عبد يونس لافي
من بغداد الى أمريكا قبل اكثر من ٣٥٠ سنة
الرحلة الرائدة للعراقي الموصلي المسيحي الكلداني
القس إلياس حَنَّا
الحلقة الأولى
قبل ما يزيد عن الربع قرن،
دار حديثٌ بيني وبين أستاذٍ
كان يتمتَّع بوقارِ العلمٍاء،
وسمْت المتواضعين، صفتان
لا يمكن ان ينكرَهما فيه ناكر،
أو هكذا رأيتُ الرجلَ
وقد غادرنا الى عالمٍ آخر.
الرجلُ هو رومِن اشْمتْ
(Roman Schmitt).
أحيانًا كنا نلتقي قبل أن ندخل
البناية التي تضمنا في أحد أقسام
الحامعة، او اراه يجلس في مكتبه
كالعادة، وقد أُحيلَ على التقاعد،
بعد سنين طويلةٍ من البحث،
ومنها البحوث التي أنجزها
خاصة لصالح ناسا (NASA)
في تحليل النشاط الاشعاعي
للصخور التي جلبتها سفينة
الفضاء أپولو (Apollo)من القمر.
كانت تربطني به علاقةُ احترامٍ
متبادل، على الرغم من فارق
العمر بيننا، وكان كلما لمحني
وانا أمُرُّ امام مكتبه، شعرت
أنَّه يقول هلُمَّ إليَّ دون ان يتكلم،
وحين ادخل المكتب ينهض
بقامته الفارعة، ويمدُّ يده اليَّ
مشيرًا عليَّ ان اجلس.
كنا نتبادل احاديثَ متنوعة من
فلسفةٍ الى دين، ومن هندسةٍ
وعلوم، الى ادبٍ وثقافة.
أذكر حين نشرت لي احدى
قصائدي وكانت تحت عنوان:
Order in Chaos
وتعني النظام في الإضطراب
قرأها بعمق، ثم دوَّن تعليقاته
التي ما زلت احتفظ بها حيث
أظهرَ فيها إعجابه، رابطًا
بين المفاهيم التي تضمَّنَتْها،
وما يفكر فيه هو بناءً على
خلفيته الثقافية المتنوعة.
وذات مرة فاجأني بأن أخرج
من دُرْجِ مكتبه عددًا من مجلة
(Aramco World,
May/June 1992 Volume)
التي تصدرها شركة أرامكو
السعودية، وناولني إيّاها قائلًا:
هل تعلم انكم ايها العراقيون،
كنتم في هذا البلد منذ بدايات
الأستيطان الأوربي فيه؟ قلت
كيف؟ قال: خذ هذا العدد،
واقرأ ما كتبه پول لَنْد
(Paul Lunde) تحت عنوان:
العالم الجديد بعيون عربية
(The New World
Through Arab Eyes)
وسأحصل على نسخةٍ ثانية،
حيث كانت تصله باسْتمرار.
اخذتها بشغفٍ وقرأتُ بعض
فقراتِها على عجلٍ، فسرَّني ما
قرأت عن رجلٍ من بلدي العراق،
ومن مدينة أُحبُّها هي الموصل
العزيزة، انه القس الكِلداني
إلياس حنّا الموصلي،
حزم حقائبَه الى امريكا قبل ان
تنال امريكا استقلالها عن
الإستعمارالبريطاني بمائة عام.
قلت في نفسي سأقرأ اكثر عن
هذا الرجل، وكيف وصل الى
هنا منذ اكثر من350 عاما.
فاذا كان كولومبس قد وطأت
قدماه بقعةً صغيرةً من أرض
العالم الجديد، والتقى بمجموعةٍ
من الهنود الحُمر، وعاد على
عجلٍ مصطحبًا ستة منهم، فان
رجلنا هذا وصلها، وعاش فيها
ثماني سنواتٍ متنقٍّلًا بين قبائلِها
القاطنين هناك منذ زمنٍ طويل.
قبل أن نَدلِفَ الى تفاصيل هذه
الرحلة الرائدة، لا بُدَّ لي أن أُنوِّهَ
أنَّ محاولاتِ الوصول الى هذه
البقعة من اليابسة، كانت قبل
حَوالَيْ ألف سنة، إذ قد بدأها
البحّارةُ المسلمون قبل أن
يصلَها كولومبس ب 500 سنة.
هذا ما وجده الباحثون من خلال
التَّشابُهِ في طرق العيش بين
الهنود الحمر والمسلمين،
معتمدين على ما جاء في كتاب
"مُروج الذهبِ ومعادن الجوهر"
لأبي الحسنِ عليٍّ بن الحسين
المسعودي الهُذَلِيِّ،
البغداديِّ مولدًا، والقاهريِّ وفاة*.
حيث جاء في المروج أنَّ
الخَشْخاشَ بنَ سعيدٍ، وهو
بحّارٌ مسلمُ من الأندَلُس كان
قد عبر بقاربه بحرَ الظُّلمات
(الاسم القديم للمحيط الاطلسي)،
مع مجموعة من صحبه،
ووصلوا جزرَ العالم الجديد
ثم عادوا بحِمْلٍ ثمينٍ من هناك.
نعود الى إلياس حنَّا الموصليِّ
فنقول: هو احد القساوسة الكلدان،
انحدر من عائلةٍ كان لها تأثيرها
في الوسط الموصليِّ في نهايات
القرن السابعَ عشرَ الميلادي.
ومن اهم ما اتَّصف به هذا الرجل،
هو جرأتُه وتَوْقُه الى المغامرة،
لاكْشاف العالم الجديد منطلقًا
من بغدادَ كما سنرى.
إنَّه الرَّحالةُ الذي قَرَنَ رِحلتَه
بالتوثيق لدقائقَ ما صادف في
طريقه دون أنْ يَعْبأَ في تزويقِ
الكلمات، حيث كان يسطِّرُ بقلمه
ما يشاهده حالًا، لكي لا يفوته
ايُّ موقف، ولذا لم يسلم تقريره
من ضعف هنا وهناك، بل لم
يعبَأْ ان يستعملَ بعض المفردات
العامية، والعبارات التي تخطر
على باله عند الكتابة، كتلك
التي تحمل نكهةً عراقية.
لقد وثَّق في تقريره ما شاهده
من عاداتٍ وسلوكيّاتٍ لمجتمعاتٍ
بشرية، فتعرَّض الى طرائقَ عيشِهم
ومعاملاتِهم وممارسة شعائرهم.
كانت غايته أن يُصوِّر بقلمه ما
يشاهده بالتفصيل دون أنْ يستثني
شيئًا حتى الطيور والنباتات
والطرق والبنايات.
لقد اعطى اهمية في ارْتياد
كنائس طائفته من الكاثوليك،
فكان تقريره اول تقريرٍ
عربيٍّ مفصَّلٍ عن العالم الجديد
او ما سُمٍّيَ بعالمِ امريكا.
وإلى لقاءٍ آخرَ في الحلقة الثانية
مع إلياس الموصلي وهو يبتدئ
رحلته المثيرة مغادرًا بغداد عام
. (1668)
*ولد المسعودي في بغداد عام 896، وتوفي في القاهرة عام 956.
931 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع