يقول الجاحظ: «وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال، حسده من يظن أنه الأحق به، فلا يزال من شعراء تلك القبائل، من غاظه ارتفاع السيد على مرتبة سيد عشيرته فهجاه، فالهجاء كان شيـــئاً عاماً عند العرب، وإنّ بيتاً شريفاً لم يخل منه».
وبناءً على قول الجاحظ وتوكيداً لرأيه يقول شوقي ضيف: «إن الهجاء طبع ركِّب في العرب»، غير أنها نزعة يتشارك فيها البشر - ولا شك - طالما أنهم بشر، فلم تُحصَر بطبع أمة بعينها، ومع هذا فكأنها تتضاعف وتتغذّى في شرقنا الربيعي، ولأسبابها الحضارية المعروفة طبعاً، فكلما ارتقت الأمة وتقدّمت انشغلت بمنجزاتها ونجاحاتها وخبت لدى أفرادها نزعتا التحاسد والغيرة، وكلما زهد الجمهور المتفرِّج في الاشتراك في قطار الحياة، واكتفى بالجلوس على كرسي المحطة يراقب النازل من القطار والطالع إليه، فبأي شيء سيقطع به وقته أمتع - في نظره - من تصيّد أخطاء الركّاب، يلوكها ويضخِّمها ويتغنّى بالنواقص. فالمنشـــغل بنفسه وبمشاريعه وبتفاؤله وبمستقبله، لا أعتقد أنه يملك الوقت أو الطبع، لمراقبة الآخرين وحسدهم، والحضارة - كما قيل - مجهود الروح من أجل البقاء، فأين أرواح من ساهموا في بناء حضارة أممهم من أرواح من قضوها بالتسلية والتفاهة وتوزيع ذبذباتهم المريضة بالحقد والغيرة؟!
ولمناسبة الحديث عن جذور الطبائع الإنسانية فالثابت أن الغرب لم يسلم من ثقافة الحسد والتسفيه على أيدي شعرائه، ففي الإلياذة مثلاً، هذا «أخيل» وهو بطل معركة طروادة وقاتل سيدها هيكتور، يهجو قائده وملكه، لمجرد أنه خص نفسه بإحدى الأسيرات والمفروض أنها كانت من نصيب «أخيل» الذي لم يجد غضاضة ألبتة في أن يترك العنان للسانه يشتم قائده وينعته بأبشع الصفات، وكأنه يقف في ميدان عربي عام، وهو ما يعني أن الحسد والغيرة والأسلوب المبتذل في التعبير عن الغيظ كانت أسياده في الغرب أيضاً، مثلنا تماماً، إلاّ أن الفارق بيننا، أنهم تجاوزوا ثقافة «أقعد على كرسي المحطة وأعدِّد عيوبك»، بينما نحن لم نعترض سوى على عدد كراسي المحطة غير الكافي لجماهير الثغراث المتكاثرة.
العربي يشعر أن له نصيباً في ثروتك، وبفضل الفساد المستشري قد يعتقد بأنك واحد من مغتصبي حقوقه، فأكلت عليه حقه لتتنعّم بحقك، فتفور نوازعه، وهو يرى نعمك، وتحتدم مشاعر القهر والغضب في داخله فيجد نفسه والغيرة تنهشه والحسد يؤلِّبه. مشاعر سلبية وقاتلة يعتاد عليها المحروم يعزِّي بها نفسه، وقد تصل به الحال إلى مستوى «تلاسن العجائز»، ولا سيما أن صاحب النعمة في شرقنا الربيعي يندر أن يتحلَّى بالتواضع، وغالباً ما يحتقر مَنْ دونه. سلوك استعلائي من شأنه أن يفاقم حال الهياج والتجريح التي يلجأ إليها الحاسد والغيور وسيلةً للتشفِّي والتقليل من قيمة خصمه، ولا أرى أفضل من وصفة: «شمِّرْ» عن ساعِدك وخضْ غمار الرحلة واركبِ القطار، زاحمْ وستجد لك مقعداً وأنت على متن القطار لا خارجه، احجزْ مقعداً والباقي تفاصيل.
شرقنا الربيعي أطلق الروح الغاضبة الحاسدة في النفوس، فلا يتكلم أحدهم إلاّ ويطاول نقده اللاذع كل شيء تقريباً، وقد لا يلام بحكم وضعه وظروفه الصعبة، ولكن ليبدأ المرء من نقطةٍ ما، ليبدأ ويترك عنه إضاعة النهار في الهدر، فالإصلاح العام أكبر من قدرة المواطن العادي، ولكن الإصلاح الخاص محصور بكل فرد، ومن الخاص يعم العام، ولأن الشيء بالشيء يذكر فقد استقبل بريدي الإلكتروني في الآونة الأخيرة طلبات للإعانة والتوظيف، مع بعض الشروحات، وفي معظمها قصص إنسانية عظيمة ومؤثرة، ولكن أن يكتب الكاتب عن معاناة الخَلْق لا يعني أنه يملك عصا سحرية يرفع بها عن البشر لحظات ألمهم وحاجاهم، ويا ليته يملكها، وإنما الكتابة هي محاولة ضمن محاولات، للنظر إلى الشقوق المفرحة أو التعسة من حياتنا، وكما قلتها ما علينا إلاّ أن نركب القطار، وإن اضطررنا إلى الوقوف بدايةً بلا مقاعد، فلا بد من أن مقعدنا ينتظر مَنْ عليه ليغادره لنحل مكانه، ذلك أن الارتقاء بالطموح لا يقف عند محطة وتسالٍ وكلمتين «حسد» و«نميمة».
520 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع