حكاية هروب الوزير جميل عبد الوهاب
توطئة:
في هذه الأوراق ينبري الوالد (عطا عبد الوهاب) تصوير لشخصية رجل كان الأول في أسرتنا ، كما كان مسؤولاً سياسياً كبيراً في العهد الملكي ، بالإضافة إلى أن حكاية هروبه في الأيام والشهور المظلمة التي أحاقت بالعراق بعد 14 تموز 1958 تدل على تماسك أفراد الأسرة في زمن الشدائد على الرغم من تباين توجهاتهم الأيديولوجية . إن هذا يدل بدوره على أن منظمومة القيم الأخلاقية كانت متينة الأسس بحيث أتى إنقاذ أخينا الأكبر من محنته على رأس مسؤوليات الأخوين الآخرين.
لكل هذا ، ولطرافة الحكاية وتسلسلها الشبيه بالمسلسلات الخيالية ، آثرت أن أشرك القراء فيها وعلى النحو التالي :
-1-
كنت في صيف 1958 أسكن داراً مؤجرة في الصليخ ، وكانت كثيرة المرافق وتفيض عن حاجة أسرتي. وعندما حدث الانشقاق الداخلي في لبنان ضد إعادة ترشيح كميل شمعون لرئاسة الجمهورية لدورة ثانية، أرسل شقيقي الأكبر جميل على اسرته التي كانت لا تزال تقيم في بيروت فجاؤا إلى بغداد ونزلوا في دارنا. وكان بيتهم الكبير المطل على دجلة في الصرافية مؤجراً أمير ربيعة منذ أن أرسل جميل سفيراً للعراق في لبنان. وعندما استوزر وزيراً للعدلية في وزارة علي جودت الأيوبي ، ثم ظل في منصبه في وزارة أحمد مختار بابان ، جاء أخي إلى بغداد لوحده وترك أسرته في لبنان إلى أن حدثت الاضطرابات هناك. كان هو يقيم في فندق بغداد الذي افتتح آنئذ حديثاً وكان يعتبر من ارقى الفنادق بمقاييس الخمسينات، ولا يزال من الفنادق الجيدة ، وقد صممه المهندس نيازي فتو وهو نفسه الذي صمم دار أخي في الصرافية، في الخمسينات أيضاً. كانت لجميل علاقة ود مع أصحاب فندق بغداد منذ شبابه في الثلاثينات، وكانوا منذ ذلك الحين يعملون في إدارة الفنادق إلى أن تملكوا فندق سميراميس المعروف آنئذ بمأكولاته الشهية الباذخة وشرفته الحميمة الممتدة فوق شاطئ دجلة ، ثم بنوا فيما بعد فندق بغداد ، أول فندق عصري في العاصمة.
-2-
في فجر 14 تموز سمعت طرقا على باب حجرة نومي ، قبل الوقت الذي كنت سأفيق فيه استعداداً للذهاب إلى المطار لتوديع الملك فيصل الثاني ، كنت أعمل في الديوان الملكي آنئذ. جاء الطرق على باب حجرتي متوتراً ، مصحوباً بما يشبه الاستغاثة من أم وضاح ، زوجة اخي جميل ، وهي تقول : عطا . . عطا . . انقلاب! خرجت إليها فقالت إن أختها ( أم ربيعة ) تلفنت لها من مسكنها في الكرادة ، تقول : بيت خالي دينضرب ، وخالهما هو نوري السعيد وكان يسكن في كرادة مريم على شاطيء دجلة . أيقظت زكي . وفتحنا الراديو وكان ما يذيعه بدل فعلاً على حدوث تغيير ما . لم نعرف ما هو . وسيطر علينا الذهول خرجنا إلى شرفة بيتي الأمامية ، وجلسنا نستمع إلى الراديو . والصباح يتقدم , وجاءنا طلعت الشيباني (أصبح لاحقاً وزيراً في حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم)، ولم يكن يعرف شيئاً عما جرى . وعندما خرج حوالي الساعة التاسعة صباحاً ، انتفض زكي فجأة ، وقال كالملسوع : يجب أن نسأل عن جميل. كنا في ذهولنا الأول قد نسيناه . هرعنا إلى التلفون فكانت الخطوط قد قطعت . قال زكي هيا بنا نذهب بسيارتي إلى فندق بغداد.
كانت الشوارع تغص بالجماهير المأفونة ، ورأينا بعض السيارات التي تشق طريقها بصعوية ترفع أغصاناً ، لا أدري لماذا ، فتوقفنا عند شجرة ، وقطعت غصناً ، وسرنا بالسيارة وأنا أمد يدي بالغصن من النافذة. عند وصولنا منتصف شارع الرشيد ، رأينا أحد المعارف ، فسألناه : ماذا جرى ؟ قال : عبد الإله دينسحل في الصالحية.
مضينا إلى فندق بغداد ، وكان لا يزال هادئاً.
اتجهنا إلى الإدارة ، وسألنا عن جميل. قالوا : خرج منذ الصباح ولا يعرفون إلى أين. وجدنا مدير الفندق ، هو شريك (أبو جلال) في ملكيته، فقال بتكتم : أبو وضاح خرج بتاكسي الفندق. ودلنا على السائق. سألناه ، فقال : أوقفني في منتصف الطريق واستقل سيارة أخرى ولا أدري إلى أين. عدنا إلى شريك (أبو جلال) فقال : أنا أحبه وسأخبركم أين هو .. في بيت أبو جلال. ودلنا علي البيت. ذهبنا فوجدنا جميل هناك واندهش لرؤيتنا.
جلسنا صامتين، لا يعرف أحدنا ماذا يقول. كان جميل هادئاً وهو ينظر إلينا باسماً ابتسامة الرضا بمجيئنا وعليه مسحة فخر أخوي. كنا نسمع صوتاً يهرج هادراً من غرفة أخرى دون أن نعرف ماذا كان يقول سوى أنه يحرض الناس على الخروج لدك قصر (عدو الإله) ، كما سمي الأمير عبد الإله ، ودون أن ندرك من هو المتكلم. قيل لنا في ما بعد إنه عبد السلام عارف يتحدث من الإذاعة بعد أن احتلتها قواته. ولم نكن نعلم ماذا ينبغي لنا أن نفعل، باستثناء جميل الذي كان يعرف ما يريد منذ اللحظة الأولى ، وقد عقد العزم على الإفلات من قبضة الحكام الجدد مهما كان الثمن. كت في الليلة الماضية قد شعر بتحركات مريبة في شوارع العاصمة، إذ كان بعض قطعات الجيش تعبر بغداد في طريقها الى الأردن ، وأبلغ عن تلك الحركات فلم يعرها أحد أي اهتمام، فنام قلقاً وأفاق على أصوات الاطلاقات الأولى، فغادر الفندق فوراً إلى بيت (أبو جلال). حدثت في ردهة الاستقبال في الفندق في ما بعد مذبحة عشوائية قتل فيها بعض الأبرياء ، منهم السياسي الأردني الشيخ الطاعن في السن ابراهيم هاشم وكان نائباً لرئيس وزراء الاتحاد الهاشمي وجاء إلى بغداد رئيساً لوفد ينظر في تفاصيل الاتحاد بين البلدين.
قال جميل بهدوء وعزيمة وتصميم : فكرت بالمكان الذي ألجأ إليه مؤقتاً ، وأرى أن آمن بيت الان هو بيت الصديق جلال خالد، فخذاني إليه. كان جلال خالد مديراً عاماً للكمارك والمكوس ، ويسكن في العلوية في بيت كبير تمتد أمامه حديقة واسعة ، باسقة الأشجار ، وتحيطه بيوت متشابهة في حي هادئ ، وكان يقيم هناك وحده إذ كانت زوجته تصطاف في لبنان . ذهبنا بسيارة زكي ، ولم يفقد جميل في الطريق شيئاً من رباطة جأشه ، ولم يقل شيئا سوى أن المحذور الوحيد هو احتمال وجود فلاح الحديقة عند دخولنا ، الأمر الذي يجب تحاشيه. لذلك وقفنا بعيدا عن الباب وتأكدنا من خلو الحديقة ، ودخلنا فاستقبلنا جلال خالد بدهشة ولكنه لم يظهر امتعاضاً من تلك المباغتة الخطيرة في ذلك اليوم الذي ينفث دماً. أدخلنا الرجل إلى غرفة نومه ، وقال لجميل : اخلع ملابسك واسترح. عندئذ، قال لنا جميل : فليطمئن الأهل الآن. ثم ناول زكي مبلغ ثلاثمئة دينار ، وكان استلف من (أبو جلال) مبلغاً عند خروجنا من بيته ، وقال : اعط هذا إلى أم وضاح لكي تطمئن فعلاً ، ولا تقولا أين أنا.
عدنا ، زكي وأنا ، إلى بيتي في الصليخ ، فوجدنا الأسرة ، النساء والفتيات والأطفال ، في ذعر يعقد فيهم ألسنتهم وتمتقع به وجوههم وكان أكبر الموجودين بينهم وضاح الذي كان طالباً في الصف الأول في الكلية الطبية.
-3-
كان منع التجوال قد سرى مفعوله منذ الظهيرة ، فخرجنا إلى الشرفة نجلس بجنب الراديو في محاولة لفهم ما يجري بأذهان مشتتة. وبعد قليل إذ بدراجة هوائية تقف في الباب فهلعت قلوبنا . ولكن لا ، فقد ترجل منها الصديق خالد القيسي الذي كان قد استأجر الدراجة من البقال المجاور لبيتهم في محلة السفينة في الأعظمية ، واخترق بها الأزقة البعيدة عن سطوة القرار بمنع الناس من التجوال . لم يكن هو أيضاً يعرف شيئاً محدداً ، ولكن مجيئه كان كالنسيم البارد يهب على رمضاء القلوب.
عندما خرج خالد ، قال زكي : ربما سيبدأون بتفتيش البيوت بحثاً عن المطلوبين عندئد شعرت أن على أن علي أن اتخذ بعض الحيطة. قمت وأحرقت دفتر يومياتي عن عملي في البلاط الملكي ، وسجل المحاضر للاجتماعات السياسية التي كان الأمير يطلب مني حضورها وتدوين محاضرها ويطلب كنلك أن احتفظ بالسجل معي في حقيبة اليد إذ كانت أكثر الاجتماعات تعقد ليلا في قصر الرحاب. أحرقت كذلك كثيرا من التصاوير ، ولكن بيتي لم يفتش قط. ولم يفتش بيت زكي أيضاً.
في اليوم التالي ( 15 تموز ) ، عاد زكي ظهراً من عمله ، وكنت أنا قد لزمت الدار، فاختلى بي ، وقال لي : جاءه إلى البنك الصديق خدوري خدوري يقول إن جلال خالد أعلمه باختباء جميل لديه وأن الرجل يحس بالحرج ولكنه لا يستطيع التصريح به.
قال زكي : هذا يعني إشعارنا بالبحث عن ملجا آخر ، ويجب أن نسرع في إيجاده ، إذ سرعان ما سيشيع الخبر وينكشف الأمر. وأخذنا نفكر بمكان جديد. خطر لي أن أذهب إلى صديقي محمد زينل لأقترح عليه نقل جميل إلى الصويرة لدى الشيخ خليبص. كان محمد قد عمل حاكماً هناك وصار الشيخ من أصدقائه وأصدقائنا . وذهبت إليه ، فلم يشجع الفكرة ، وقال : الناس خائفة وقد يحرج الرجل وربما يعتذر.
كنا ونحن نتخيط في أفكارنا بحثاً عن مكان آمن لا نحاكم الأمور محاكمة منطقية ، فنستسهل أي أقتراح يرد على البال ونحسبه في الحال سليماً وقابلا للتنفيذ. خطر لزكي أن نذهب إلى عبد الرزاق شبيب، وكان يسكن في العطيفية على دجلة قرب الكاظمية ، ووالده من أقارب والدتي ، وكان بينه وبين جميل صلات عريقة ولكنها اهتزت بفعل الخلافات السياسية إذ كان شبيب من أعضاء حزب الاستقلال المعارض. ذهبنا إليه في تلك الظهيرة القائظة. فكان لقاؤه لنا غير ترحابي إن لم أقل فظاً. عدنا ونحن نحس بأن شعور النقمة لدى الرجل كان أقوى من واجب المروءة في إغاثة الملهوف يوم حده الفاصل بين الحياة والموت. رجعنا إلى الدار واليأس يكاد يأخذ بتلابيبنا من كل جانب ، وفجأة تفتق ذهن زكي عن اقتراح جديد.
قال : نذهب إلى العم ناجي . كان هذا هو أصغر الأعمام : أحمد ناجي القيسي ، أخر أبناء جدي الشيخ عبد الرزاق مدرس جامع الحيدرخانة من زوجته الثالثة. كان عمنا ناجي بسن أخي زكي ، وبينهما رابطة فكرية منذ الصبا اذ كان يجمعهما حب المطالعة في الأدب العربي. وقد تخصص العم ناجي في ما بعد باللغة العربية ودرس أولاً في جامعة القاهرة فحاز على الماجستير ثم حصل على الدكتوراه من جامعة طهران وكانت أطروحته عن الفردوسي. كان يومئذ يدرس في كلية الآداب في جامعة بغداد ( وقد بلغ فيها أعلى الدرجات في ما بعد وانتخب عضواً في المجمع العلمي) ، كان العم ناجي يكن لشقيقنا جميل حبا خاصاً ، إذ لم يكن جميل يألو جهداً من معاونتة في حياته الدراسية والعملية. كان الرجل يسكن مشتمل قريب من بيت زكي ، في شارع عرضاني يربط بين شارع طه وشارع نجيب باشا ، وكان متزوجاً من سورية وقد صحبت أطفالها ذلك الصيف للاصطياف مع أهلها في الشام.
الحي الذي يسكنه هادئ ، والمكان فارغ إلا منه ، فذهب زكي اليه لوحده وعاد بعد قليل، يقول : هيا بنا ، وافق ناجي فلنذهب لنقل جميل إليه. ذهبنا قبيل العصر ، وقبل سريان منع التجوال ، فلم يمانع جلال خالد بترك جميل لبيته ولو على سبيل شكليات المجاملة. كانت تلك من أيام القيامة الصغرى التي لا يهتم فيها المرء إلا بنفسه. أجلسنا جميل في المقعد الخلفي وهو يرتدي بجامته ولا يزال على رباطة جأشه. ناولته جريدة ليتظاهر بقراءتها إخفاء لوجهه إذا مر بنا بعض الدهماء. سلكنا شارع غازي ( الكفاح الآن ) وكان يكاد يكون خالياً. سألنا جميل إلى أين ؟ فأخبره زكي : لدي العم ناجي ، لأن مكانه قريب من بيوتنا وليس فيه سواه ، فلم يجب . وبعد قليل ، سأل بشيء من التوتر : ونوري باشا ؟ أين هو ؟ لم نكن نعرف ولم نكن ندري أنه في تلك الساعة بالذات كانت بعض أشلائه تسحل على أيدي رعاع البلاد في شارع الرشيد المحاذي لمسيرنا.
ووصلنا ذلك المشتمل الأمن بسلام دون أن يعترضنا أحد ، فاستقبلنا العم ناجي بحفاوة . كان خائفاً ، نعم. ولكنه كان صادقاً في ترحيبه بذلك الضيف المفاجئ ، في ذلك اليوم الطارئ ، في زمن المفاجآت الدامية. لا شك أنه كان مدركا أيضا مدى المغامرة التي أقبل عليها وما تنطوي عليه من تضحية في جوف الغيب. حين عدنا إلى داري في ذلك الأصيل الحار ، القاني ، كنا نشعر كمن أنزل عن كاهله حملا ثقيلا. أحسسنا بشيء من الأطمئنان ، والرضا عن أنفسنا، وبأن هناك من يشد أزرنا في الملمات يوم يشتد الهول في عصفه المجعجع بدهاليز الإنسان المظلمة.
أخذنا نزور جميل يوميا بعد أن يسدل الظلام أستاره على تلك الشوارع الفرعية. كنا نشعر كأننا نزور وكرا سريا ، بل كان ذلك المشتمل وكراً حقيقياً نخفيه عن أنظار السلطات . ولم تكن الحارة هادئة تماماً إذ يكثر فيها الصبيان يلهون ويعبثون . لذلك كان علينا أن نمرق خلسة لكي لا نثير الشبهات ، وكانت في تلك الايام كثيرة. وقد أخذ جميل منذ اليوم الأول يتخذ احتياطات يبتدعها ذهنه الجوال لكي يحول دون انكشاف أمره. طلب منا أن نطرق الباب بطرقات معدودات ، ذات فواصل ، وجعلنا نجرب ذلك أمامه ، فكنا كلما جئنا نفذنا ذلك الطرق حرفيا ، ومع ذلك فهو لا يفتح لنا الباب إلا بعد أن يتطلع علينا من مخبئه. ولكنه من جانب آخر لم يكن يتحفظ في أمور أخرى ، إذ أخذ العم ناجي يشتكي لنا ، ولكن لا بروحية التذمر بل بدافع الحرص على سلامة ذلك الهارب من أنياب مصير مجهول ، فيقول لنا مثلاً : إن جميل لا يتحفظ باستعمال الراديو ، إذ أعود ليلاً في بعض الأحيان وأسمع الإذاعات وأنا في الشارع مما قد يثير ريبة الجيران . كان الجيران يعرفون أنه يسكن لوحده ويغادر المشتمل منذ الصباح وهو لا يريد أن ينبه ضيفه إذ يمنعه حياؤه من مضايقته.
لم نكن نخبر الأهل بمكان الأبن الأثير ، ونكتفي بتطمينهم ، وذات مساء ،طرق باب بيتي في ساعات منع التجوال ، فهرعت مذعوراً أفتحه وتبعني زكي ، فوجدنا أمامنا في الظلام ضابطاً برتبة رئيس أول (رائد) ومعه بعض الجنود ،سلم بأدب ، وقال إنه مضطر لأداء الواجب ، وهو التفتيش في داري عن جميل عبد الوهاب . قلت له في الحال : تفضل فتش ، ولكن أقول لك بطلاق زوجتي انه غير موجود في بيتي. لا أدري لماذا أقسمت بذلك القسم العفوي الذي لا يمكن أن يجري على لساني ، وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي يتدفق بها فمي بتينك الكلمتين دون قصد مني. تردد الضابط قليلاً ، ونظر إلي ملياً ، ثم قال : إذن أين هو ؟ فبادر زكي بالجواب إنقاذاً لي من آثار ذلك القسم الغليظ ، وقال له : لا أدري. ليتكم تعثرون عليه وتخبروننا لنطمئن. حيانا الرجل وانصرف.
-4-
مرت الأيام على هذا المنوال ، وبدأت محاكمات المهداوي ، وكان المتهم الاول غازي الداغستناني ، وجميل يستمع إلى تلك المناوشات عن طريق الراديو. لم يكن في مشتمل عمنا تلفزيون . وكان هذا الجهاز قليل الانتشار في بغداد أيامئذ . لم يكن موجوداً في بيتي أنا أيضاً ، ولا في بيت زكي . وقد تزايدت مبيعاته في السوق لحرص الناس على مشاهدة تلك المسرحية المجانية على الهواء مباشرة ، وكان أغلب المشاهدين من الناقمين على المتهمين وسرعان ما تحولوا إلى ناقمين على المحكمة وعلى رئيسها خاصة ، ولو أن كثيرين كانوا يستملحون فكاهاته وهو يلقيها كالممثل الهزلي المحترف في سيرك . ورغم هذه المغريات عزفت عن شراء جهاز ينقل أمامنا ما كان يجري في تلك القاعة الرهيبة ، فقد كنت أتحاشى حتى الاستماع إلى نقل (المرافعات) بالراديو إلا ما ندر ، كنت ألاحظ أن شعور أهل الدار كان كذلك أيضاً ، لذلك لم يطلبوا شراء شاشة صغيرة لأنهم لا يريدون أن يتفرجوا على محنتهم ، بل يحاولون الهروب منها ما استطاعوا.
وذات يوم جاءت سيارة عسكرية إلى بابي ، وقالوا : تعال معنا . ذهبت وأنا لا اعرف إلى أين . كان الراديو في السيارة يذيع شهادة أبو نوار في محاكمة الداغستاني. قلت لهم : إلى أين ؟ قالوا : إلى محكمة الشعب للشهادة.
قد استدعيت إلى لجنة تحقيق ، ولم يستجوبني أحد عن شيء، ولم أعرف عن ماذا ستكون شهادتي. أدخلوني إلى غرفة انتظار قرب قاعة المحكمة ، وأبو نوار لا يزال يدلي بشهادته فقد استمرت ساعات. ما ان انتهى حتى نودي علي. هكذا، من داري الى محكمتهم.وأدليت بشهادة لم ترق للمهداوي ،وهي مسجلة حرفياً في موسوعة المحاكمات. وعندما انصرفت أوجست ريبة ، حتى أنني سألت : إلى أين أذهب؟ قالوا الى بيتك! عدت وأنا أحمل هماً ثقيلاً.
في اليوم التالي ، جاءني الرائد نفسه الذي أتي لتفتيش داري بحثاً عن اخي جميل . قال بأدب جم : لدي أمر باعتقالك وسأقودك مخفوراً الى الموقف في سجن بغداد المركزي ، وكان ذلك السجن يقع آنئذ في الباب المعظم. وقد عرفت فيما بعد أن هذا الضابط يدعى سعيد مطر ، وقيل إنه كان عضواً في الحزب الشيوعي ، قال لي في الطريق نحن نعرف أنكم عناصر طيبة ولا نريد إيذائكم ، ولكني مضطر لتنفيذ الأمر بالاعتقال . كنا نركب مع جنديين آخرين في سيارة جيب مكشوفة. وقبل وصولنا السجن ، فارت السيارة في الشارع وتعطلت . أنزلني الرائد منها ، وقال لي إمش أمامي واسبقني ببضع خطوات لأنني لا أريد أن يلاحظنا أحد ، وربما يقع اعتداء عليك. وعندما وصلنا السجن سلمني إلى مدير الموقف ، النقيب أنور الحديثي ، وقال له : هذا شاب طيب وأرجو أن تحسن معاملته.
دخلت سجن بغداد ووجدت فيه رجال العهد الملكي كبارهم وصغارهم . ما أن رآني الكبار (منهم ومنه أحمد مختار بابان وخليل كنة وآخرين) حتى أقبلوا علي، يسألونني : أين هو جميل ؟ فكنت أقول لهم : نحن لا نعرف مصيره ... ذهبنا إلى فندق بغداد صباح 14 تموز ولم نجده . . ولا ندري اين هو . فبمثل هذا الكتمان التام استطعنا ، زكي وأنا ، أن نحفظ ذلك السر الكبير. كنت الاحظ على وجوه السائلين شيئاً من مسحة الأسى على أنفسهم، مشوبة بالحسرة لعدم استطاعتهم النجاة بأنفسهم كما استطاع ذلك الرجل المختفي حتى الان. مكثت في الموقف خمسة وخمسين يوماً دون تحقيق، وأطلق سراحي بكفالة أخي زكي الشخصية.
-5-
قال لي زكي ونحن في سيارته في طريقنا إلى بيتي : ستجد في بيتك مفاجأة ... ستجد جميلاً يسكن عندك في غرفة في الطابق الثاني قرب الحمام. وعندما لمس زكي دهشتي ، أخبرني أن زوجة عمنا ناجي قد عادت مع اطفالها الى بغداد عند انتهاء العطلة الصيفية ، فكان لا بد من نقل جميل الى مكان آخر قبل وصول أسرة العم إلى المشتمل. لم يجد مكاناً آمناً من بيتي ، لا سيما وأن السلطة قد بعثت سابقاً بمن يفتش البيت واقتنعت بعدم وجوده فيه. كان بيتي الذي استأجرته في الصليخ يحوي غرفاً كثيرة ، وكان الطابق الثاني غير مستعمل فعلاً . أخبرني زكي أيضا أنه أضطر لإخبار الكبار من أفراد الأسرة بنقل رب الأسرة إلى المكان الذي يسكنونه ، وبذلك لم يعد السر مقتصراً علينا نحن الاثنين فقط.
دخلت بيتي دون أن أظهر ما يدل على معرفتي بالقاطن الجديد.ولم أزر جميل في مخبئه الثالث إلا بعد أن جن الليل ونام صغارنا . وجدته مرتاحا في غرفته ، والحمام إلى جانبه ، وجدته منذ زيارتي الأولى في ذلك الليل ، بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على اختفائه ، يخطط للمستقبل.
كان زكي قد انتقل في هذه الأثناء مع ولده عمر إلى بيته ، لذلك لم يعد يستطيع زيارة جميل يومياً لئلا يلفت بذلك الأنظار ، فاقتصرت الزيارات الليلية علي فقط ، إلا في ما ندر . وذات مساء طلب مني جميل أن آتيه بنسخ من استمارات (من أين لك هذا) التي أصدرت بموجب القانون المشرع بذلك الاسم لمحاسبة المسؤولين في العهد السابق . قال إنه سيملأ الاستمارات حسب الأصول ، وعلينا أن نجد مسافراً إلى خارج العراق لكي يحملها معه ثم يرسلها من هناك بالبريد . عندئذ سيشيع الخبر في بغداد أن الأستاذ جميل عبد الوهاب موجود في الخارج . حيلة ذكية جداً : ملأ جميل الأستمارات ، وأخذنا نبحث عن مسافر أمين . وأخيراً وجدناه : صبحي الطائي ، عديل جميل ، كان مسافراً الى تركيا، وبعث الرجل بالأستمارات من أسطنبول ، وشاع فعلاً خبر وجود جميل هناك.
-6-
اطمأن جميل بعض الشيء ، وكان يقول إن السلطة ليست وراءه فيما يظهر ، ولديها من المشاكل ما يكفي ، فقد كان الانشقاق قد حصل أصلاً بين الندين : عبد الكريم وعبد السلام ، وما تبع ذلك من أحداث معروفة. وأخذ جميل يخطط الآن للانتقال من بيتي إلى بيته! كان بيته الكبير المطل على دجلة مستأجراً من أمير ربيعة ، وقد أخلاه الرجل ، فذهبنا لأعداد الدار لسكن الاسرة، ووجدنا التماثيل الحجرية الكبيرة التي نحتها الفنان خالد الرحال ونصبت في حدائق الدار قد أصيبت وجوهها ، في الأنف والعينين خاصة، بحفر غريبة. سألنا الفلاح (سوادي) الذي يعمل في الحديقة منذ إنشاء الدار ، فقال : كان أبناء الأمير يتدربون على الرماية بالبنادق والمسدسات فيتخذون من التماثيل أهدافاً لهم . كانت أصاباتهم دقيقة حقا ! كنت أحاول التندر مع جميل حول مثل هذه الأمور لتهدئة باله ولكنه لم يكن يعير اهتماماً لمثل هذا الكلام.
كان اهتمامه ينصب على كيفية نقله من بيتي إلى بيته . كان يقول : إذا عدت الى بيتي فلا يعقل أن يظن أحد أنني موجود فيه.
ولكن كيف ؟ فذلك البيت يقع أمام مولدة الكهرباء الكبرى في العيواضية ، ووضعت في مداخل الأزقة التي تؤدي إلى الدار مراكز حراسة دائمية ، فكنا نفتش نحن والسيارات كلما مررنا ، ومن أي اتجاه جئنا . كان جميل يوصينا بأن نكثر من الذهاب إلى تلك الدار دائماً ،
مرة بسيارتي الصغيرة الفورد انكليا ومرة بسيارة وضاح الكبيرة الهمبر ، وأن ندخل من الزقاق نفسه ، لكي يتعرف علينا الحرس، فيتراخى تفتيشهم بالتدريج ، وقد تراخى فعلاً ولكن مغامرة مرور جميل من هناك مغامرة خطيرة ، قد تكلفه حياته . فما الحيلة ؟
ووجد جميل الحيلة. كان هو يبتكر الخطط العجيبة ويكون علي أنا أن أنفذها. كنت آنئذ ألازم الدار لفرض الإقامة الإجبارية علي منذ إطلاق سراحي، ، ولكن لم يكن أحد يدقق امر تنفيذ تلك الإقامة المفروضة، لذا كنت احيانا استطيع الخروج من الدار بلا تحرج. قال لي جميل : ان المقعد الخلفي للسيارة يمكن رفعه لذلك طلب مني أن أتصل بنجار ،وأطلب منه أن يصنع لي مقعداً بمقاييس مقعد السيارة ، وأدعي أنني سأركب ذلك المكتب في غرفة المكتبة في بيتي. كانت مثل هذه الخطط التي تبدو خيالية سهلة الاقتراح ولكنها صعبة التنفيذ ، وكنت أنا أبذل كل ما استطيع لتنفيذها.
اتصلت بنجار كنت أعرفه ، وجئت به الى بيتي وأريته الركن الذي أريد تركيب ذلك المقعد فيه . وبعد أيام جلب النجار المقعد وركبه وفي الليل قمت بخلعه وجربته علي القسم الخلفي من السيارة الهمبر. جلس المقعد هناك وفق التصميم ، وكأنه المقعد الأصلي مع فارق واحد هو الفراغ الكبير من تحته، ذلك أن حشايا المقعد الأصلي كانت تمتد برفاساتها الى أرضية السيارة في حين أن المقعد المصنع يترك فراغاً من تحته يكفي لاختفاء رجل فيه.
أخذ جميل منذ تلك الليلة يجرب الامتداد في ذلك الفراغ تحت المقعد الخلفي وقد أثنى ساقيه وساعديه ، ثم يخرج بعد دقائق فيتمطى، ويقول : ضيق جداً ،يكسر أضلاعي! ثم يجربه المرة بعد المرة كلما حل الليل ونام أهل الدار وانقطع مرور السابلة في الشارع. ثم أخذ يطلب مني أن أسوق به وهو في ذلك الوضع في الشوارع المجاورة عند منتصف الليل للتجربة المتحركة لبضع دقائق. التجربة الساكنة لا تكفي.
ورسم لنا جميل خطة نقله الى بيته مفصلاً. طلب منا أن يذهب وضاح بسيارته الهمبر يومياً ، وأحياناً مرات عديدة الى دار الصرافية ، وأن يركب الى جانبه أخته منى، والى الخلف منه على ذلك المقعد الثمين زوجتي بتول، أن يتوقف وضاح عند نقطة الحراسة دائماً حتى إذا لم يوقفه الحرس، فيسلم عليهم ، ويخبرهم بأننا نستعد للانتقال الى دارنا. وهكذا كان. وفي اليوم المحدد ، ترك جميل مخبأه الثالث الذي في بيتي وانتقل في وضح النهار إلى ذلك الفراغ تحت المقعد ليتمدد في الظلام، وساق وضاح السيارة وإلى جانبه منى وإلى الخلف منه بتول، واتجه الى دار الصرافية وأنا اتبعهم بسيارتي الأنكليا، فلم يوقفنا الحرس ، ووصل جميل إلى بيته آمناً فتنفست الصعداء. انتقل من فوره الى غرفة نومه بالذات فكانت مخبأه الرابع. قال جميل عند دخوله غرفته ، الآن ابتعدت عن أنظار السلطة كثيراً.
-7-
كان جميل مؤمناً بالله إيماناً عميقاً ، وإن من نوع خاص ، ذلك الايمان الذي يشده الى الحياة الآخرة بخيط غير مرئي من الايمان متمثلاً باحسانه الدائم للفقراء والمحتاجين. كان الاحسان والكرم وخدمة الغير من أنماط العبادة لديه. وهو حتى في هذا لا يخلط بين الغيبيات ووقائع الحياة الدنيا. لذلك لم يعتمد في محنته العسيرة الا على نفسه وعلى معونتنا ، ولم يتوكل الا على ذكائه وحيويته وجرأته. كان هذا ظاهر حاله ، ولا أعرف ماذا كان في قلبه. ولكن زوجته أخبرتني بعد سنين أنه في مرضه الأخير، الذي مات به سنة 1973 عن 62 سنة فقط ، كان يقرأ القرآن جالساً على سجادة في حجرة نومه بشقتهم في بيروت، ويتلوه بصوت خفيض خاشع.
إنتقلنا جميعاً الى ذلك البيت الكبير الذي كان يسمى قصرا ، وأغلقت أنا داري المستأجرة في الصليخ قبل انتهاء عقد الايجارة. واستقر جميل في جناحه الخاص ، المنعزل ، يحيا في حياته المترفة التي تعود عليها طوال حياته، لا ينقصه فيها سوى الحرية. وأخذ زكي يتردد علينا كل يوم تقريبا لان زيارته لم تعد تلفت الانظار، في تلك المنطقة الشبيهة بالريف، وفي ذلك البيت الشاسع ، فكنا هو وأنا ، ننتقل من جناحي في البيت الى جناح جميل دون أن يحس بنا أحد من أفراد الاسرة. وأصر جميل ، رغم اطمئنانه على سلامته في بيته ، علي أن نستمر كلما جئنا الى غرفته على طرق الباب تلك الطرقات المعدودات ذات الفواصل والايقاعات . كان يقول : لقد علم بالسر الان أكثر من واحد ، ولا بد من الحيطة
وهكذا أخذ يبتدع الخطط الجديدة لابعاد الشبهات . فبعد أيام من استقراره في بيته بالذات ، اقترح علينا أن نعرض الدار للايجار، لمجرد التمويه ، على أن يكون العرض جدياً بمعنى الكلمة ، ويقول لنا : لا يمكن أن اطمئن اطمئنانا تاماً . أرسلني الى تشريفات وزارة الخارجية لأرجو منهم أن يعرضوا الدار لمن يطلب من السفراء. وطلب من زكي ، وكان لا يزال معاوناً في بنك بغداد ، أن يكلم التجار الذين يترددون على المصرف عن عرض الدار للايجار.ومضينا ننفذ ذلك . اتصل بي رئيس التشريفات في الخارجية (علي صائب) وقال إن السفير البريطاني (السر هنري ترفليان) يبحث عن دار ، وأن داركم تليق به. وجاء السفير وحاشيته فعلاً ، وأخذناه بجولة في الدار وعندما نمر بالغرفة التي يختلي بها جميل مع نفسه ، نقول : هذه غرفة كبيرة متخذة الان مخزناً والمفاتيح ليست معنا ، الخ... ، فلا يثير كلامنا ريبة أحد. أعجب السفير بالدار وملحقاته وحدائقه ولكنه اعترض على مسألة الحراسة، وقال اذا استطعتم رفعها اتصلوا بنا. فودعناه ونحن نشعر بأن الغرض من الخطة قد تحقق أصلاً. ثم تلاه السفير الهندي (المستر جاندره) وكان شاباً وسيماً يتكلم الانكليزية بطلاقة أكسفوردية مع لكنة هندية محببة. دخل ورأى ابنة اخي الصغرى ، فتوح ، وهي تحمل طوقاً كان يتخذ آنئذ للرقص به في رقصة اشتهرت في تلك الايام وأظنها كانت تسمى (هولا هوب). تناول الطوق من فتوح ودخل فيه وأخذ يرقص أمامنا بكفاءة نادرة وهو يفيض مرحاً. كان من شخصيات المجتمع المخملي الذي لم يكن انقرض بعد في بغداد. وتجول في الدار، وقلنا عند وصولنا الى غرفة جميل : هذه الغرفة قد اتخذت مخزناً الآن .. الخ ، وأعجب كثيراً بما رأى واعترض كذلك على الحراسة . وهكذا ، في تمثيلية متواصلة شملت العراقيين أيضا ولم تقتصر على السفراء الاجانب وحدهم. فقد أبدى الحاج محمود البنية ، وكان في الثلاثينات من سكان الحي الذي كنا نسنكنه في بغداد القديمة، رغبته لا باستئجار الدار بل بشرائه ، وجاء ومعه بعض أبنائه وبعض خبراء العقارات . تجولوا في الدار ، ثم انصرفوا . لم يبدوا رأياً ولم يعرضوا سعراً واكتفينا نحن من تلك الغنيمة بإيابهم . وشاعت هذه الأخبار ، وتحقق المأرب منها.
بعد ذلك أخذ جميل يفكر بإيجاد مخبأ إضافي لكي يلجأ اليه في حالات الطوارئ لعل هناك عوامل كثيرة كانت تفعل فعلها في نفسه فتدفعه الى المبالغة في التحفظ والاحتياط . فبالإضافة الى سليقته المطبوعة على التفكير بالعواقب والاستعداد لها لربما كانت عزلته ووحدته تثير في نفسه الهواجس السود، خاصة وهو يسمع في غرفته عن طريق الراديو ما كان يتعرض له زملاؤه في المسؤولية من مهانة واستهزاء من المهداوي في محكمته ويسمع أيضاً تهديدات المتفرجين من الدهماء والمهرجين. لعل من العوامل أيضاً أنه كان يحاول، ربما من حيث لا يدري، أن يشغل نفسه بفكرة ما ، بفعل ما ، وينشغل بعد ذلك في ملاحقة تنفيذه.
كانت غرفته في نهاية رواق يقع في أواخر سلم الى السطح. تحت السلم مخزن صغير . وأمامه فسحة اقترح علي جميل أن أذهب الى نجاري وأكلفه بصنع مكتبة وفق مقاييس تلك الفسحة بحيث تغطيها وتغطي المخزن الذي فيها . فنفذت الاقتراح .
وجئنا بالمكتبة ووضعت فيها عدداً من كتبي ، فانقلب آخر الرواق الى شبه غرفة جميلة للمطالعة . ولكن جزءاً من المكتبة يمكن سحبه بسهولة والدخول الى ما خلفه ، ثم ارجاعه الى مكانه من الخلف. أخذ جميل يتدرب هذه المرة على هذا التمرين. فهو يسحب الجزء المتحرك ، ويختفي وراءه ويرده الى مكانه ، حتى صار استعماله سهلاً ، يسيراً. كان يقول : احتمال اكتشاف مكاني ضئيل جداً ، ولكن إذا وقع هذا الاحتمال فمن المستحيل أن يخطر على بال الذين سيداهمون الدار أن وراء هذه المكتبة ما وراءها. يقولها بشبه اطمئنان.
وأخذ يقراً بعض كتبي هناك، يبداً بهذه الكتاب ويتركه ويتناول الآخر ويتركه إلى ان استقر على المجموعة الكاملة لقصص سمرست موم ، وكان يثابر على دراستها بمساعدة القاموس ، ويتلذذ بمطالعتها كثيراً ، ويشعر بالرضا من تطور معرفته باللغة الانكليزية.
وكان يطلب أن ألاعب صغاري وابنته الصغرى فتوح في حديقة من حدائق الدار تطل عليها غرفة نومه لكي (يتفرج) علينا. فكنت أفعل ذلك وأحس بلا إرادة مني أنني أقوم بتمثيل دور على مسرح طبيعي. أما هو فأظنه كان يحس من بعيد بنشوة غامرة إذ كان مولعاً بالأطفال . ولعله كان يحس أيضاً برابطة خفية مع الحياة التي يحبها ، ومن بعيد أيضاً.
ويطلب مني أيضاً أن أكثر من دعوة زملائي إلى الدار، لكي تبدو حياتنا المنزلية طبيعية جداً ، ولكي يستمتع إلى سمرنا في ذلك الخريف على شاطئ دجلة الهادئ. كنت آخذ بعض الأصدقاء الى تلك الحديقة التي ألاعب فيها الصغار وأخبر جميل بذلك سلفاً لكي يطفئ النور في غرفته ( ويتفرج ) علينا ونحن في سمرنا حول مائدة الطعام ، فيرحب بذلك ويشاركنا في التمثيلية من بعيد، وفي الخفاء.
-8-
كانت سنة 1958 على وشك الانتهاء ، وقد مضى على اختفاء جميل حوالي خمسة أشهر تنقل فيها من مكان الى مكان حتى استقر في بيته بالذات. وفي أواخر تلك السنة ، عينت معاوناً لمدير شركة بغداد للتأمين . ورفعت عني الإقامة الإجباربة ، وأخذت أداوم في الشركة صباح كل يوم.
دخلت ذات مساء قارص من أوائل سنة 1959 على جميل بعد أن طرقت باب غرفته : طرقتين ، فوقفة ، فطرقة تليها أخرى ، فوجدته لم يحلق ذقنه ذلك الصباح. دهشت ، لأنه لم يتخل عن أناقته وترفه في أحلك الظروف ، ولا أعرف رجلاً آخر مثله يجمع بين لين العيش والرجولة أمام الشدائد ، كما كان يجمع بينهما جميل دون أن يشعر بتناقض بينهما. قلت له : ما الخبر ؟ قال : تعال ادخل واجلس . فجلس أمامي باسماً ، وقال بهدوء : قررت ألا أحلق ذقني ابتداءاً من هذا الصباح استعداداً للتنكر. قلت : ولماذا التنكر ؟ قال لأنني قررت الهروب.
ذهلت وذهبت من فوري إلى زكي فأخبرته . واتفقنا أن نثني جميل عن قراره لما فيه من مخاطر. عدنا إليه ، فوجدناه مرحاً خلاف العادة ، وأخذ زكي يحاججه ويفيض في تبيان المحاذير ، قائلاً له : أنت آمن الآن فلماذا تزج نفسك بمحاولة خطرة لا نعرف نتائجها. كان جميل يرد على حجج زكي باختصار ، ثم قال : إلى متى أبقى هنا سجيناً في غرفتي ؟ مدى العمر ؟ يجب أن أهرب حتى لو كلفني ذلك حياتي . كنت أنا ميالاً إلى الاقتناع بوجهة نظر زكي ، ولكنني كنت أفهم أيضاً عمق المحنة التي يمر بها الشقيق الأكبر في عزلته. وأخيراً حسم جميل الأمر بأن قال : القرار قراري ، وأنا سأتحمل نتائجه ، وما علينا إلا أن نبحث عن مخرج.
أخذنا نجتمع يومياً للتداول في ما يعن لنا من أفكار . هل يهرب جميل عن طريق الحدود السورية ، أم عن طريق نجد ، أم عن طريق إيران ؟ ومن يهربه ؟ وجميل يفكر ويضع الخطط ويبعث بنا إلى هذا أو ذاك ممن يظن أنهم قادرون على المساعدة ، فلا يتبلور شيء. وهو في هذا لا ينسى أن آتيه بعوينات أشتريها من سوق الهرج بشرط أن تكون غير ذات عدسات ، أي بزجاج عادي لكي يستطيع الرؤية بها. ولحيته تطول يوماً بعد يوم ، وهو يرتدي حلة التنكر وينظر في المرآة فيرتاح لما يرى ، ويسألنا : هل يعرفني أحد إذا رآني ؟ كان تنكره جيداً فعلاً ويخفي شخصيته تماماً.
أخيراً تذكر جميل سائقاً خاصاً كان يعمل عنده منذ سنين ، اسمه مهدي ، وأذكره منذ أيام سكنانا في الصليخ في الأربعينات. كان جميل يغدق على خدمه كما يغدق على الآخرين. ولا أدري كيف علم جميل أن ذلك السائق يدير الآن معملاً صغيراً لخياطة القمصان الرجالية في زقاق من أزقة الشورجة.
بعث بزكي إليه مع تعليمات تفصيلية ونحن في كل هذا لا نصرح بشيء للذين نفاتحهم ولا نأتي على ذكر جميل بل نقتصر على جس النبض . ذهب زكي فوجد مهدي ، وعاد يقول : إنه لمس استعداداً لدى الرجل لتنفيذ الطلب.
عندئذ بدأ جميل يخطط للتفاصيل جميعاً. أرسل بزكي مع نسخة من القرآن الكريم إلى مهدي وطلب منه أن يقسم عليه ، وأن يقسم كذلك بالعباس ، وعلي والحسن والحسين ، بأن يحفظ السر. فأقسم الرجل. ثم بدأ برسم خطة الهروب بعد أن يسأل زكي من مهدي عن جميع الخطوات فيعود بالأجوبة تفصيلياً . وجميل يناقش ذلك ، ويعدل الخطة بمقتضى الأحوال ، ويشذبها ويهذبها ، حتى استقر الأمر على الخطة النهائية : أن يأخذه سائقه السابق مهدي بسيارة الى العمارة ، ويسلمه هناك إلى خاله الذي يعرف مهرباً يعتمد عليه ، فيأخذه المهرب سيراً على القدم ، ثم عبوراً للهور بالمشاحيف ، إلى الحدود الأيرانية ، ويدله على المخفر الإيراني على الحدود ، ويتركه هناك هو ومصيره المجهول.
إنغمس جميل بإعداد التفاصيل ، صغيرها وكبيرها ، دون أن يؤدي إنغماسه فيها إلى ضياع الفكرة الرئيسية . كان الرجل من ذاك النوع الذي يجمع بين المبدأ العام للمسألة التي يتصدى لها ، كائنة ما تكون ، وبين التفاصيل المتفرعة عنها بأجمعها ، بتوازن عجيب .
أول شيء بدأ يخطط له هو تهيئة سيارة مناسبة استعداداً للخروج بها من بغداد إلى العمارة . وطلب منا أن نشتري سيارة صالحة ، ووضع ميزانية الشراء ، (750) ديناراً ، فاشترينا سيارة فورد مستعملة ، ولكنها بحالة جيدة جداً ، بمبلغ (700) دينار. قال جميل : أخبروا السائق مهدي أن هذه السيارة هدية مني إليه. كانت هذه آنئذ مكافأة كبيرة جداً . ولا شك أن كرم الرجل قد لعب دوراً عنده في تحديد مقدارها . كنا نلاحظ منذ الصغر أنه مطبوع على الكرم إلى حد الاسراف والتبذير . ولكن ذلك كان جزءاً لا يتجزأ من شخصيته ، وعادة من عاداته التي لازمته الى نهاية حياته . كانت له فلسفة يؤمن بها بشأن الكرم فهو يقول بإيمان عميق بالله ، على طريقته الخاصة ، إذ أمسكت ولم أنفق مما يرزقني الله فسيلعنني ربي ويبتليني بالفاقة . ثمة تفسيرات كثيرة لكرم الرجل يلمزه ويغمزه بها حساده . وكنت أنا شخصياً لا استطيع في بعض الأحيان أن أجزم بعد موته ، نقلاً عن زوجته ، بواقعة جرت وهو على فراش الموت ، وكانت بنظري كافية لتنزيهه عن أي غرض يمكن أن يعلق بكرمه.
في مرضه الأخير سنة 1973 ، علم الملك حسين ، وكان يكن لجميل حتراماً خاصاً ، أن الرجل بحاجة الى إجراء عملية جراحية في لندن وهو لا يملك نفقاتها. نعم ، فذلك الذي أنفق في حياته كل ما كسبت يداه ، آل إلى العوز . أرسله الملك الهاشمي إلى انكلترا على نفقته ، ورافقته زوجته أم وضاح ، فأدخل فوراً إلى المستشفى في لندن . في اليوم التالي عاده السفير الأردني مبعوثاً من الملك وهو يحمل باقة من الزهور عليها بطاقة باسم (الحسين بن طلال) ، وقبل خروجه دس تحت وسادة المريض مظروفاً بألف باون ، تقول أم وضاح إن السفير قال لها عند خروجه : هذه لتدارك المصاريف النثرية . في اليوم الثاني زار جميل في المستشفى ربيعة بن ناطق الطائي ، وناطق عديل جميل ، وكان طياراً من مجموعة الطيارين العراقيين الأولى ، وهو أول طيار يستشهد في حركات الشمال في الثلاثينات . كان ربيعة عند مقتله طفلاً ، وجميل يكن له وداً خاصاً منذ أيام زواجه . (تزوج شقيق ناطق ، صبحي الطائي ، في ما بعد من أم ربيعة ، وهو عديله الذي حمل له استمارات (من أين لك هذا ؟ ) إلى اسطنبول) . كان ربيعة يحيا حياة الضنك في لندن . وعندما خرج هذا الشاب مودعاً زوج خالته وهو على سريره مد هذا يده تحت وسادته ووضع في جيب ربيعة خمسمئة باون . في اليوم الثالث توفي جميل !
-9-
سلم زكي السيارة الى السائق مهدي ، فقام هذا بتسجيلها باسمه واستخدامها لأغراضه انتظاراً ليوم الخروج . وأخذ جميل يعد للاجراءات الأخرى . طلب من أهله أن يأتوه بالتصاوير الفوتوغرافية أيام عمله سفيراً في لبنان .
قال : لديه صورة مع أخت الشاه ، يجب أن أعثر عليها . وأخذ ينقب في أكوام الصور ، ووجد بغيته فعلاً : هو ببدلة الفراك والأوسمة يصافح توأم الشاه الأميرة أشرف بهلوي ، في حفلة دبلوماسية كبرى أقامها في أحد مرابع جبل لبنان على شرفها .. قال لي عندما جئته ذلك اليوم : وجدت الصورة التي أريدها . وأراني إياها باعتزاز وهو يقول : كيف سيعرفونني على الحدود ؟ هذه الصورة ستبدد شكوكهم . ولكن كيف أحملها معي ؟
عندئذ طلب مني أن اشتري علبة المن والسلوى (من السما) ، وأصنع في أسفلها قعراً إضافياً داخلياً ، لكي يضع في الفراغ الحاصل تلك الصورة الثمينة التي كان يعتبرها بمثابة جواز مروره إلى الحرية . وجئت بالعلبة ، وصنعت القعر الزائف ، فأعجب جميل بعملي ، وقال : أشتر علبة أخرى لكي أضع فيها ما أحتاج من نقود . وضع في قعر العلبة الثانية ، في الفراغ الخالي من الحلوى والطحين ، مبلغ خمسمئة دينار قال إنه للاحتياط.
كنا نعد كل هذا في الخفاء ، والشقيق الأكبر يوصينا بألا نخبر أحداً على الإطلاق ، حتى ولا زوجته . وأطبق علينا الشتاء وتلبدت سماء البلاد بسحب أحداث دامية تهدد العاصمة وغيرها ، فقد كانت التوترات المتشنجة السائدة بين التيارات السياسية المتضاربة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على ملأ من الناس . وجميل في مخبأه منذ أكثر من سبعة أشهر وهو يعد خططه لهروبه بهدوء وأتزان وانتباه لكل ما يخطر على البال دون أن تتزعزع عزيمته أو يفل القلق السائد من إرادته أو يشوش عليه صفاء ذهنه.
بقي أمر واحد فقط يتوقف عليه تحديد يوم الخروج . كيف يمر جميل بسيارة مخترقاً بوابة معسكر الرشيد في طريقه إلى العمارة ؟ كان ذلك الطريق هو الوحيد المؤدي إلى هناك يومئذ .
تفتق ذهن ذلك الرجل المحاصر عن اقتراح للحل الأخير . قال : عندنا إبن عمتنا الرائد جميل حداد (وهو أخو النقيب كنعان حداد الذي قتل مع عبد الكريم قاسم في دار الإذاعة ) وهؤلاء هم أيضاً من أقارب بيت الجدة المقربين من (الزعيم) . كان والده الرائد حداد ، أي زوج عمتي ، من معارف أخي جميل في أزمان خلت ، وقد توفي في شبابه مخلفاً وراءه صغاراً . كان جميل يرعاهم ، كما يرعى غيرهم ، كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً . قال لنا : خير من يكلم الرائد جميل حداد هو العم ناجي لأنه على صلة دائمة به ، ولأن عمنا يعرف السر أيضاً . فذهب زكي وكلمه , في اليوم التالي جاء العم ناجي ، يقول : تطوع الرائد جميل أن يأتي في اليوم الذي نريده بملابسه العسكرية فيمر بالهارب من وجه السلطة من بوابة المعسكر ، وكان مقر ذلك الضابط لحسن الصدف هناك . إذن فقد انتهى كل شيء وآن الأوان للبدء بالمغامرة.
حدد جميل الساعة الثامنة من صباح الأول من آذار 1959 موعداً للحركة ، على أن نستعمل سيارتي الصغيرة الأنكليا ، فيجلس أخي متنكراً بزي شيخ بسيط في المقعد الخلفي ، ويجلس الضابط الكريم إلى جانبي . عندئذ قال : الآن خبروا الأهل . وجمع ما يحتاجه من أشياء بسيطة بحقيبة صغيرة كان أهم ما فيها علبتي ( من السما ) . وأخبرنا السائق باليوم المحدد وأوصيناه بطلب من الراكب الذي سينقله أن يمر من معسكر الرشيد قبيل الثامنة صباحاً وقد حمل لسيارة بعلب القمصان الرجالية بحجة نقلها للبيع . ثم ينتظر (الأنكليا) بعيداً في الطريق. بل حدد له المسافة أيضاً .
في ليلة ذلك اليوم ، دخلت على جميل في غرفته ووجدته أمام مرآة صغيرة بملابسه التنكرية وهو يحاول أن يرسم على وجهه ملامح معينة . قال لي بامتعاض : أحاول منذ ساعة أن أضع على وجهي سمة رجل ساذج فلا يطاوعني وجهي . قلت له إرخ فكك قليلاً علامة البلاهة . فأرخاه وقال : هذا أحسن . وخلع ملابسه وارتدى بيجامته الحرير التي كان يغيرها كل يوم وهو أسير ذلك المكان .
في صباح اليوم المحدد ، وكنت فيه مجازاً من عملي في شركة بغداد للتأمين ، جاءنا الرائد جميل حداد بملابسه العسكرية قبل دقائق من الميعاد ، وفي الثامنة تماماً نزل جميل من ذلك السلم الفاره المستدير المرمري بزي غير شكله تغييراً كاملاً وهو بلحية وخطها المشيب . نزل حافياً ، يحمل بيده خفيه ، لا أدري لماذا . بهتت أمي وهي تراه لأول مرة وبكت . وانزوت زوجته في ركن قصي . والصمت يضفي على الردهة الواسعة أمام الباب أبهة إضافية تجمل من تلك المهابة من المصير المجهول . نزل جميل بخفة واتجه الى السيارة رأساً دون أن ينطق بكلمة . وتحركنا .
لم نتكلم طوال الطريق ، باستثناء سؤال واحد وجهه جميل إلى رائدنا نحو بوابة السلامة . قال له : هل عرفتني ؟ فأجابه صادقاً : لا والله !
توقفنا عند نقطة الحراسة . فحيا الحارس الضابط الذي بجانبي تحية عسكرية ، أصولية ، وقال بأدب : تفضلوا . فمرقنا . أنزلت الرائد حداد بعد مسافة بضع مئات من الأمتار من الطريق ، وسرت اتطلع أمامي عسى أن أرى سيارة فورد محملة بالقمصان . فلم أر شيئاً . قطعت أميالاً ، في ذلك الطريق ، وأنا وشقيقي الأكبر لا نقطع ذلك الصمت الرهيب إلا بزفرات قصيرة يصدرها صدري الذي يجثم عليه الأنظار . انتبهت وأنا في ذهابي وإيابي أن رقاص الوقود أخذ يشير نحو الصفر . وأدرك جميل قلقي ، فقال لي بهدوء عجيب : لا ترتبك ... أنا معتمد على الله . ما أن قالها حتى ظهرت السيارة – الأمل في الأفق كأنها بارقة البشارة في السراب . اقتربت منا ، وانتحت جانباً ، وتوقفت فترجل منها مهدي . وقفت خلفها وكانت مركومة إلى سقفها بعلب القمصان الرجالية . نزل جميل من سيارتي ، مرتدياً خفيه ، وحاملاً حقيبته الثمينة ، وما هي إلا لحظات حتى غابت تلك السيارة براكبيها عن نظري .
عدت أدراجي إلى المدينة وتوقفت عند صيدلية اشتريت منها دواء لا أحتاجه وطلبت أن استخدم التلفون . كلمت زكي كما اتفقنا وكان لا يزال في بنك بغداد ، وقلت له : أنهينا الكشف الموقعي حسب الأصول.
ومضت الأيام في الأسبوع الأول من آذار ذاك ، والبلاد قائمة قاعدة بأحداث الشواف الشهيرة في الموصل والتي امتدت آثارها إلى المدن الأخرى ، ونحن في الدار ننتظر (الخبر) ، ذلك الخبر الذي يبشرنا بالسلامة . وذات يوم ، وكنت في فراشي أعاني من حمى مرتفعة ، دخلت علي أم وضاح بغتة وهي تزف البشرى ، بشرى وصول جميل سالماً. نهضت محموماً ، لا أدري ماذا أقول ، ثم عدت إلى وسادتي استمتع بهذيان الحمى كما لم استمتع بها في حياتي من قبل أبداً.
خاتمة
-10-
علمنا من جميل بعد سنين ، عند لقائنا معه في لبنان ، أنه وصل ومهدي بالسيارة الى العمارة ، فأخذه سائقه إلى بيت خاله . وهناك اكتشف أنهم قد غيروا الخطة . قالوا تبيت الليلة هنا ، ونسير غداً ، فأوجس الهرب خفية . لذلك فتح علبة (من السما) الأولى ونفح الخال خمسمئة دينار . قال : لم أستطيع النوم تلك الليلة . وعند الفجر ساروا طويلاً ، وابتعدوا عن العمران ، وأخذوا يتسلقون تلالاً كثيرة . وبعد ساعات طويلة من الكد بلغوا هضبتة ، فقال له الدليل : انظر هناك الى الاسفل ... هذا مخفرهم ، فأذهب إليه ، وأنا عائد .
يقول جميل : اتجهت نحو المخفر مسرعاً ، وكان يبدو لي قريباً وهو بعيد ، بعيد ، وأحسست بالإعياء وبأن قدمي متورمتان . وما أن وصلت المخفر حتى أبرزت لهم الصورة ، أنا وتوأم الشاه . فأسقط بيد الحراس . وتلفنوا لا أدري إلى من . وبعد أقل من ساعة جاءت طائرة هلكوبتر أقلتني إلى مستشفى رقدت فيه أياماً للعلاج . ثم رجوت من السلطات أن يتم نقلي إلى عمان قبل أن أذهب من هناك الى لبنان ، ونقلت بطائرة خاصة لم تحلق في أجواء العراق . وفي عمان قابلت الملك حسين فأكرم مثواي ، وأنا أضع قدمي على بوابة الحرية.
ملحق الصور
1. الوزير جميل عبد الوهاب مع جلالة المغفور له الملك فيصل الثاني.
2. الوزير جميل عبد الوهاب مع شاه إيران محمد رضا بهلوي.
524 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع