د.أنور أبوبكر كريم الجاف
“ الشرق الأوسط و جبل الجودي والكرد: شهادة التاريخ وحق الأرض”
الشعب الكردي لم يكن يومًا غريبًا على أرضه في الشرق الأوسط ولم يأتِ من كوكب آخر ليُعامل كأنه تهديد وجودي للمنطقة، فالكرد بتاريخهم الممتد إلى آلاف السنين يشكلون جزءًا أصيلًا من نسيج هذه الأرض. وحدث جبل الجودي الذي استقرت عليه سفينة نوح كما ترويه النصوص الدينية والتأريخية ومنها القرآن الكريم وتفاسيرها يمثل شهادة تأريخية على تجذر هذا الشعب في أرضه منذ القدم وحتى يومنا هذا.
وعلى الرغم من هذا الارتباط الوثيق بين الكرد وأرضهم قد تعرضوا لتهميش طويل ومستمر ، علما أنَّ هناك الشعوب الحديثة التي لم يمر على تمسكها بالسلطة سوى بضعة قرون أصبحت قوى نافذة تفرض سياساتها وتُقصي المكونات الأصيلة، بينما يظل الكرد وهم من أقدم الشعوب في هذه المنطقة متمسكين بهويتهم وحقوقهم في مواجهة سياسات الإقصاء.
إنَّ الروايات الدينية والتأريخية من قصة الطوفان وسفينة نوح إلى واقعة حرق النبي إبراهيم لتؤكد أن هذه الأرض للكرد وأنهم جزء لا يتجزأ من تاريخها.
وعقب انهيار الدولة العثمانية في بداية القرن العشرين، خضع الكرد لتقسيم قسري ضمن اتفاقيات دولية ك سايكس بيكو، فأصبحوا موزعين بين أربع دول رئيسية: تركيا وإيران والعراق وسوريا، إضافة إلى أقلية صغيرة في أرمينيا وغيرها في دول المنطقة ،
هذا التقسيم لم يكن مجرد رسم لحدود جغرافية، بل كان وسيلة لتقسيم شعب متجذر وعرقلة تطلعاته القومية فالشعوب التي تنكر حقوق مكوناتها الأصيلة كالكرد تخسر استقرارها على المدى البعيد، لأن العدالة هي العمود الفقري لأي نظام سياسي مستقر، ففي تركيا يمثل الكرد أكبر أقلية قومية لكنهم يواجهون سياسات طمس هويتهم الثقافية ، وفي إيران يعاني الكرد من التهميش على الرغم من تأريخهم الحافل بالمساهمة في بناء الحضارة الفارسية ، وفي العراق بعد صراع مرير وتجاذب طويل قد شكل الكرد تجربة ناجحة في إقليم كردستان، الذي يمثل نموذجًا للإدارة الذاتية، لكنه مايزال يواجه تحديات سياسية وخلق أزمة قتصادية ، وأما في سوريا، فقد نجح الكرد في تأسيس إدارة ذاتية في شمال وشرق البلاد، لكنهم يواجهون نزاعات مستمرة تهدد استقرار المنطقة.
و مازال يُنظر إلى الكرد بهواجس غير مبررة تُغذيها سياسات تخشى من تحولهم إلى قوة مهيمنة تُستخدم “فوبيا الكرد” كذريعة لتبرير الإقصاء مع أن الكرد لا يسعون للهيمنة بقدر ما يسعون لتحقيق العدالة والمساواة في إطار أنظمة سياسية تضمن حقوقهم المشروعة.
إن الشرق الأوسط بحاجة ماسة إلى تغيير رؤيته تجاه الكرد ، فلا يمكن تحقيق استقرار حقيقي في المنطقة دون الاعتراف بحقوقهم، ليس كأقلية مضطهدة، بل كشعب أصيل لديه تاريخ يمتد لآلاف السنين ، وإن تجاهل هذه الحقيقة لا يؤدي إلا إلى تعميق الصراعات وإطالة أمد الأزمات.
وجبل الجودي الذي شهد بداية الحياة بعد الطوفان يمثل اليوم رمزًا لصمود الكرد وارتباطهم بأرضهم، فهذه الأرض لا يمكن أن تنفصل عن شعبها المتجذر فيها ، و الشرق الأوسط لن يجد سلامًا حقيقيًا ما لم يتم الاعتراف بالكرد كشركاء في بناء مستقبل مشترك بعيدًا عن الهواجس والإقصاء .
800 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع