأسى وبدأت أنفاسه بالتسارع !! ـ ـ
لم تلاحظ الفتاة الإنفعالات التي ظهرت على ملامحه !! ـ ـ فإستمرت في حديثها موضحة له الإتفاق الذي تمّ بين مكتب العمل وصاحب المطعم ، حيثُ سيستمر مكتب العمل على دفع ستين في المئة من الراتب لتشجيع مالك المطعم على توظيفه بشكلٍ دائمي !!! ـ ـ
أراد الدكتور "معتز" أن يصرخ في وجهها ـ ـ ـ أيتها الغبية أتعلمين من أنا ؟!! ـ ـ لكنهُ تمالك نفسه معللاً ذلك بأنها تقوم بواجبها !!
نهض الدكتور "معتز" من مقعده قاصداً باب الغرفة وسط دهشة وإستغراب الفتاة !! ـ ـ صاحت عليه ـ ـ مستر معتز ـ ـ مستر معتز ـ ـ الى أين أنت ذاهب ؟ !! .
نظر الدكتور معتز الى جموع المارة المسرعة في جميع الإتجاهات حال خروجه من المبنى ـ ـ تذكر قوله لزوجته " من أن الأمير الذي يغادر إمارته يفقد هيبته ويصبح من عامة الشعب !!" ـ ـ حشر نفسه بينهم كما حشره المهربون في الشاحنة ، فإبتلعته أمواجهم وغاب عن الأنظار .
الهامش :
*قصة الدكتور "معتز" ليست قصة من وحي الخيال وإنما مجموعة حقائق لقصصٍ عديدة شاهدتها وسمعتها حدثت وتحدث ليس لشعب العراق فحسب وإنما لشعوبٍ عديدةٍ حاولتُ قدر الإمكان التخفيف من مأساتها ، وهي ليست محصورة بين طائفة أو مذهب أو دين معين فالجميع قد إنكوى بنارها ، وقد إستخدمتُ إسماً رمزياً مستعاراً ليس له علاقة بأي شخص حقيقي لا من قريب ولا من بعيد وإنما إخترته ليتماشى مع روح القصة وأهدافها التي سعيتُ لإيصالها للقارئ الكريم .
2586 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع