لَگوش الفرص السانحة والاحوال الراهنة، حين صارت المكانات والادوار اضرعا

قلم باندان

لَگوش الفرص السانحة والاحوال الراهنة،حين صارت المكانات والادوار اضرعا

في قديمِ المراعي، كانت هناك عادةٌ ذاتُ حكمةٍ فطرية: إذا وُلد خروفٌ يتيمٌ ماتت أمه، لم يتركوه للهلاك، بل جعلوه يرضع من ضرعِ أيّ نعجةٍ ترضى به، حتى يكبر ويشتدّ عوده. يُسمّونه "اللكوش" — مخلوقٌ بلا أمّ، يتنقّل بين الأضرع كما تتنقّل الرياح بين السراب.
نعم، كان "اللكوش" مجرّد خروفٍ يتيمٍ فقد أمَّه في لحظةِ المخاض، فحنّ عليه الراعي وجعل له ضرعًا غريبًا يرضع منه حتى يشبّ ويقوى عوده؛ مخلوقٌ مسكين، لا ذنب له سوى أنّ القدر حرمه الأمّ، فاستعاض عنها بأخرى تُرضعه من فضلها لا من رحمها.
هذا "اللكوش" يعود إلينا أمرُه متجسّدًا في بعض أناسٍ من زماننا الراهن، زمنِ الشعارات المنزوعةِ الحياء أناس مدعين للوجاهة وما هم للوجاهة عنوان. بلى، وتالله، فقد خرج "اللكوش" من الحظيرة إلى الميدان، خلع وبرَه وصوفَه ليرتدي بذلةً أنيقةً أو عباءةً ثمينة، وصار وجيهًا أو سياسيًّا يتيمَ المبادئ، يتنقّل بين ضرعٍ جهويٍّ وآخر كما تتنقّل الذبابة بين الأطباق المكشوفة؛ لا يعرف من الحياء إلا اسمه، ولا من الوفاء إلا ما يُدرّ من لبن المصالح.
يرضع من ضرعِ كلِّ واجهةٍ جديدة، ويقسم بكلّ حروف المكر أنّ هذه الأمّ هي الأصل، وأنّ ما قبلها كان محضَ خطأٍ في النسب، ثم لا يلبث أن ينتقل إلى أخرى متى تغيّر الحليب أو تغيّر صاحبُ السطل. لقد غصّت الساحةُ السياسية بهؤلاء الأيتام من المبدأ، اللقطاء من الضمير؛ أولئك الذين لا أمّ لهم ولا أب، بل يتغذّون من حليب السلطة متى فاض، ومن ضرع المعارضة متى اشتدّ الطلب. يعيشون بلا رحمٍ يربطهم، ولا أصلٍ يحميهم، سوى شهوةٍ دائمةٍ للارتضاع من أيّ ضرعٍ لا يزال حيًّا ينبض بالمنفعة.
تراهم يبتسمون في كلّ صورة، يرفعون الأكفَّ مع كلّ خطبة، يبدّلون مواقفهم كما يبدّل الممثّل أدواره على المسرح، ويتقنون البكاء عند كلّ نعجةٍ تُدرّ وعودًا، ثم ما يلبثون أن يصفّقوا لمن كان بالأمس عدوَّهم؛ لأنّ "اللكوش" لا يعرف معنى العداء ولا الولاء، بل يعرف فقط متى يُدرّ الحليب ومتى ينقطع.
وما أعجبَ هذا القطيعَ من السياسيين الذين يملكون من المرونة ما يجعل المطاطَ يشعر بالعجز! فهم قادرون على الانحناء لكلّ ريحٍ تهبّ، والتلوّن مع كلّ ضوءٍ يُسلَّط، والتبرير لكلّ انقلابٍ في الاتجاه. يسجدون عند أقدام من يملك "السطل"، ويتلوّنون بألوان الضرع الذي يرضعون منه؛ فإن تغيّر طعمُ الحليب تغيّر المبدأ معه، وإن تبدّل المانح تبدّل الخطاب، وكأنّ السياسة عندهم ليست فكرًا ولا عقيدة، بل مجرّد مزرعةٍ مفتوحةٍ يتنقّلون فيها طلبًا للرضاعة.
هم لا يعرفون من الوطنية إلا لون الحليب الذي يشربونه، ولا من الديمقراطية إلا ما يُسكب في قدحهم من دسمٍ انتخابيّ؛ فإذا جفّ الضرع انقلبوا على الأمّ، وشتموا حليبها، وهرولوا إلى أخرى أكثر امتلاءً. ولأنهم لا يشعرون بالخجل، فإنهم يبرّرون كلّ خياناتهم بمصطلحاتٍ فخمة: “الواقعية السياسية”، “المرونة المرحلية”، “التحالف الوطني الجديد” — وكلّها أسماءٌ مستعارةٌ لشيءٍ واحد: اللكوشيّة المتقدّمة.
إنهم يتكاثرون بسرعةٍ تفوق سرعةَ تكاثر الأكاذيب في نشرات الأخبار، ويزدهرون في مواسم الانتخابات كما يزدهر العشبُ بعد المطر. لهم وجوهٌ لكلّ زمن، ولسانٌ لكلّ خطاب، وابتسامةٌ تناسب كلّ مرشّح، وأيمانٌ تُحلف باسم كلّ من يملأ السطلَ حتى الحافة.
وليتهم تعلّموا من الرعاة الأوائل أنّ "اللكوش"، وإن سمن واشتدّ، يظلّ غريبَ اللبن، لا طعمَ لحياته إلا بطعم الفقد، ولا شبعَ له إلا في حضنٍ ليس له. أمّا هؤلاء، فقد صاروا غرباءَ عن الكرامة، عن المبدأ، عن أنفسهم، يعيشون على حليب غيرهم، ويتحدّثون باسم وطنٍ لم يرضعوه يومًا من ضرع الحقيقة.
فطوبى للراعي القديم الذي كان إذا رأى "لكوشًا" رقّ له قلبه، أمّا نحن، فكلّما رأينا "لكوشًا" سياسيًّا ضحكنا من قبح المشهد، وقلنا: رحم الله البادية... كم كانت أشرف من برلماننا!
لكن مهلاً... فحتى "اللكوش" في المراعي، حين يكبر ويشبّ، لا يجرؤ على نطح أمّه البديلة؛ أمّا "لكوش" السياسة، فحين يشبع، أوّل ما يفعله أن يرفس الضرع الذي أرضعه، ويعضّ اليد التي أطعمته، ثم يعتلي المنبر ليُحدّثنا عن الأخلاق والمبادئ والوطنية!
يبدو أنّ هذا النوع من "اللكوش" تطوّر تطوّرًا مذهلًا، فصار يرضع من ضرعٍ واحدٍ ويجترّ على عشرة موائد، يجمع بين الولاء والمعارضة في آنٍ واحد، يُصوّت مع الحكومة وينام في حضن المعارضة، يصرخ في العلن: “أنا ضدّ الفساد”، ويُخفي في جيبه عقدَ صفقةٍ مع الفاسد ذاته.
ولأنّ الحليب السياسيّ لا يُرضَع إلى الأبد، فإنّ مصيرهم في النهاية أن يجفّ الضرع وتنكشف الحقيقة، وحينها سنراهم يتساقطون كما تتساقط أوراقُ الخريف اليابسة، بلا جذورٍ ولا ذاكرة. يلعنهم الرعاة، وتشمئزّ منهم النعاج، وتدرك الأمّة — متأخّرةً — أنّها كانت تُربّي قطيعًا من "اللكوش" الذين تشبّعوا من حليب الوطن ثم بصقوه في وجهه.
فيا ليتنا نعلّق على بوابات البرلمان لافتةً تقول:
يُمنع دخول اللكوش السياسيّين، لأنّ المزرعة اكتفت من الغرباء.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

676 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع