الجسر العتيق المصنوع من أحجار قديمة حُملت من الطرف القصي بالعالم، كان يقف مزهوا بتفرده وعراقة أصله، لكن الأهم أنه كان ممتنا للمشاعر التي أغدقها عليه العابرون،
والعابرون كانوا كُثُرا، بينهم كُنتُ ذات يوم أنتقل من باريس الناطقة بالفرنسية إلى بريطانيا المتحدثة بالإنجليزية، وقد حدث ذات صباح أن فردت ذراعيّ في الهواء لأحفظ توازني ومررت على شجرة كبيرة استخدمت كجسر ربط بين ضفتي نهر مائي صغير، أغرتني المغامرة وأوعزت لصديقتي أن نجرب الطفولة مرة ثانية ونعبر الجسر، وحين عبرناه ارتفعت صرخاتنا فرحا وانتصارا، ليس للجسور منافس فقد أغدق الكتاب والرسامون عليها فنا وتأملا، وباتت مكانا مدللا لدى الشعراء، ومفضلا لدى المحبين، وصديقا لدى العالقين.
وجسر «بونت فابريكو» الذي أنشأه الرومان عام 62 قبل الميلاد هو أقدم جسر عُرف حتى الآن، ويعتبر الرومان هم أول بناة للجسور في العالم، بنيت الجسور في البداية كممر لعبور الجيوش، وعليها غزا الإسبان أميركا واعملوا القتل في الهنود أصحاب الأرض، وحين ضمت بريطانيا الهند إلى مملكتها فكرت في إحياء مشروع الفراعنة بربط البحر الأبيض بالبحر الأحمر للوصول إلى الأرض الجديدة، بالفعل أقيم جسر مائي سمي لاحقا «قناة السويس» لكنه لم يحفر إلا على يد الفرنسيين ليفتتح عام 1862.
على أن تناول الروايات للجسور جاء مختلفا فلم يلمسوا الأحجار ولا الأشجار، لكنهم أخذوا القراء إلى جسور أخرى كما فعل «الطيب صالح» في روايته الشهيرة «موسم الهجرة للشمال» الصادرة عام 1966، الرواية التي اختيرت كواحدة من أفضل مئة رواية على مستوى العالم العربي وتحولت إلى فيلم سينمائي، طرحت صعوبات بناء جسر بين الشرق والغرب في ظل علاقات تبعية واحتلال، وكأنما يسألنا الطيب صالح: أيجوز بناء جسر بين كيانات متفاوتة القوى؟
العلاقة ذاتها عادت للطرح في رواية «عناق عند جسر بروكلين» للكاتب المصري «عز الدين فشير» والتي رشحت لجائزة البوكر لهذا العام، لكن فشير في روايته يستعرض حياة المهاجرين إلى أميركا والذين تحولوا إلى جسور تربط بين ثقافتهم الشرقية الأصلية وتلك المفروضة عليهم بحكم الانتماء الجديد، ليكتشف الكاتب أن السنوات تمر، وأن كثيرين منهم بقى في وطنه الأصلي ولم يرحل منه إلا الجسد، لكأنما يشير الكاتب إلى الجسور التي يمكن أن نمر عليها لكننا لا ننتقل، فنتحرك في المكان أو الزمان ولا نتغير ونبقى أسرى الماضي بكل أثقاله.
ويظل البساط هو الجسر الأشهر في تاريخ الأساطير، وقد توغل البساط السحري في ذاكرة الأطفال والكبار حتى خرج من سحر الجسور إلى سحر المغامرات والخيال وتاه مضمونه، فالبساط الجسر قد يحمل متأملا صوفيا إلى أفق آخر، أو قد ينقل شخصا ما إلى درجة أعلى من النضج، أو قد يرفع كاتبا إلى فضاء أبعد وأعمق فيتلألأ إبداعا، البساط السحري، سحري لأنه يأتينا حين نطلبه، فهو يستجيب لكل راغب في الانتقال وكل طامع في التغير، لكنه أيضاً دائما ما يسأل إن كنا نجيد السباحة في الهواء أم ما زلنا نخشى التغيير؟
أما المرشح الجمهوري الأميركي «رومني» فهو يمتاط جسر الأخلاق، ففي كل يوم يطرب آذان الأسر المحافظة بحديثه عن القيم الأميركية العريقة ورفضه للإجهاض لأي سبب كان، جسر الأخلاق والدين يمتاطه فرق كُثر ويرونه ناجعا، فهو ينقل عابره بسرعة مذهلة إلى جانب الشهرة، وفي مصر انتقل دعاة وتجار الدين إلى خانة الحكماء واستمعت لهم قطاعات واسعة مأخوذة بخطابهم المغزول بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والجمهور المتلقي هو بالأساس حائر وتائه يبحث عن يقين في نظام أفقده التوازن، إنه جسر واحد يمر عليه اليمين الأميركي واليمين العربي، وقديما أفتى كاهن خبيث بوجوب تقديم أضحية ليتمكن الملك من إنشاء جسره في مدينة «زاخور» بكردستان العراق، والأضحية كانت هي أول قادم للموقع المخطط لإقامة الجسر، وحين جاءت فتاة صغيرة بطعام الغذاء لجدها، قبض عليها الكاهن وألقى بها في يم عميق، وشيد الجسر على جسد الفتاة البريئة وتقلد رجل الدين الأوسمة وجمع العطايا والهبات، الجسر القائم حتى الآن سمى بجسر «دلال»، لكني الآن وحين أتطلع حولي في مصر وفي تونس وليبيا وربما قريبا في سوريا، أتساءل كم ضحية ستلقى في اليم لتنتقل القوى الدينية إلى السلطة؟ أتساءل كم صرخة موت ستبعث ليتوسد رجال الدين أجسادنا ويمروا إلى الناحية الأخرى، إلى دنيا السلطة والسلطان، كم جسد يلزم ليشيدوا جسرا يعبرون فوقه من دار العبادة إلى قصر الحكم؟
534 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع