الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
آآآخ من كلمة (قَدَرْ)
شهدت محافظة واسط مساء الأربعاء 2025/7/17، فاجعة مروعة إثر اندلاع حريق هائل في مبنى "هايبر ماركت الكورنيش" الذي أفتتح حديثاً في مدينة الكوت، ليطال طوابقه الخمسة موديا بحياة 67 شخصا بينهم مواطن أجنبي، ومخلّفا 11 مفقودا وعشرات المصابين بحروق بليغة يرقدون في مستشفى الزهراء التعليمي.
لقد اندلع الحريق من جهاز تبريد (سبلت) في الطابق الثاني عندما كان المجمع التجاري في ساعة الذروة، وبينما كان المتسوقون يتوافدون إليه، وبغياب كامل لأجهزة إطفاء الحرائق وعدم وجود مخارج للطوارئ. وقد تسبب الحريق في تصاعد ألسنة اللهب بسرعة، وشهد صعوبة بالغة في عمليات الإخلاء والسيطرة على النيران.
لقد سبق هذا الحريق كارثة أخرى؛ هي حريق في محافظة نينوى يوم 26 أيلول/سبتمبر 2023 في قاعة زفاف بقضاء الحمدانية والذي تسبب في مقتل 122 شخصاً، وإصابة 82 شخص.
وسبق ذلك انقلاب وغرق عبّارة الموت في يوم الخميس 21 مارس 2019 في نهر دجلة بمدينة الموصل، وأدى ذلك لغرق أكثر من 120 شخصاً (من النساء والأطفال والرجال) حيث كانت العبّارة تحمل عددا من الركاب يفوق قدرتها الاستيعابية مما أدى إلى انقلابها وغرقها.
مصائب متتالية هي حصاد مُرّ لمشاريع لا تُراعي ضمان سلامة المواطنين والحفاظ على أرواحهم.
يضاف إلى ذلك حوادث المرور الناجمة عن رعونة السياقة واستخدام الموبايل أثناء السياقة بدون أي رقابة أو رادع حكومي.
وعندما تسأل المسؤولين عن تلك الفواجع يختزلون كل الأسباب بكلمة واحدة ويقولون: (قَدَرْ)!! وكلمة (قَدَرْ) هي هروب من واقع كبير ومرير أو خطأ جسيم وتبرير سخيف وغير مسؤول!!
- قبل أسبوعين تعرضتُ الى حادث اصطدام وأنا أعبر الشارع، فنزل السائق الجاني وقال (قَدَرْ)، والحمد لله كانت الإصابة ليست قوية ولا تزال آثارها في جسمي، وحمدتُ الله لأن جاري دكتور محمد تعرض لحادث مشابه وأصيب بكسرين.
- قبل أسبوع، وعندما كنتُ أسقي الحديقة الخارجية لبيتي الساعة 12 وربع ليلا تفاجئتُ بصوت قوي تبعه انفتاح تلقائي لباب كراج جاري الذي يقع بالجهة المقابلة لبيتي تماما، تبعه خروج سيارة جاري بدون سائق تتدحرج وتقطع الشارع عرضيا ثم تصدم الرصيف وتعود ادراجها لتستقر عرضيا في منتصف الشارع!!
ركضتُ الى السيارة، فإذا بها لا تشتغل وبدون سائق، فطرقتُ باب جاري صاحب السيارة، وإذا به نائم في منامه، وخرج مذهولا من بيته ليرى ما حدث وقد انقطع السير لأن سيارته قد قطعت الشارع عرضيا!!
لقد تبيّن أن جاري قد وضع الگير على البوش ونسي أن يضع السيارة على الگير أو أن يسحب (الهاند بريك)، ونتيجة لكون كراجهم به ميل نحو الخارج، فقد تدحرجت السيارة بفعل الإهتزازات الناجمة عن حركة السيارات، وكادت تلك السيارة أن تُسبب كارثة بدون أن يدري أحد، والحمد لله كان (قَدَرْ بلطف) ولكن بخطأ وإهمال من جاري.
- يقول جاري الآخر أبو زيد أن ابن أخيه تعرّض قبل فترة إلى حادثة دهس توفي على أثرها وهو في عز الشباب. وكما جرت العادة في مثل هذه المواقف جاء أهل القاتل ومعهم رجال دين وقالوا: (قَدَرْ) وطلبوا التنازل عن القضية!!
رفض ذوي القتيل وقالوا: نُحّكم كتاب الله بيننا وبينكم، وهو دفع (الديّة): ومقدارها ألف مثقال من الذهب أو مئة من الإبل كما يقول الشرع. عندها قال ذوي القاتل: يعني نبيع حالنا ومالنا حتى نتمكن من دفع (الدية)!!
وهكذا أصبح التهاون بأرواح الناس مسألة بسيطة يحلونها بكلمة واحدة: (قَدَرْ) للخروج من المأزق (زي الشعرة من العجين) كما يقول المصريين، بينما يقول الله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 179).
لمحافظة واسط ومدينة الكوت خصوصية خاصة في قلوب كل العراقيين وفي نفسي أنا شخصيا، ففيها قبر أعظم شعراء العرب قاطبة أبو الطيب المتنبي، وقد عمل فيها لعدة سنين شقيقي المهندس الشهيد شامل يونس، كما أن لي فيها العديد من الطلبة الأعزاء الذين أعتز بهم كثيرا، ومنهم الأستاذ الدكتور عصام عبد الأمير أحمد Isam Alameer الذي زارني مؤخرا في بيتي، ومنهم أيضا طالبي المؤدب جدا المرحوم (علي ماخو سُكّر) الذي توفي في حادث سيارة وهو في عز الشباب.
لقد كانت الكوارث الذي تحدثتُ عنها مُلهمة لشعراء الموصل للتعبير عنها بقوالب شِعرية مؤثّرة.
فقد كتب الطبيب الدكتور (نبيل نجيبNabeel Najib ) قصيدة عنوانها (أخي في الكوت)، قال فيها:
أخي في الكوت ما هذا الجحيمُ ... يليقُ بمِثلِكُم ولَـظىً شَؤومُ
مَعاذَ اللهِ كَمْ أَوْدَتْ خُطوبٌ ... بهذا الشعبِ واشتَدّت كُلومُ
وما كانَ البلاءُ يَـؤُمُ إلّا ... مِنَ الرأسِ المُزَوَّرِ إذْ يَريمُ
وما كلُّ الذي تَـلقـاهُ كُـفـواً ... لِـرَأسِ إدارةٍ وبهِ عَليــمُ
وكلُّ مُلَـفَّقٍ مَنْ كانَ صِفراً ... فصارَ مُؤَلِـفاً وهو العَديمُ
ألا يا موطنَ الأحرارِ كُفراً ... بما جرَّ المُراوغُ والزَّنيــمُ
وقد سبقه في فاجعة عبّارة الموت في الموصل الشاعر الطبيب الدكتور وليد الصرّاف فقال:
لم يشبع الموت ممن ماتَ في الطرقِ ... رمياً على الرأس أو ذبحاً من العنقِ
والدور تسقط فوق الساكنين بها ... في ضجة الصبح أو في هدأة الغسقِ
قبيل عامين مات الناس من ظمأ ... وها هم اليوم قد ماتوا من الغرقِ
لم تبقَ من دمعة في العين ما ذرفتْ ... أو قطرة من دماءِ الناس لم تُرقِ
هذا ربيعك أم وجه الخريف بدا ... مقنّعاً بخمار العشب والحبقِ
اشمسك الشمس أم زنجية وضعت ... على المحيا مساحيقاً من الألقِ
الى الجنانِ من الحدباء مسرعةً ... عبّارة عبرتْ في غفلة الحدقِ
كأن دجلة هذا اليوم متصل ... بأنهر الخمر في الفردوس في نفقِ
يا مسك اطفالنا في الضفّتين لقد ... تركتَ ازهارنا خجلى من العبقِ
رحم الله شهداء العراق جميعا وأدخلهم في فسيح الجنان وإنا لله وإنا إليه راجعون.
(بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ * ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ * إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ * ٱهۡدِنَاٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ * صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡوَلَا ٱلضَّآلِّينَ) (الفاتحة: 1-7).
712 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع