
الدكتور رعد البيدر
ما لم تَقُلهُ فيروزُ بصوتِها ... قالَتهُ غزَّةُ بالنَّار
عُيونُنا إلَيكِ تَرحَلُ كُلَّ يَومٍ،
تَدورُ في أروِقَةِ المَعابدِ،
تُعانِقُ الكنائِسَ القَديمة،
وَتَمسَحُ الحُزنَ عَنِ المَساجِدِ...
هكذا غنّت فيروز للقدس أُغنيةُ " زهرةِ المدائن " ، في ستينيات القرن الماضي ؛ فتمايّلت القلوب وتوحّدَت الأحلام، ولم تُغنَّ من بعدُ أغنيةٌ قادرة على جمع الوجدان العربي بتلك القوة.
منذ قُرابَة ثمانية عشر عامًا، عاشت غزة في حصارٍ خانقٍ أقرب إلى العزلة المفروضة بالقوة. تبدّلت الوجوه السياسية، لكنّ الحصار لم يتبدّل. تقلّبت مواسم الحرب والهدوء، وبقيّت المدينة تحصي أنفاسها على حافة البحر، بين نوافذ تُطلّ على العالم ولا تبلغه، وأبوابٍ تُفتح على الألم، وليس على الأمل . صمدت غزّة العِزة في عجاف السنوات الطويلة، بين انقطاع الكهرباء، وندرة الماء، وعوز الدواء ، ولم يهدأ فيها صَوتُ الانفجاراتِ، ولا توقّفَ الحُلمُ بالانعتاق.
توالت الحروبُ: ٢٠٠٨، ٢٠١٢، ٢٠١٤، ٢٠٢١، وكلُّ واحدةٍ منها كانت جولةَ اختبارٍ جديدةٍ بين إرادةِ البقاء وسلاحِ الإبادة. ... هكذا ظلّت المدينة المنكوبة تُعيد بناء ذاتها من الرماد، وتُقاوم بالبسمة وتُكابر بالحياة، فيما كانت الضمائر تتوزّع بين عجزٍ سياسيٍ وصمتٍ دوليٍ مريب، ومع كل محاولة للنجاة - كانت تُعيد اكتشاف قدرتها على الصمود والتحدي لأجل البقاء.
في فجر السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، بدأ " طوفان الأقصى" بعمليةٍ تجاوزت الخطوط التقليدية ، فأطلقت حربًا غير مسبوقة في شدتها واتساعها. لم يتوقع العالم أن الأرض ستضرب بزلزال لا تَستَشعرهُ أجهزة المراقبة والرصد، ولم تكتشفه عواصم القرار وهي تتلقى صفعة هائلة على جدار أوهامها.
لم تكُن عملية "طوفان الأقصى" اشتباكًا عسكريًا عابرًا؛ بل لحظة تمزق في الوعي، أزالت غشاوة من الهيمنة العسكرية والردع الاستخباراتي التي نسجها الكيان الصهيوني حول نفسه لعقود طويلة. وفي ساعات قليلة، تحطمت صورة ( الجيش الذي لا يُقهر) وبات العالم يتأمل في هشاشة "بيت العنكبوت الصهيوني " الذي كان يُعد حصناً منيعاً، فقلبَ المعادلاتِ وأعادَ تعريفَ الزمنِ في المنطقة ، مما يعني أعادة رسم الخريطة كلها.

كان الرد الصهيوني على العملية وحشياً، إذ انهمرت النيران على القطاع الصغير المُكتظ، حتى غدا كتلةً من الركام. وتحوّلت غزة إلى عنوانٍ للثبات الإنساني حين انكشف زيف القيم التي طالما ادّعتها العواصم الكبرى.
مع توالي الأيام، لم تكُن الغارات الصهيونية وحدها تُسقط الضحايا؛ بل سقطَ كثيرون بصمتٍ في انتظار دواءٍ لم يَصِل، أو جرعة ماءٍ لم تُرويهم. وبحسب تقارير وزارة الصحة الفلسطينية وهيئات الإغاثة الدولية، تجاوزَ عدد الشهداء خمسين ألفًا، وقضى الآلاف غيرهم نتيجة نقص العلاج والغذاء وتلوّث المياه. أما الجرحى والمفقودون فتجاوزوا مئةً وعشرين ألفًا، غالبيتهم من الأطفال والنساء. وتشير تقديرات أولية إلى أن الخسائر المادية تجاوزت اثنين وعشرين مليار دولار، شملت تدمير نحو ثلثي البنية التحتية في القطاع، من مساكن ومستشفيات ومدارس وطرقات ومحطات كهرباء ومياه. أرقام لا تنطق بكلّ الحقيقة، لكنها تلمّح إلى فداحَة ما حلّ بأرضٍ كان يُفترضُ أن تكونَ مَوئِلًا للسكينة.
لم يكن وقف إطلاق النار خاتمةً للحرب، بل بدايةً لمرحلةٍ أكثر التباسًا من دوي المدافع وخشخشة الدبابات وزئير الطائرات وانفجار الصواريخ. فقد اتفقت الأطراف، برعايةٍ إقليميةٍ ودولية، على آليةٍ ثلاثية المراحل لتنفيذ التهدئة: المرحلة الأولى – التي نعيشُ أيامها تمتدّ لستة أسابيع وتشمل وقف العمليات الميدانية وانسحاب القوات من المناطق المأهولة، وإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة إلى القطاع. أما المرحلة الثانية، فتمتدّ أيضًا لستة أسابيع، تتضمّن تبادلاً جزئيًا للأسرى وترتيباتٍ أمنية على المعابر والحدود، إلى جانب بدء عمليات الإغاثة وإعادة تشغيل المرافق الأساسية. بينما ستكون المرحلة الثالثة، الأطول والأكثر تعقيدًا؛ فتمتدّ لخمس سنوات يُفترض أن تشهد خلالها إعادة إعمارٍ شاملة، وتهيئةً سياسيةً تفضي إلى حوارٍ حول مستقبل الوجود الفلسطيني ووحدته الوطنية على أرضه المغتصبة.
في ذهن أهالي غزة والمتابعين أكثر من سؤال اختلطت مع الركام : هل سنشهد بعد خمس سنوات غزةً معمَّرةً بالكامل؟ وهل ستلتئم الضفة والقطاع تحت راية الدولة الفلسطينية التي وُجدت على الورق قبل أن تُولد على الأرض؟ أم سنعود إلى دائرةٍ جديدةٍ من الهدم، حيث تُهدَم الأحلام كلّما امتدَّت يدٌ إلى البناء، ويُؤجَّل قيام الدولة كلّما اقترب من النضوج؟ ورغم كلّ شيء، تظلّ غزة كما كانت، تحمل في صوتها المبحوح ما يعجز عن قوله الآخرون. كأنها تقول للعالم: لا أستجدي عطفاً من عيونٍ لا تراني، ولا موقفاً من ضمائرَ ميّتة.
أخيرًا – غَزّة العِزّة – تلك المدينة الصغيرة المُتعبة لا تُجادلُ أحدًا في حقها، ولا تطلبُ سوى أن تُترك لتبني ما هُدّم، وتواصل الحياة كما يليق بشعب لم يتقن سوى الصبر الطويل والمقاومة العنيدة، غزة التي لم تقبل أن تُستدر بالعطف، اختارت كلماتها وعزفت لحنها بالنار فأجابت بلغة التحدّي، وقالت ما لم تقله فيروز بصوتها، وما لم نَسمَعهُ من الأغنيات المَوءُودَة.
25 / 10 / 2025

679 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع