محاولات تعريب "كركوك" وتكريدها

د. صبحي ناظم توفيق
عميد ركــن متقاعد.. دكتوراه في التأريخ
الخميس 8/أيلول/2023

 

محاولات تعريب "كركوك" وتكريدها

https://www.algardenia.com/maqalat/60161-2023-09-07-21-09-09.html

في مقالة سابقة نُشِرَت على صفحات هذا الموقع، تطرّق كاتب هذه السطور إلى البعض من تأريخ كركوك، وقد إرتأى بهذه المقالة تكملة ما يصبو إليه.

محاولات تعريب كركوك
لم تبدأ الخطوات الحقيقية التي إستهدفت تعريب محافظة كركوك بشكل مُمَنهَج وعملي وميداني ومخطط له وتحت إشراف الحكومة من دون أي إعلان رسمي في وسائل الإعلام، إلاّ بعد سيطرة حزب البعث على سدّة السلطة إثر نجاحه في حركة (17/تموز/1968)، لتشتمل غالبية الأقضية والنواحي التي كانت مرتبطة بكركوك.
ففي عقد السبعينيات من القرن الماضي وفي خطوات جلية لتفتيت محافظة كركوك وتشتيت أواصرها، فقد أُستُبدِلَ إسمها إلى "محافظة التأميم" كخطوة أساسية أولى، في حين أُجتُزِء منها قضاء "كُفري" وأُتبِعَ إلى محافظة ديالى، وضُمَّ قضاء "طوز خورماتو" إلى محافظة صلاح الدين المُشَكّلة حديثاً، وفُصِل قضاء "جم جمال" لترتبط بمحافظة السليمانية، بحيث أصبحت المحافظة العراقية الأصغر مساحة.
وكانت الخطوات التالية أن صدرت توجيهات مركزية حزبية وحكومية بمكاتبات (سرية للغاية) تقضي بترغيب المواطنين العرب في جميع محافظات العراق للهجرة إلى كركوك شريطة الإستقرار فيها وعدم تركها والعودة إلى البقاع التي أتوا منها، مقابل مُغرَيات مادية سخية ووظيفية ومعنوية ودرجات حزبية، وأُنْشِئَتْ لهم أحياء عديدة وحديثة على نفقة الدولة تحتوي خدمات أفضل من أحياء المدينة القديمة والحديثة.
والمستغرَب لدينا نحن التركمان، أن معظم أصدقائنا وزملائنا العرب من سكنة المحافظات بدءاً من "نينوى" ونزولاً إلى صلاح الدين، الأنبار، ديالى، والعاصمة بغداد الحبيبة، وكلّ محافظات الفرات الأوسط والجنوب، ممن يحتكّون مع أهالي كركوك، لا يعرفون عن هذه الإجراءات الخطيرة لأغراض التعريب، بل يبدو على وجوههم عدم تصديق ما نطرحه من هذه المظالم على مسامعهم، ويعتبرونها مَسّاً بالنظام السابق، أو حقداً عليه، أو مبالغة بحقه.
ولكن الحقيقة أن التركمان حُورِبوا على وجه الخصوص، وكذلك الأكراد والآخرون على وجه العموم، في مساكنهم وبيوتهم ورزقهم اليومي وتعييناتهم وأعمالهم ووظائفهم ومصير عائلاتهم ومصالحهم التجارية والمالية ومصائر أولادهم وأحفادهم، قبل أن يُجبَرُوا -في بعضهم- وبأساليب متنوّعة، على ((تغيير قوميتهم)) الأساس رسمياً إلى القومية العربية في دوائر الإحصاء والأحوال الشخصية طيلة عقدَي الثمانينيات والتسعينيات، فأُضطُر عشرات الألوف من التركمان والأكراد وسواهم من غير العرب، لترك كركوك ومناطقهم الأصل بُعداً عن الإذلال والمَهانة وطلباً للأمان ولقمة العيش، سواءً بالإنتقال إلى محافظات أخرى داخل الوطن والإستقرار فيها، أو ترك العراق والهجرة إلى خارجه، ولغاية إنهيار النظام إثر الإحتلال الأمريكي للعراق وإستحواذ الأكراد على كركوك أمنياً وإدارياً منذ نيسان 2003.
أما "التهجير القسريّ" للأكراد فإنه لم يشتمل إلاّ أولئك الذين لم يُولَدوا في "كركوك" أو لم يُسجّلوا لدى دوائرها المُخْتصّة بالأحوال الشخصية فيها، وأن ذلك لم يُنفّذ بحقّ أولئك إلاّ بعد عام (1991) حين أخلت الحكومة المركزية المناطق ذات الأغلبية الكردية عند شمولها بما سمّي "الملاذ الآمن لأكراد العراق" شمالي خط العرض 36، والتي تحقّقت لهم بفضل الولايات المتحدة الأمريكية التي فُرِضَته على النظام البعثي إثر هزيمته من دولة الكويت.
ولكن الذي قد نكون على يقين منه، أن العدد الكلّي للمُرَحّلين الأكراد جميعاً لم يتجاوز (11.000) أحد عشر ألفاً، وذلك إستناداً لوثائق وتقارير متعاقبة أصدرتها منظّمات تابعة للأمم المتحدة، أو منظمات مجتمع مدني رصينة وموثوقة بمصداقيّتها.

محاولات تكريد "كركوك"
إستبشر التركمان خيراً ومستقبلاً هادئاً وزاهراً، وإعتقدوا أن معاناتهم في "كركوك" وسواها من البقاع التركمانية قد حُلَّتْ بإنهيار النظام السابق الذي حاول تعريبها... ولكنهم صُدِموا بميليشيات "البيشمَركَه" الكردية التابعة لـ"جلال طالباني" الآتية من السليمانية بالمشاركة مع ميليشيات تتبع "مسعود بارزاني" المندفعة من أربيل، وهي تستحوذ بقوة السلاح على مفاصل مركز محافظة كركوك وأقضيتها ونواحيها، بعد أن إصطفّت إلى جانب القوات الأمريكية أثناء غزوها للمدينة في 9 نيسان 2003، وتُـنْصِبُ مُحافظاً وعدداً من كبار الموظفين التنفيذيين وقادة للقوات الأمنية، وكلّهم أكراد بلا أي منافس.
وفي الوقت ذاته إندفع إلى المدينة خلال بضعة أسابيع عشرات الآلاف -إن لم المئات- من المدنيين الأكراد بدعوى أنهم هُجِّروا من كركوك، فتمّ إسكانهم أمام أنظار قوات الإحتلال وبَرَكاتها في مخيّمات أنْشِئَتْ على أنقاض قواعد ومعسكرات القوات المسلحة العراقية التي نهبوها كلياً ومسحوها مع الأرض في بقاع عديدة من ضواحي المدينة ونواحيها، وذلك قبل أن تُستملَك كل عائلة كردية قطعة سكنية 200 متر مربع من تلك الأراضي على أساس كونها من أملاك الدولة، ويقدّم لرب العائلة مبلغ يكفي لبناء مسكن صغير أو صبّ أساس لبيت وسط، فالأهم أن يسجل لهذا الكردي مُلك صرف بسند طابو.
وفي ظلّ غياب الدولة والقانون فقد رُبطت مؤسسات محافظة كركوك ودوائرها الحكومية من الناحية العملية بـ"حكومة إقليم شماليّ العراق"، فتمّ تعيين آلاف الأكراد موظفين فيها ونُقل أكراد آخرون بالجملة إليها من المحافظات ذات الأغلبية الكردية، وهم مزوّدون-في معظمهم- بوثائق ومستمسكات مزوّرة بإتقان مُسبقاً ووفقاً لخطة كانت جاهزة ومتقنة، من تلك التي تُشير إلى كونهم أصلاً من أهالي محافظة كركوك!!!؟؟؟.

المادة (140) الملغومة من الدستور المشؤوم
وأخيراً تُوِّجَتْ القساوة على "تركمان العراق"، ليس بهجرة الأكراد وفق خطة مبرمجة وبهذه الأعداد الضخمة التي ذكرناها، إلى مناطق كان جميع العراقيين يعلمون أن التركمان يشكّلون فيها الأغلبية الساحقة، بل ما نصّ عليه "دستور العراق الإتحاديّ" حول (تطبيع) الأوضاع في هذه البقاع، والذي يبدو جليّاً أنه سيؤول لصالح الأكراد في تلك الظروف، لما يمتلكونه من أدوات وتنظيم سياسي ودوائر ذات نفوذ وسطوة ومليارات الدولارات وقوات مسلحة رسمية، وتحالف مضمون مع الأمريكيين، وأغلبية تلي "الكتلة الشيعية" بالبرلمان العراقيّ الفاسد، و"فيدرالية الأمر الواقع" بالمنطقة الشمالية من العراق، والتي تطمع في كركوك بشكل خاص، كونها تُؤمِّن ميزانية ضخمة للإقليم الشمالي فضلاً عن موقعها الستراتيجي.

التركمان المُسالمون مع الأسف
ويرى تركمان كركوك والمدن ذات الأغلبية التركمانية، أنهم لا يمتلكون قوات وفصائل مسلحة منظمة ومموّلة وذات نفوذ، مثلما حال الأكراد والعرب الشيعة والسُنة والبعض من المسيحيين، وهم ليسوا على إرتباط مع الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية إيران الإسلامية أسوة بالآخرين، لذا فإن الضرورة إستوجبتْ عليهم تحالفاً وطيداً مع العشائر العربية في قضاء "الحَويجة" ومع العرب الآخرين الوافدين إلى مدينة كركوك، وإستثمار مشاعر العرب السُنّة والشيعة المُناوئِين للفيدرالية أو تقسيم الوطن في عموم العراق، وخصوصاً حيال سَوق "كركوك" للإنضمام عنوةً إلى الفيدرالية الكردية، فضلاً عن الإعتماد على توجّهات الجمهورية التركية التي طالما أعلنت أن تعرّض تركمان العراق إلى الخطر وضمّ كركوك إلى إقليم الشمال، وهما خطّان أحمران ضمن الأخطار المُحْدِقَة حيال الأمن القومي التركي... وأن لا ضَير في ذلك -حسب قناعة التركمان- ما دام الجزء الأعظم من الأكراد متحالفين مع الولايات المتحدة الأمريكية والجزء الآخر مع إيران، وبعض الأحزاب الشيعية المستندة على "طهران" والمتبعة لولاية الفقيه، فيما يعتمد معظم العرب السُّنة على أكثر من دولة جوار... فهل من مَلامَة يمكن أن تُقذف نحو التركمان جراء موقفهم للحفاظ على مستقبلهم في خضمّ هذه الفوضى التي تعمّ دولة اللادولة في العراق؟؟

موقف دولتي الجوار
إن الذي قد يخّفف من وطأة التوجّه الكردي لضم مدينة كركوك والمناطق المختلف عليها إلى إقليم شمالي العراق، هو أن دولتي الجوار "إيران وسوريا" كذلك لا ترغبان -إلى جانب تركيا- أن تكون هناك فيدرالية كردية قوية في الشمال العراقي، والتي من المؤكد أنها ستُهيّج مشاعر أكرادهم في المناطق المتاخمة للعراق وتدفعهم بالمستقبل المنظور للمطالبة بحقوق قومية مشابهة لما تحقّقت لأكراد العراق منذ عام (1970) ما قد يزعزع الإستقرار السياسي والأمني لديهما.
وقد إستبشر التركمان مؤخراً إلى جانب المناهضين أزاء فصل كركوك من سلطة العراق المركزية، من الموقف القويّ للحكومة التركية حيال متمرّدي حزب العمال الكردي-التركي (PKK) المتمركزين في أقاصي شماليّ العراق، والذين كان "مسعود بارزاني" -في حينه- يدعمهم جهاراً معتبِراً ذاته زعيماً وبإستطاعته تحريك عموم أكراد العالم المعاصر بإشارة منه، ذلك الموقف والقصف الجوي والتدخل البرّي -على محدوديّتهما- أدّيا إلى لصم العديد من الأفواه التي كانت تتبجّح بآمال عظيمة وأحلام وردية تتمحور بأن كركوك لا بد أن تُضَمَّ بالترهيب أو حتى بإستخدام القوة المسلحة وبالقريب العاجل إلى ما يسمّى بـ"كردستان العراق".

ماذا عن المستقبل؟؟
ربما لا يختلف إثنان حيال أهمية "كركوك"، سواء كمدينة أو محافظة، وكونها حالة خاصة بل وإستثنائية بمستوى العراق وسط أوضاعه الهشّة أمنيّاً وسياسياً، وسط خلافات وآراء متباينة بأعماق معظم العراقيين أزاءها تفضّل بقاءها إما مرتبطة بالسلطة المركزية أو تتشكّل منها "فيدرالية" لها خصوصيتها، لتتعايش في ربوعها جميع أعراقها وطوائفها وأديانها ومذاهبها، فضلاً عمّا يجول في نفوس مواطنيها الأصيلين، ووفقاً لرؤىً متعاكسة تنصبّ على حقوقهم التأريخية والإنسانية والسياسية والإجتماعية والثقافية المتنوعة -في معظمها- بين مكوّنات كركوك السُكّانية الرئيسة من التركمان، الأكراد، العرب والمسيحيين وسواهم، ناهيك عن أهمّيتها النابعة من ثروتها النفطية، وفضلاً عن كونها عقدة طرق رئيسة تلتقي فيها وتربط شمالي الوطن مع وسطه وبواقع (6) محافظات، لذا فإن مشكلاتها العديدة المتوارَثة والمتراكِمة على مرّ عقود القرن العشرين تحديداً، وتلك التي إنبثقت مجدّداً سواء في عهد النظام السابق أو بُعيد الإحتلال البغيض للعراق (2003)، وتعقّدت تباعاً مع تفاقم أوضاع البلد، حتى بدا لكل ناظر ومتتبّع أنها باتت مُستعصية يصعب معها إيجاد حلول عملية وواقعية تُرضي الجميع أو الأغلبية وتُهدّئ من روع أصحاب المرامي المتضادّة، وناراً مشتعلة تختبئ تحت الرماد ولكنها مرشّحة للإنفلاق والإنفلات كلما إنقضت الأيام تحت سلطة حكومة عراقية مركزية حائرة بأمن ذاتها ومزاعمها وأكاذيبها، وهي تختبئ بالمنطقة المسمّاة بـ"الخضراء" في قلب بغداد تحت رحمة المتصارعين على كراسي الحكم وأموال العراق والجاه والنفوذ، وذلك ما يتيح المجال لمن يحمل سلاحاً أقوى وقوات عسكرية أو مسلحة شبه عسكرية أفضل أن يتدخّل لفرض إرادته على كركوك والمناطق المختلف عليها.
ولكن من ناحية ثانية وثالثة ورابعة، فإنّ "تركيا" حسب مواقفها وخطوطها الحمراء المُعلَنة، يُفترَض أن لا تقف مكتوفة اليدين إنّ حصل مكروه لأبناء العمومة التركمان ومدينتهم الأساس "كركوك" ، وقد تصطف "إيران وسوريا" إلى جانبها، ليس حبّاً بكركوك أو إعجاباً بسواد عيون التركمان العراقيّين، بل لرؤىً ستراتيجية ومصالح معروفة تلتقي ببعضها وتتشابك ضمن هذه المنطقة الساخنة و(المُبتلى) بالثروة النفطية منذ العقد الثالث من القرن الماضي، والتي لولاها لما ترسّخ العراق وكركوك ببال أحد من المتحكّمين بأمور العالم المعاصر والمعتمد على البترول حتى في تسيير صغائر حياته اليومية.

آخر الكلام
لذلك ينبغي إيضاح ما يمكن إيضاحه للقادة الأكراد، وهم أكثر المعنيّين بالأمر، بأن طروحاتهم التأريخية بشأن كركوك ونواحيها تبدو ضعيفة الأُسس والمرتكزات حيال معاكِساتِها التركمانيات، وأن إثارة آراء وإدعاءات تستند على التأريخ الموغِل بالقدم ومحاولات تحريف تفاصيله عن مساراته، ستُثير آراءً مُتَضادّة وأرصَن تتمخّض عنها مشكلات لا يمكن أن تُوصِل فئات الشعب الواحد إلى نتائج محمودة، كما أن مزاعمهم الجغرافية الباهتة أضعف كثيراً من إدعاءاتهم التأريخية، فضلاً عن أن الإصرار على مثل هذهِ الأمور والمواقف ستُعاظِم بالتأكيد مشاعر معظم العراقيين حيال الأكراد الذين يمكن أن تُؤخَذ نحوهم حلم التمني بالإنفصال عن العراق، وهذا ما لا يصُبّ في مصالحهم القومية والسياسية والإقتصادية والثقافية بالوقت الراهن والمستقبل المنظور في ظلّ الوطن الواحد الذي أفادوا منه كثيراً منذ تأسيس دولته الملكية (1921) وما زالوا يحلبونه مدراراً، إنْ كانوا في حقيقتهم راغبين أن يظلّ مُوَحّداً.
وكذلك يكون حالهم أزاء العديد من دول الجوار التي تتعاكس توجّهاتها السياسية والإقليمية والأمنية مع رؤى الأكراد، وأن دول العالم العظمى والكبرى لا يُعقَل أن تُفضّل "إقليم كردستان" المتواضع والمنحسِر بين أربع دول من دون منفذ بحري، على تحالفاتها الستراتيجية وعلاقاتها الإقتصادية المتعددة والمتشابكة والمتصاعدة مع "آنقرة" بسبب موقعها الجغرافي العظيم وقواتها المسلّحة التي في مصاف ثاني أضخم جيش وسط أعظم حلف عسكري في كلّ التأريخ، والمتمثل بـ"NATO" الذي أصبحت فيه "تركيا" عضواً فاعلاً منذ مطلع عام 1951.

وفي الختام أرجو من المتابع الكريم أن ينتظر منا مقالة ثالثة عن كركوك، نركز فيها عن أهميتها العسكرية والجغرافية في التأريخ المعاصر، وليس كما يتصور البعض أنها لم تبرز وتشتهر إلاّ بعد إكتشاف النفط حواليها.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

701 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع