قصة "علبة طبشور"

                                                  

                              د.سهام علي السرور

              أستاذ غير متفرغ في جامعة آل البيت/الأردن

                        

في مدرسة قديمة بناها الإنجليز قبل أن يتركوا بلادنا تحت ما يسمى منحة أجنبية، بالتأكيد ليست غايتهم منها نبيلة، هناك مغاسل وصنابير ماء في كل الغرف..

ولكن لا خزانات على الأسطح ولا أي إمداد مياه يصلها فقط هي ضمن ديكور المدرسة كتماثيل وضعت لتذكير الطلاب بأهمية المحافظة على المياه وإن كانت مفقودة، فلابد أن تحافظ على ما لم تملك كنوع من استحالة الحصول عليه والتفكير بمسؤوليتك تجاهه قبل أن تحصل عليه لتقرر في لحظة ضرورة الابتعاد عما يذكر به لأنه حتمًا شيء ينخر في عروقك ليقول لك أنت يا هذا تخلص من هذا المكان، أنت يا هذا امضِ في أحلامك بعيدًا، في مملكتك الروحية فأنت راهبها الوحيد، في هذه المدرسة لم تعشش العناكب في زوايا الغرف، بعكس باقي المدارس، ولكن هناك عنكبوتة سوداء عششت حديثًا في إحدى زوايا المكتبة حتى أصبحت مع الأيام قطعة من المكتبة، ولم يفلح أي من الطلاب باجتثاثها رغم تسلقهم على المقاعد أحيانًا والاستعانة بعصا طويلة، فأصبحت مع الأيام أمرًا متقبلا، بل إنها أصبحت كأحد أفراد المدرسة ولها فيها حق كما لكل طالب، ولو قيل للطلاب مكتبة لتبادر إلى أذهانهم صورتها قبل أي شيء آخر فقد ارتبطت بالمكتبة أكثر من ارتباط الكتب بالمكتبة.

هنا في هذه المدرسة كان يعمل "عبد الرحمن" أستاذًا، وهنا كان الطلاب أبناءه وهو الذي لم يتزوج، والأساتذة أخوته، وهو الذي جاء من قبيلة أخرى، وأهل القرية أهله مع عدم علمه بأسماء معظمهم فقط يحفظ الأشكال وكنية بعضهم.

يدخل "عبد الرحمن" الغرفة الصفية.

عبد الرحمن: السلام عليكم.

الطلاب بصوت واحد: وعليكم السلام ورحمة الله يا أستاذ.

عبد الرحمن: كيف أصبحتم؟

الطلاب بصوت واحد مجددًا: الحمد لله يا أستاذ.

أمسك "عبد الرحمن" الطبشورة بيده وكتب على اللوح الأخضر "أدب الاختلاف"، ثم قرأ الدرس بصوت واضح، وحين انتهى؛

عبد الرحمن : ليكتب كل منكم يا أبنائي موقفًا حصل معه لاختلاف في الرأي، أو مشكلة كان لابد الحوار فيها، وكيف تعامل كل منكم مع هذا الموقف، ليكتب كل منكم صفحة واحدة في دفتره، معكم ثلث ساعة، ثم سيقرأ كل منكم ما كتب أمام زملائه.

الطلاب: حاضر يا أستاذ.

وضع "عبد الرحمن" نظارته على عينيه وراح يقرأ بعض ما كتب من شعر قرر أن يضيفه إلى ديوانه، كان يقرأ بتمتمة خشية أن يزعج تلاميذه، وبعد مرور ثلث ساعة.

عبد الرحمن: هل أكملتم؟

الطلاب بصوت واحد: نعم يا أستاذ.

عبد الرحمن: بُني "خالد" اجمع لي الدفاتر من زملائك.

خالد: حسنًا.

عبد الرحمن: سأختار بشكل عشوائي.

أعاد ترتيب الدفاتر بشكل عشوائي ثم اختار من منتصفها دفترًا.

عبد الرحمن: أين "سعد"؟

سعد: أنا هو.

عبد الرحمن: تعال يا بُني واقرأ ما كتبت.

فتح "عبد الرحمن" الدفتر بينما كان "سعد" يمشي ببطء.

عبد الرحمن: عنوان ما كتبت يا "سعد" علبة طبشور ونحن درسنا عن أدب الاختلاف غريب هذا منك!

قدّم "عبد الرحمن" الدفتر إلى "سعد" وطلب منه القراءة، وقف "سعد" بجانب أستاذه الذي كان جالسا على كرسي متهالك وبدأ يقرأ، وكل العيون مشدودة إليه.

سعد: كان لي صديق، أحبه كثيرًا، اسمه "فراس"، كنت أقتسم معه مصروفي حين لا يكون معه مصروف، وأضع جاكيتي على كتفيه حين يبرد، وأتظاهر بأنني لست محتاجًا لها مع أنني أكون أتألم من البرد حيث أن نحولي يجعلني سريع البرد وكأن البرد يدق عظامي وينخرها، ولكن صديقي.....

ثم صمت "سعد" ونظر إلى الأرض.

عبد الرحمن: أكمل يا بُني.

سعد: ولكن...... ولكن يا أستاذ سرق صديقي علبة طبشور من المدرسة وحين طلبت منه أن يعيدها وبينت له أن ما قام به فعل سيء خاصمني، وعلل ذلك بأنه فتى شريف وكيف يوصف الشريف بالسرقة!

عبد الرحمن: ليس كل شريف شريف يا بُني أكمل.

سعد: وفي اليوم التالي سبقني صديقي "فراس" إلى المدرسة، وكان قد كذب على الجميع وقال إني أنا سارق علبة الطبشور وأنه جاء بها ليعيدها بعد أن وبخني على فعلتي تلك أي أنه قلب الموازين يا أستاذ.

عبد الرحمن: وهل صدقوه بسهولة؟

سعد: بالتأكيد فهو ابن المدير، ولهذا تم نقلي إلى مدرستكم يا أستاذ نقلا تأديبيًا هكذا يسمونه.

عبد الرحمن: وأنت ماذا فعلت؟

سعد: صمتت.

عبد الرحمن: أحيانًا ينبغي ألا نصمت يا بُني يجب أن يُدافع الإنسان عن حقه مستخدمًا الحوار مع الطرف الآخر.

سعد: لو كنت مكاني يا أستاذ ماذا تفعل فهذا ابن المدير؟

عبد الرحمن: أدافع عن نفسي بالحوار كما قلت لك يا بُني إن صمتك كان في غير مكانه.

سعد: لم يُسمح لي بالكلام، بل لم أعط فرصة للتفوه بشيء، وجدت النقل التعسفي ينتظرني.

نهض "عبد الرحمن" من مكانه واقترب من "سعد" فوضع يده على كتفه برفق ونظر إلى الطلاب.

عبد الرحمن: الصمت غير مجدٍ دائمًا يا أبنائي يجب أن يدافع أحدنا عن نفسه.

قُرع جرس نهاية الحصة، وعاد "سعد" إلى مكانه وعينا "عبد الرحمن" ترقبه، وترى في خطواته ظلمًا أثقلها، وفي عينيه دمعة يخنقها جفنه، خرج "عبد الرحمن" من الصف بعد أن رتب الدفاتر على يده، منهي الحصة بابتسامة ونظرة خاطفة حين كان قرب الباب، مشى "عبد الرحمن" باتجاه غرفة المعلمين وما أن وضع قدميه عند باب الغرفة من الداخل حتى انهال نحوه سيل من الشتائم من أحد زملائه.

شاكر: أنت لا ترى جيدًا، افتح عينيك في المرة القادمة، أنت تتعمد أن تؤذيني، أنت سبب كل سوء يلحق بي، أنت تريد أن تبني علاقتك مع المدير على حسابي ونسيت أنه قريبي.

حاول "عبد الرحمن" أن يبين "لشاكر" زيف كلماته، حاول أن يقول أن ذلك لم يحدث، ودّ لو باستطاعته أن يقول ويقول، نظر وإذ بعلبة الطبشور بجانبه، أمسك بها وألقاها أرضًا وهو لازال في صمته بينما "شاكر" في شتائمه التي لم يكن منها ما هو في معجم "عبد الرحمن" ولم يحفّظه والداه شيء منها، ثم استدار واستقبل الدرج ليخرج من المدرسة، وإذ "بشاكر" يمسك كتاب دليل المعلم ويضربه بقوة تجاه كتف "عبد الرحمن"، أواه كم ارتبطت ضربة الظهر بالغدر، التزم "عبد الرحمن" الصمت ومضى بعيدًا خارجًا من المدرسة مبتعدًا عنها كل البُعد، حاضنًا دفاتر طلابه بعينيه، ومستقبلا هواء تشرين برئتيه، وكل الوجوه أمامه "سعد" باكيًا.

د.سهام علي السرور/ الأردن

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

663 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع