ولاء سعيد السامرائي
ما يسمى بالقلق الغربي حول الأقليات!
سارعت حكومات بعض الدول الغربية حال استيقاظها يوم الثامن من ديسمبر على خبر سقوط النظام الطائفي في سوريه بإصدار بيانات تعبر عن قلقها على مصير الأقليات، فهرول وزير خارجية الولايات المتحدة انتوني بلينكن لزيارة دول المنطقة، وبعجالة وصلت باربارا ليف مساعدته لشؤون الشرق الأوسط لسورية والتقت اول ما التقت، بمنظمات المجتمع المدني قبل لقائها بالقائد العام للعمليات العسكرية، كذلك فعل المندوب البريطاني. وأهتمت أجهزة الاعلام الغربية المهيمنة ومنها الفرنسية التي تناولت هذا الموضوع في جرائدها التلفزيونية باستدعاء دبلوماسيين وباحثين ومحللين لإعطاء آرائهم المنصبة بدورها على القلق نفسه! وكيف سيتعامل الحكم الجديد بقيادة احمد الشرع مع المسيحيين والدروز ومع المرأة وبالأخص مع الاكراد!
ان من عليه ان يقلق ويستنفر من قلق الغرب على"الأقليات" هي دولنا وشعوبنا المنكوبة في بعض اقطارها بالتدخلات والاحتلال بحجة الأقليات ومظلومياتها، المستهدفة، عبر توظيف بعض مكونات منطقتنا وتأليبها ضد الأغلبية بهدف تقسيم الوطن الواحد الى دويلات طوائف دينية وعرقية وعقائدية يجد فيها الكيان الصهيوني مكانه له ولهيمنته وفوقيته على شعوب المنطقة. ان قلقنا من تدخلاتهم بحجج الأقليات هو المشروع وليس قلقهم المشبوه الذي يخفي وراء كلماته الخبيثة نذر الحروب المفتوحة والتدخل والاحتلال والتهجير الشامل وخطط تقسيم المنطقة وتدمير اوطاننا وتعريض كل مكوناتها الى الخطر. فلم تهرع القنصليات الغربية بسبب قلقها على المسيحي والدرزي والكردي، بل انها جزعت لرؤية انهيار نظام الأقلية الذي يخدم مصالحها في سوريه والمنطقة منذ ستين عاما. عائلة الأسد من الاب الى الابن الهارب، أكبر مثل على نظام الأقلية العزيز على قلوب الدول الاستعمارية وشكل الحكم الذي تتمناه في كل دولنا، والتي ساندته في صعوده للحكم، هذا النظام الذي، طيلة ستين عاما، جعل من سوريه ضيعة أبدية له) الأسد للابد، اليافطة المرفوعة وسط دمشق (وللمقربين منه، أقترف كل أنواع الجرائم التي ينطبق عليها تصنيف جرائم إبادة وجرائم حرب )ضد الأغلبية( وفق المحكمة الجنائية الدولية او محكمة العدل الدولية، امام العالم الديمقراطي المتبجح، ومعاييره المزدوجة. هذا العالم المتباكي على الأقليات لم ينبس بكلمة حول تهجير صديقهم حافظ الأسد لنصف الشعب السوري، لم يهاجمه او يهدده بسبب القتل الجماعي في حماه ودفنه لألاف الاحياء، ولا سجن وتعذيب واغتصاب المعارضين بالآلاف، حيث لا تفرق أجهزته الأمنية الوحشية الكثيرة والمتنوعة في جرائمها وطرق تعذيبها بين صغير وكبير او بين رجل وامرأة وعجوز. هذه الدول هي التي تواطئت بنفس الدرجة مع جرائم الابن الهارب صاحب سجن صيدنايا والمقابر الجماعية اليوم حينما قالت ان لا بديل لسوريه عنه حتى بعد نشر الاعلام الغربي خمسين ألف صورة تظهر تعذيب السجناء الأبرياء في سجونه الكثيرة!
لذا يحق للسوريين بعد اسقاطهم لنظام الأقلية لعائلة الأسد القول لزوارهم الغربيين: جئتم تعلموننا كيفية التعامل مع الأقليات ونحن المجتمع المتعايش مع بعضنا منذ مئات السنيين؟
هل تتذكر هذه الدوائر الغربية تاريخ سوريه وحضاراتها المختلفة؟ هل تتذكر حادثة السيد فارس الخوري الذي عين رئيس وزراء لسوريه عام 1944 ووزيرا للأوقاف في نفس الوقت ، مع جنرال الاحتلال الفرنسي غورو الذي قال له يوما جئنا لحماية مسيحي الشرق، فأتجه الخوري يوم الجمعة الى المسجد الاموي وصعد على المنبر ليقول: ان كانت فرنسا تدعي انها جاءت لتحمي المسيحيين من المسلمين، فأنا المسيحي، اشهد ان لا اله الا الله، فحمله المصلون على اكتافهم وداروا به في حارات المدينة وشوارعها يرددون الشهادة وخرج مسيحيو دمشق في تظاهرات تردد نفس الهتاف.
بعد قرن على معاهدة سايكس بيكو التي قسمت العالم العربي الى اقطار، يقترح وزير الخارجية الأمريكي بلينكن تشكيل حكومة "محاصصة" في سوريه على شاكلة حكومة المحاصصة في العراق! فهل ان حكومة المحاصصة التي فصلتها الولايات المتحدة الامريكية هي حكومة تحترم الأقليات ام انها حكومة تستجيب بشكل دقيق لمخططات تقسيم الأقطار العربية الى أمم، دينية وقومية وطائفية وفقا لتنظيرات برنار لويس، الصهيوني المتعصب والأب الروحي للمحافظين الجدد مهندسي غزو وتدمير العراق ومشروع إقامة الشرق الأوسط الكبير الذي حمله للمنطقة جورج بوش ونائبه ديك تشيني المعجب بأفكار برنار لويس. يقول هذا " إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية.. ويجب أن تقوم أمريكا بالضغط على قياداتهم الإسلامية (دون مجاملة ولا لين ولا هوادة) ليخلصوا شعوبهم من المعتقدات الإسلامية الفاسدة.. ولذلك، يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها"، المحاصصة هي التي تحكم العراق المحتل ، بعد عشرين عاما، تشظى فيه البلد وتفتت وتفسخ وذلك لتحول الحكم الى نظام طائفي مافيوي ينهش جسد البلاد بلا رحمة، لا مكان للدولة فيه؟
انه نظام المحاصصة الذي يريد انتوني بلينكن ان يطبق في سوريه بعد ان أصبح سلاح دمار شامل لتدمير العراق. شكل الحكم هذا، الذي فرضه الاحتلال الأمريكي بعد انفضاح كذبة أسلحة الدمار الشامل، والذي عوضا عن )إنصاف المظلوميات( قبل الغزو حسبما يتحججون، سرعان ما تحول هذا الشكل من الحكم " غير الديمقراطي لأنه طائفي " ليصبح حكم "أقليات" مافيويه فاسدة، أوغلت في تدمير وتحطيم مقومات الدولة وتفتيت المجتمع. فهل كان الأمريكي او الإسرائيلي يحلم بهديه أكبر من هديه تدمير وتفتيت وتقسيم مجتمع غير مُكلِفة، تنفّذ على يد أبناء البلد أنفسهم ممن تسميهم الدول الاستعمارية بالأقليات المظلومة؟
ان معايير الغرب هي معايير مزدوجة حتى في قلقها على الأقليات، فهذا القلق لا يشمل جميع المكونات في بلداننا، بل ينحصر على من تنطبق عليه مواصفات معينة يمكن توظيفها واستثمارها. طوال عقود تركّز القلق على مواطنينا المسيحيون كما عبر عنه الجنرال غورو سابقا وليومنا هذا ، الذين يعتبرون أنفسهم مواطني دولهم فقط، بينما ينفي عنهم الغرب صفة المواطنة لهذه الدول ويصادر قرارهم ويمنحهم بدلا عنها تسميه "مسيحيو الشرق"، وهو مصطلح استعماري بحتً، مهين لمواطنينا لأنه يسلبهم هويتهم الوطنية ويعرفهم أساسا بهوية دينية وهو "العلماني" الذي لا يتسامح مع التصريح الديني للهوية. ومن ثم تطور القلق الغربي ليصبح التركيز الأول له على الاكراد وخاصة في العراق بعد حرب 1991 وتقسيمه الى ثلاث مناطق، لتكون بداية للتقسيم مستقبلا وترسيم الكيان الصهيوني لدولة كردية "مفيدة" لمصالحه سواء في العراق او في المنطقة. ففي مقابلة لأحدى القنوات التلفزيونية العربية قبل بضعة أشهر، افتخر رئيس الشن بيت الإسرائيلي بالقول " بدأنا التعاون مبكرا مع اكراد العراق بالذات وليس اكراد الدول الأخرى لأننا نستهدف هذا البلد". وقاد المحافظون الجدد الصهاينة فرنسيون وامريكان عام 2017 ، بينهم برنار كوشنر وزير الخارجية الفرنسي السابق وبرنار هنري ليفي مستشار نيكولا ساركوزي والمحرض الرسمي لغزو ليبيا وقتل الرئيس معمر القذافي وجي .غالبرايت الأمريكي وصديق القادة الاكراد الذي أضاف بطلب منهم مادة للدستور العراقي تعرقل عمل الدستور الملغوم، قادوا محاولة انشاء دولة كردية في العراق على حساب الأراضي العراقية ومكونات الشعب العراقي الأخرى الذين يقفون بجلهم مع حقوق الاكراد لكنهم لا يقبلون بالمخططات الصهيونية التي تستهدف محو العراق وشعبه بكل مكوناتهم المتعايشة في سلم ووئام.
مع قيام الثورة السورية، وفي العام 2015 تحركت القوى المدعومة أمريكيا وصهيونيا لفرض خارطة جديدة على سوريه كما فعلت في العراق ، اذ وبسرعة تبنت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني المنظمات المشبوهة والارهابية لتقوم بمحاربة وتهجير السوريين من مدنهم وقراهم في الشمال الغربي لرسم حدود كيان كردي وتم تحديد حدودها بحسب خرائط رسمها الكيان الصهيوني الغاصب لتأمين أمنه كما يدع مجرم الحرب نتنياهو وحزبه وحكومته اليمينية العنصرية، بدعم منظمة PKK المصنفة كمنظمة إرهابية من الحكومة التركية والتي تصول وتجول بين سورية والعراق بدعم من حكومة المنطقة الخضراء الطائفية والنظام الإيراني للقيام بأعمال إرهابية تستهدف دول المنطقة واراضيها وشعوبها الآمنين، ليتبخر هذا المشروع مع اسقاط النظام الطائفي للعائلة الاسدية ومعه أوهام الكيان الصهيوني في ترتيب جديد لحدود الشرق الأوسط الكبير.
ان القلق على الأقليات يستهدف الدولة أولا وقبل أي حقوق للإنسان وحقوق هذا المكون او ذاك؛ اذ بأي حق تقوم دولة بالتدخل في شؤون داخلية لدولة أخرى ذات سيادة ؟ هل من حق الولايات المتحدة او اوربا فرض شكل حكم على دولة لها سيادتها بهذه الحجة وتلك؟ ان تحرك هذه الدول وبسرعة تجاه سوريه بحجة قلقها على الأقليات ليس الا كذبة للتغطية على رغبة أمريكية صهيونية، للاستفراد في وقت حرج، وفرض الشروط المطلوبة على الحكومة المؤقتة وفرض شكل حكم المحاصصة، لتدمير الدولة ومقوماتها وتفتيت الأغلبية بدليل الهجوم الصهيوني الكاسح على كل المنشأت العسكرية السورية بأكثر من 500 هجوم، لم تزعج حصولها، وزراء خارجية الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا بلينكن وبيربروك وجان نويل بارو رغم خطورتها؟ ان حجة الأقليات هذه تفضح عنصرية وفوقية صهيونية وغربية تريد محو الأغلبية لتوظيف مكونات المنطقة الذين لن ينجو بدورهم من عقلية المحتل الصهيوني باعتبارهم عبيدا واغيارا سماهم مجرم الحرب يوآف غالانت بالحيوانات البشرية.
ان الخطط الكبيرة التي تعصف بالمنطقة وتهدد دولها واستقرارها وسيادتها منذ أكثر من قرن تستهدف الجميع دون استثناء، وهي التي تولد مواقف راديكالية تنمو فيها العصبيات والتطرف والتشنج والعنصرية، والمسؤولية الأولى تقع على عاتق حكومات دولنا التي عليها تحقيق متطلبات العيش الكريم والعدالة الاجتماعية وتستجيب لمطلب الحرية الأساسي لحياة حرة كريمة وآمنة لشعوبنا تمكنها من الدفاع والحفاظ على منطقتنا ودولها من كل هذه المخططات.
21/12/2024
673 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع