د.سعد العبيدي
فك ضيق المحتاج
جلست السيدة ميساء في صالة بيتها الأنيق، تتأمل صور العائلات البغدادية العريقة في كتابٍ رصين، كأنها تُقلب صفحات مدينةٍ كانت الأمانة فيها خلقًا شائعًا، والبيوت تعيش راحةً لا تعرفها اليوم. وبين صفحةٍ وأخرى، تسلّل إلى ذاكرتها وجهُ السيد رزّاق، لعلها تذكّرته عند انقطاع الكهرباء، تلك التي لم يكن يكفّ عن الشكوى من انقطاعها في بيته المشيَّد من الصفيح فوق أرضٍ متجاوزٍ عليها، ليضاعف – في كل مرة – ما تنوي منحه إياه من مساعدة.
بدافعٍ من فضولٍ غامض، التقطت هاتفها واتصلت بجارها السّاخر من مساعدتها لأولئك "الكسالى المتواكلين،" وما إن ردّ حتى بادرت قائلةً بلا مقدمات:
-أبا عادل، تتذكّر رزّاق؟
ضحك عارف، ساخرًا من نفسه هذه المرّة، وقال:
يبدو أنني ظلمت الكسل يا ميساء... فرزاق حوّل الكسل من عادة مذمومة الى مشروع يدر الملايين.
رمشت غير مصدّقة، كمن يحاول فرز المزاح من الحقيقة، وقالت:
-أبا عادل، أرجوك، لا تقل إن رزّاق صار مدير عام!
ابتسم عارف ابتسامةً مائلة بين الحسرة والسخرية، وأسند ظهره إلى الكرسي مستعدًّا لإتمام الحكاية، ثم قال بنبرةٍ تجمع الثقة والتهكّم:
-أيّ مدير عام؟ أمثالُه لا يشغلون أنفسهم بمناصب الدولة، إنهم يبتلعونها قطعة، قطعة! رزّاقُنا قفز بخطوةٍ واحدة من باب الحسنات إلى عتبة المليارات، حتى صار من الكبار... من أولئك الذين يكسبون بسهولةٍ ويتبرّعون بسخاءٍ لعشراتٍ من مسؤولي الدولة كلما ضاق رزقهم. للرجل اليوم أسطول سيارات فارهة، وقصرٌ عامر في الجادرية، ومال لا يحصى.
شهقت ميساء، فسارع عارف لإكمال ما بدأه، وكأنه يروي معجزة:
بعد اقتراب داعش من أطراف بغداد وصدور الفتوى، تطوّع رزّاق في فصيلٍ يقوده ابنُ عمّه. وفي أول اقترابٍ من الميدان، لمع نجمه سريعًا، وصار من الرجال الموثوقين؛ أُوكلت إليه مهمّة جمع الغنائم وترتيب صفقات "الإنقاذ" لمن التبست عليهم التهم. ومع الوقت، تضاعفت ثروته واشتدّ نفوذه، فقرّر استثمارها في أكثر الموارد وفرةً وأسرعها ربحًا: حاجات الناس وضيقهم. فابتدع مشروعًا للتسليف قصير الأجل، يقدّمه في ثوبٍ خيريٍّ تحت اسم فكّ ضيق المحتاج.
لم يكتفِ بالاسم الخيري، فأراد أن يكسوه بشرعيةٍ تضمن الطمأنينة لزبائنه، وتُرضي ضميره في الوقت نفسه.
قاطعته ميساء باستغراب، لتسأل وماذا حصل؟ فعاود الحديث قائلًا:
-في مساءٍ غائم، ارتدى رزّاق عباءته الجديدة وابتسامةً لا تخلو من التقوى، قاصدًا الجامع الصغير عند ناصية الحيّ. انتظر حتى فرغ الشيخ جابر من الصلاة، ليتقدّم نحوه بخطواتٍ محسوبة. قال بهدوءٍ واثق:
-مولانا، لديّ فكرة مشروعٍ فيه خيرٌ لنا ولكم... وللفقراء طبعًا. ثم شرع يزوّده بالتفاصيل.
رفع الشيخ رأسه وتأمّله لحظةً كمن يزن الكلام بميزان الفقه، ثم قال:
-النية شرط القبول يا رزّاق، لكن المشروع يحتاج إلى صيغةٍ شرعية تُبعد عنه إثم الربا. ثم أضاف بثقة العالِم بأحكام السوق والدين معًا:
-من يطلب اقتراض مليون، نحرّر له عقدَ بيعٍ وشراءٍ على سلعةٍ رمزية، بثمنٍ مقداره مليون ونصف، يؤدّيها بعد حينٍ على وجهٍ من الرفق، دفعةً واحدة أو مجزّأة، حسب ما ييسّر الله. وبهذا يصبح الأمر بيعًا وشراءً لا قرضًا ولا ربا... وربك كريم.
أشرق وجه رزّاق كمن اكتشف طريقًا إلى الجنة من بوابة الربح المضمون، وانفرجت أساريره بارتياحٍ ظاهر، وقال مطمئنًّا كمن يبرّئ ضميره من الذنب: وستكون أنت شاهدًا ونسبتك مضمونة في كل عقد، شيخنا الجليل.
ردّ الشيخ بثقةٍ أبويةٍ هادئة:
-إنها حصةُ الجامع يا ولدي، نُطعم بها اليتامى، ونُنير بها المصابيح... والله لا يضيع أجر المحسنين.
هزّت ميساء رأسها غير مصدّقة، بينما واصل عارف حديثه وقد ازداد حماسةً كأنّه يروي ملحمة وطنية:
-صار المشروع مؤسسة، والمستلفون يدفعون في المواعيد المضبوطة؛ ليس بدافع الأمانة طبعًا، بل لأن خمسة من شباب فصيله يتولّون التحصيل... بالحسنى كما يقولون، ومن يتأخّر يومًا عن الوقت المحدد في العقد المكتوب، يجد نفسه والعائلة في العراء “بإجراءٍ مدعومٍ شرعيا". وهو اليوم ما شاء الله، المموّل الرئيس لعددٍ من الأحزاب التي رفعت الراية في تلك الأيام، يتبرّع لهم كل موسم ليذكّروه، ويحموه! والأجمل من هذا كلّه، أصبح شريكًا في بنكٍ إسلاميٍّ يحرم الربا، ويخصّص قروضه لـ “ فكّ ضيق المحتاجين”.
أغلقت ميساء الهاتف، وأغلقت معه آخر صفحة من كتاب العوائل العريقة، وتمتمت بمرارةٍ لا تخلو من سخرية: تغيّرت بغداد... خرج أهلها من الأبواب، ودخل إليها آخرون من النوافذ يحملون مفاتيح جديدة للمجد على طريقة رزاق.
***
670 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع