د.سعد العبيدي
حرائق العراق بين لهب المأساة وقيد البندقية
في كل مرة يندلع حريق في العراق، يُعاد مشهد الوجع كما لو أنه لم يُغلق قط، وكأن البلاد تعيد بث حلقة من مسلسل مأساوي طويل تكتبه النار، وتخرجه الفوضى، ويمثله الغياب التام للمسؤولية. حرائق الحمدانية، مستشفى الناصرية، ابن الخطيب، مول الكوت وأخيرًا النهضة، ليست سوى محطات في سلسلة تتغذى على الإهمال، وتكبر كلما أُغلقت ملفات الكوارث السابقة بلا محاسبة: تُفجر الغضب لساعات، وتعلي أصوات البرلمان، وتدفع لتشكيل اللجان، وتنهي المشهد بغلق الأبواب التي لم تكن يومًا أصل الحكاية، وتختم بأخذ كبش فداء من بين الحطام، لإبقاء الجاني طليقًا، محصّنًا بشرعية البندقية.
البندقية التي لبست يومًا عباءة "المقاومة"، تحوّلت تدريجيًا إلى أداة تخويف، وسلاح سياسي، ووسيلة لإسكات كل محاولة إصلاح. إنها في العراق ليست مجرد قطعة حديد، بل منظومة كاملة تُشترط الحياة أن تمر من فوهتها. هي من أبقت البلاد معلّقة فوق رماد الثقة، ومن جعلت النار خيارًا دائم الحضور عند الحاجة. في ظلها يُتجاوز على الأسباب، وتُعطَّل سبل المعالجة، ويُدار الخراب بمهارة البقاء. تُنسى الكوارث تحت وهم "التهدئة"، ويُكمم اللسان عن قول الحقيقة، وتُمنح الحصانة للقاتل، ويُلقى اللوم على الأبرياء، ويُجهض أي مشروع وطني قبل أن يولد. وأصحابها من يُحكم القيد على معصم الوطن، ويختزل كل خطوة في إذن أو تهديد.
أما المواطن الخائف من استخدامها، فلم يعد يسأل عن العدالة. صار أقصى ما يتمناه... أن ينجو، أن لا يكون هو التالي، أن يخرج من يومه الثقيل حيًّا، لا أكثر.
إن قصة البندقية في العراق، وإساءة استخدامها، تؤكد أن حاجة البلاد المنكوبة لم تعد مزيدًا من النعي، ولا مزيدًا من اللجان، واستنفار الأجهزة لأيام، والتدقيق المؤقت في الشروط والمواصفات. الحاجة تقتصر على اجتثاث البندقية من السياسة، وإعادة تعريف من يحكم، وكيف، ولماذا... الحاجة ماسة إلى دولة تُعيد للحياة معناها، وللنظام وزنه، وللموت حدوده. قبل أن تشتعل النار القادمة.
523 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع