طريق إلى الحرية رواية : هاينز كونزاليك
ترجمها عن الألمانية : د. ضرغام الدباغ
العنوان الأصلي للرواية باللغة الألمانية Strasse in die Hölle :
المؤلفHeins G. Konsalik :
صادرة عن Wilhelm Heyne Verlag , Mümchen :
الطبعة 18 :
السنة : 1989
الجزء الثاني
في البدء وصل الإمداد إلى المعسكر، مئونة، الأجور، وسيارة باص صغيرة للأرياف، ومخزن بالأمكان أن يجد المرء فيه كل ما يحتاجه، من الدخان إلى ماء الكولونيا، ومن الصور المقدسة حتى المجلات الجنسية. والسيارة / المخزن، جهزت المطعم الذي كان صغيراً بالنسبة لعدد كبير (سبعمائة رجل)، وبعد بضع ساعات من دفع الرواتب الأسبوعية أصبح المخزن خالياً.
هناك في الأمام، النقطة المتقدمة في بناء الطريق، حيث يعمل العمل بقطع أشجار الغابة، هؤلاء الذين أول من تعاملوا مع هذه الغابات الأزلية، كانت الأشجار تهوي لتفسح المجال للطريق، وهم يدكون الجدار الأخضر.
عاد الهدوء الوقتي، الجيرا وأصدقائه كانوا يواصلون العمل، عشرة ساعات في اليوم، وفي الحرارة المتوهجة، في جو رطب بفعل أبخرة الغابة، تئز حولهم ألوف مؤلفة من البعوض يمثل الجحيم بعينه، بالإضافة للعفونة وروائح نتنة كريهة، وأرض طينية لزجة، وجدار مؤلف متسلقات ليانن الخضراء الغليظة، تشكل إزاحتها صعوبة وكأنها من المطاط.
بعد عشرة ساعات، أنطرحت الوردية الأولى من العمال مرهقة، شبه موتى في الخيم الوضيعة، كان الرجال متعبين لدرجة أنهم لم يسمعوا نداء الوردية الليلية حيث كانوا يعملون على أضواء الكشافات، متراً بعد متر في الأرض المجهولة حسب خطة تنطوي على أمر واحد: إلى الأمام باستقامة..!
كان كارل جبهارت (يناديه البرازيليون كارلوس) قد عاد بسيارته اللاندروفر إلى المقدمة، وكان الهاتف العملياتي الذي ترتبط بخط معلق مع هاتف مدينة كيرس، يمكن أ، يحقق نداء هاتفي مع العاصمة برازيليا بمقسم (بدالة) السيد بولو، وقد استلموا شكواه، ولكنها لم تلقى أكثر أي تجاوب.
" سوف يتم الإطلاع عليها، " قال له صوت يدل على رزانة من مكاتب العاصمة وأضاف " سوف يفحص الأمر موظف مختص ".
" لا أريد موظفاً مختصاً، إني أريد محادثة السيد بوبو شخصياً ..! " زمجر جبهارت في سماعة الهاتف " إن الموظفين المختصين يعيشون أزمة عيشة الملوك ".
لم يستطع التوصل إلى أبعد من ذلك، إذ أنقطع الخط فجأة، ولم يعلم أحد من أي طرف كان القطع.
" هكذا هو الأمر دائماً يا سيد كارلوس " قال الجيرا في المساء عندما عاد جبهارت إلى المعسكر الأمامي مرة أخرى " علينا أن نساعد أنفسنا بأنفسنا وإلا نفقنا جميعاً قبل أن نصل إلى ريو ارغروايا ".
جاء هذه الليلة إلى المقدمة ضيوف: كانت سيارة جيب تسير في المعسكر، توقفت أمام مقر جبهارت، والعمال الذين كانوا حتى ذلك الوقت جالسين حول النار، نهضوا واقفين ثم أخذوا يتقدمون ببطء في حركة تنطوي على شيئ من التهديد، وكانت نظراتهم قاسية ومعادية.
شرطة ..! شرطة ..! كانوا قد دخلوا المعسكر، إذن فإن اريراس قد جعلها حقيقة: إنه سيرغم العمال على العمل بالقوة، وكان القادمون هم: ضابط برتبة نقيب مع سائقه، ولكن الكل يعلم أن وحدة بوليس كانت هناك في المعسكر الخلفي تنظر الأوامر.
جلس جبهارت على طاولته وأنهى كتابة التقرير اليومي، عندما قرع النقيب الباب ودخل، فيما أظل سائقه جالساً في سيارة الجيب، وتحلق حوله رجال يتطلعون من النافذة إليه وهو يمضغ بين أصابع يده المرتجفة سيكارة، ما كاد أن يشعلها حتى أختطفها من فمه يد أحدهم، وقد جرى ذلك بدون صوت البتة، فظل الشرطي في جلسته وكأنه قد تحجر فجأة، فهو يعلم عما يدور الأمر، كلمة واحدة فقط خطأ، فسوف يسحب من السيارة، إذ تطل عليه من جميع الجهات عيون معادية كان يراها ترتجف من الكراهية.
" أسمي دورياس بانديرا " قال النقيب ضابط الشرطة وهو يؤدي التحية، فنهض جبهارت وقد بدا عليه الاستغراب وأضاف " هل أنت المهندس الألماني ؟".
" نعم " قال جبهارت وأشار إلى كرسي بجانب الطاولة " ألا تريد الجلوس يا حضرة النقيب ؟ ماذا تريد هنا ؟ ".
جلس بانديرا " من أجل الاحتياط من أخطاء، أيها السيد نحن لم نأت لأن أحداً طلب منا الحضور بسبب أعمال تهور، ليس من أجل ذلك، أنا هنا من أجل المذكرة التي كنت قد رفعتها ".
لاحظ جبهارت أن باديرا يخادع، أنحنى وأخرج من تحت الطاولة قنينة كونياك وعرضها على النقيب، فهز بانديرا رأسه أن نعم وقال " طعام !... بسرور ".
" كيف وصلت تقاريري إلى أيدي الشرطة ؟ " سأل جبهارت بعد أن ملأ قدحين " لقد اعتقدت دوماً، أنها تحت الغبار في مكن ما بين الملفات ".
" وهذا ما كانت عليه فعلاً " وأرتشف بانديرا رشفة صغيرة من الكونياك " على الرغم من ذلك، فإننا علمنا، أن أشياء معينة تدور هنا بصورة سرية، لابد أنك لاحظت ذلك، أنا أعرف معاناة الناس عندكم، والفساد عندنا معروف ويهيمن على كل مكان ". ورفع بانديرا يده اليمنى مقاطعاً " وفر على نفسك السؤال، لماذا لم يحدث شيئ ؟ كيف يمكن أن يحدث شيئ إذا كانت عشرة أيادي أو عشرين تعمل في ذلك، وهذه الأيادي هي أيادي بشر وتكافأ بالأوسمة والألقاب ؟ في بلدكم الأمر لا يختلف يا سيد، فقط التأثيرات ليست كارثية كما هي هنا، الفقراء يزدادون فقراً، والمحرومين يزيد حرمانهم، والجرائم تغطى بجرائم جديدة ... وهذا الفن من اختراعنا ". ثم أنحنى إلى الأمام وقال " هل أستطيع أن أتحدث معك بصراحة سيد جبهارت ؟ ".
" طبعاً " كان جبهارت مازال في شيئ من حالة من الذهول، فقد كان ما طرحه ضابط الشرطة يمثل له لغزاً، وكان إلى حد الآن يتفادى كل ما يتعلق بمشكلات العمال، وكان حضور الشرطة بملابسهم الرسمية أمراً يصعب إيضاحه.
" هل لديكم قائمة يا سيد جبهارت بأسماء جميع العمال الذين بحسب معلوماتكم يتحدثون عن الشقاء الذي هم فيه ؟ " سأل بانديرا.
هز جبهارت رأسه أن نعم، وقال " طبعاً ولكنها غير متكاملة، أنا أعرف بعضهم فقط والأعداد الكاملة للعمال في الأماكن الأخرى فأني لم أرى حتى وجوههم ولم أحدثهم " قال ذلك وهو يشير بالنفي، ولكن ما الأمر أيها النقيب، حتى الشرطة ستعض على أصابعها وكما قلت الآن، أن الفساد ينمو ويتسع كالفطر حتى في الوظائف والدرجات العليا، وبأمر واحد سيتوقف عملك ".
" ونحن ننفذ الأوامر " ونهض بانديرا وأردف " شكراً على ضيافتك للكونياك، لقد قررت أن أبقى في معسكركم حتى بعد الغد، وسوف يصل المستوصف السيار هل لديك اعتراض على ذلك ؟ ".
" أنا .. لا .. ولكن عمالي " ثم أتجه إلى الشباك الصغير بينما كان العمال ما يزالون يحيطون بسيارة الجيب، وكان وجه الشرطي الشاب قد غدا شاحباً، وهو يجلس على مقعده دون حراك، كان خائفاً وكان ذلك واضحاً " الرجال هنا في الخارج لديهم فكرة سيئة عن الشرطة ".
" هذا أمر شائع في العالم كله " ضحك بانديرا بمرارة وأضاف " على الشرطة أن يعتادوا على ذلك، سوف أتحدث مع الرجال هل توافق ؟ ".
" طبعاً ".
لم يستغرق الأمر طويلاً، ما كان بانديرا يريد قوله، أفصح عنه إذ مضى عبر دروب المعسكر الذي كان قد شيد حديثاً وقال بهدوء " أيها الرجال أنا لست هنا لكي أطرق على رؤوس أصابعكم، وإنما لأضع في يدكم العدالة ".
" نحن لا نعمل تحت كرابيج الشرطة " صاح أحدهم من بين الجموع " عد إلى كيرس ".
" غداً أو بعد غد ستروون لي كل شيئ عن الشكاوي التي تريدون تقديمها ".
" عليك إذن أن تمكث هنا لمدة سنة " وقف الجيرا أمام الضابط وقال " هنا تنبعث الروائح النتنة من كل المسامات ".
" أريد أن أشم ذلك بدقة " قال بانديرا ذلك وقفز من سيارة الجيب " أين يمكنني أن أسكن، من لديه مكان في خيمته ؟" .
" تعال عندي أيها الضابط " قالها الجيرا مبتسماً معرباً عن استعداده " عندي ستكون بين أفضل الأيادي، فقد قطعت مرة رأس رجل ...".
" في تلك الليلة أعد جبهارت قائمة بأسماء الأشخاص الذين بحسب رأيه يتحملون الذنب في جعل حياة البشر هنا أشبه بحياة الحيوانات، وقد كتب هذه الأسماء على أمل تحقيق العدالة، وهو لم يكن يقصد الشكوى أو الإبلاغ عن أحد، كان يريد تدوين ذلك فحسب .
لم يكن هناك أي جدوى، هكذا فكر عندما أنتهي من وضع القائمة، إنها مجرد ورقة، وأنها ستختفي تماماً كما اختفت الشكاوى التي رفعها سابقاً.
بعد منتصف الليل بكثير، جاء بانديرا مرة أخرى إلى الغرفة، فقد كان حتى ذلك الوقت يتحدث مع العمال، وشرب ودخن معهم وتناول مشويات باردة.
" هل صحيح بأنه قبل شهرين جرت هنا إزالة قرية هندية ؟ " سأل الضابط.
" نعم " وتناول جبهارت من صندوقه شريطين (فلمين) من لفافة صفراء شاحبة داخل علبة وأضاف " لقد صورت هذا الحدث أيها النقيب، كان عملاً وحشياً، لقد رفض الهنود أن تستقر الشركة في قريتهم، كما رفضوا النزوح، لقد قمت بالحفاظ على المستوطنة لكن بعد مرور عدة أيام جاءت سيارات شحن إلى المخيم، ستون رجلاً يرتدون الملابس خضراء رسمية وقفزوا من السيارات وبدأوا بإطلاق النار على الهنود رجالاً ونساء وأطفالاً ". مسح جبهارت قطرات العرق البارد من جبهته وأضاف " لقد اتصلت هاتفياً بالعاصمة وكتبت تقريراً والجواب: ليست هناك وحدة من الجيش أو الشرطة قد كلفت بواجب كهذا، وقد علمت بعد فترة، أنه نوع من جيش خاص لشركة الأعمار البرازيلية التي تقوم بأعمال تصفية كهذه. ولم يتهم أحد بذلك ولا أحد يصغي إلى الاحتجاجات والقساوسة الذين احتجوا ضد هذه الفضائع، ثم توجيه التحذير لهم وتخويفهم" ثم قدم الشريطين قائلاً "هذا هو الدليل ".
أشار بانديرا بالنفي " هذه لا أحتاجها، فأنا أعلم من هو قائد هذه الوحدة وهو يدعى فيليب تروفيار ".
" هذا ما لم أكن أعرفه " قالها جبهارت وأخذ الشريطين وقذف بهما إلى الصندوق " آنذاك كنت قد قدمت إنذاراً ولكن حتى هذا ظل بدون إجابة من العاصمة ".
" أبقى هنا يا سيد كارلوس " قال بانديرا بهدوء " نحن بحاجة إليك، وحتى العمال برغم أنهم شباب فإنهم يطلقون عليك لقب باي (Pai) وهذا تشريف لك، وهو ما يقابل عندكم كلمة الأب ".
نهض بانديرا وحيا بأدب ثم غادر الغرفة.
إنسان يستحق الاحترام، فكر جبهارت في نفسه، الشرطة يكونون على غير هذه الشاكلة، ترى إلى ماذا يهدف في الحقيقة، وهو هنا في مقدمة المشروع حيث لا تستحق حياة الإنسان ولا حتى بضعة قروش لا أكثر.
كانوا يقفون حيث مجرى إحدى الجداول الغير معروفة، إنها تسيل من مكان ما وتنحدر إلى مكان ما، وأسماء هذه الأنهر لا يعرفها سوى الهنود الذين وضعوا أسمائها، ولا توجد على الخريطة، لأنها لا تشاهد حتى من الطائرات، فأشجار الغابة ننمو وتتشابك فوقها لتشكل سقفاً هائلاً معلقاً فوقها، والماء أخضر نتن، وتفوح من صفحته روائح كريهة، وكأن النهر قد ارتدى جلداً فرش عليه تماسيح، وإذا ما قذف المرء بكتلة من اللحم يبدو فيتحول النهر كأنه قدر ضخم من الماء الأخضر يغلي، وفي تلك المياه أيضاً، سمكة يبلغ طولها حوالي الذراع لا يبدو منها سوى رأسها وأسنانها، وهي سمكة مفترسة تدعى: بيرانا (Piranha).
" الزورق هنا " أمر باولو الجيرا، إنهم يعرفون عوائق كهذه، بل أنها من الحياة اليومية لعمال المقدمة، والمرء يشم ذلك من مسافة بعيدة، ثم فعلاً يقف المرء على ضفة نهر من هذه الأنهار على أرضية متأرجحة غير ثابتة، يحملق في عيون التماسيح الباردة الغاضبة وهو يعلم بأن هذه المياه الخبيثة تعني نهاية راقصة. ولكن لابد من المواصلة للوصول إلى الضفة الأخرى، الخطة تمر من هنا، الطريق، هذا الطريق القذر ذو عرض عشرون متر، ليكون بذلك مجالاً كافياً لأبعاد القبائل من المنطقة، ولإحراق الأشجار وأوراقها المتساقطة، لابد من أنجاز الطريق إلى أرغوايا، هذا الطريق الذي سوف تجري عليه ثروات البرازيل الواعدة، إنه أضخم مشروع في القرن العشرين، أعجوبة من عجائب الدنيا، أعجوبة عالمية لم يتحدث عنها أحد.
لاحقاً، سينتصب هنا جسر من أجزاء جاهزة، خرسانة على طريقة الشد والتوتير، سيكون هنا سهم دلالة فقط، أما التماسيح وأسماك البيرانا، وكل ما يمكن نهبه، فستتم إبادته بواسطة المتفجرات أو الصيد. ولكن اليوم يوجد فقط زوارق مصنوعة من الخشب مع ألواح تقوية لقاعدة الزورق، أشياء قديمة شبه تالفة وعلى المرء أن يجلس بهدوء وإلا فإنه سينتهي بين أشداق التماسيح وأسنان البيرانا. وكل شيئ هنا رخيص.
رخيص الطريق الذي يكلف مليارات الريالات (عملة البرازيل) ولكن الأعمال التمهيدية والمعدات لا ينبغي أن تكون باهضة، وعدا ذلك، هناك السيد بولو الذي يريد أن يربح.
جلبت الزوارق المواد من المعسكر، وكان جبهارت وبانديرا واقفين على ضفة النهر يراقبان التماسيح تعوم فوق صفحة المياه الخضراء الساكنة.
" لا.. لا تطلق النار " قال جبهارت لضابط الشرطة " أعلم أن ذلك سيهيج الكل، هذه الوحوش التي إذا ما أصيب أحدها، فذلك يعني أن الشيطان قد أنطلق في النهر ".
" إنني برازيلي " قال بانديرا ضاحكاً " لا تخبرني عن رائحة الدم ".
الزوارق الأولى جاءت إلى الأمام وهي تتعثر بأغصان الأشجار وهي تشق طريقها بين الأشجار المترامية على الماء، وكان عمال المقدمة يصدرون الأوامر، الشتائم تئز في الجو الساخن، هواء خانق، وتعرق شديد، أجساد شبه عارية يدفعون القوارب ويحملونها إلى الماء.
مر باولو الجيرا وهو يقود جرافة وقد اقتلع شجرة ودفع بها جانباً، مر بالقرب من جبهارت الذي غمز له وأشار إلى الخلف، ثم أنحنى بجسده على قمرة السائق.
" لدينا جنون " زمجر ليغالب صوت الضجيج " ومن أول نظرة سقطت على عيون الشباب من رؤوسهم سيد كارلوس ".
ضحك ومضى بآليته الثقيلة مواصلاً عمله.
" ينبغي أن نلتقي ونرى بعضنا " قال بنديرا " زوار هنا في المقدمة لا يمكن أن يكون إلا جنوناً ".
ثم قفز إلى سيارة اللاندروفر ومضيا عائدين في طريق وعرة غير معبدة أو ممهدة الأمر الذي أتعبهم حقاً .
من بعيد شاهدا كيف أن عدداً من الرجال يحيطون بشيئ كما لو كانت كتلة من ذباب كبيرة الحجم تبدو كأنها ملتصقة بشيئ، وإلى جانب هذا التجمع، كانت أربعة سيارات متوقفة، بيضاء اللون عليها علامة الصليب الأحمر، وضع بانديرا يده على ذراع جبهارت.
" المستشفى " قال، ثم أردف " هنا إلى الأمام ينبغي أن لا ندعهم يتوقفون قدر الامكان، لابد أن الطبيب المسؤول حمار ".
ثم قاد السيارة بسرعة في الفسحة الخالية من الأشجار، ثم أوقفها عندما شاهد الرجال يتراكضون قادمين من غرف الإدارة ومن كل صوب وقفزوا أمام السيارة وكانوا يتصرفون كالمجانين.
تقدم جبهارت عبر الرجال وتدافع ووجد طريقه حتى توصل أخيراً إلى الموضوع الذي كان مثار التعجب.
إلى جانب رجل ضخم كان يلوح بذراعية إلى الذين كانوا يحاولون أن يتوجهوا إليه بأسئلة كثيرة، كانت تجلس في سيارة جيب مكشوفة، فتاة شابة ذات شعر أسود طويل غير معقوص، ذات عينين لوزيتين أثارت وحشية الرجال الذين كانوا يتلفظون كلمات وملاحظات من طراز وضيع، أحط ما يمكن لرجل أن يسمعه، لا بل كانوا يضحكون عندما صاح أحد الزنوج من ذوي العضلات المفتولة " أنا الأول يا لعبتي ..! أنا مشهور بوجود فالول (ثألول) في القبضة ".
والآن شاهدت جبهارت الذي اقترب خلال حلقة الرجال وتوقف فجأة أمامها، رفعت رأسها الجميل قليلاً، فقد بدا كما لو أنها تجمدت، تطلعت بصمت، ولم يكن اصطدام صاعقتين ببعضهما سيكون له ذات الوقع القوي الذي شعر به.
هذه هي ... تفحصته جيداً، نورينا سامارينا، ملاك قد طار وحط هنا في هذا الجحيم.
ومن الخلف، سمع النقيب بانديرا، وهو يزمجر على العمال ويطردهم بعيداً عن سيارة الجيب. وبدأ جبهارت يتصرف وكأنه قد زالت عن عينيه غشاوة، أو أنه أزاح حجاباً. دخل سيارة الجيب ومسح العرق عن وجهه بذراعه الأيسر، وللمرة الأولى منذ سنين أحس بالخجل من قذارته وإهماله لنفسه.
" أعتقد أنك قد مضيت بعيداً يا آنسة " قال ذلك وصمت، فقد بدا صوته وكأنه قد فقد رنينه، ولكنه أضاف " أنا كارل جبهارت ".
" هل أنت ذلك ؟ " ترجلت نورينا سامازينا من الجيب وقد فاجأها أن يمد جبهارت يده ليساعدها، قفزت إلى أرض الغابة لأول مرة، وساوت بيدها تنورتها الكتانية.
كانت نورينا متوسطة الطول، ذات ساقين طويلتين نحيلتين، وجسد نحيف، وثديان يبدون تحت البلوزة عامرين وكأنهما قبتين مستديرتين مليئتين، وبكلتا يديها قذفت بشعرها الطويل إلى الخلف، وتطلعت إلى جبهارت نظرة شاملة، وكأنها تقيس طوله " إليك كنت أقصد " قالت ثم أوضحت " أقصد أن الدكتور سنتالوس يريد ذلك، وها هو قادم ".
اقتربت سيارة جيب أخرى من السيارات الأربعة، لوحت لها نورينا وأشارت إلى جبهارت.
" الآن عليك إيقاف ثلاثمائة خطأ في لعبة الشطرنج " همس بانديرا لجبهارت " إن إرسال شيئاً كهذا إلى هنا هو الجنون الكامل، المستوصف سيمتلأ بالرجال الذين سيقتلون بعضهم بعضا ".
قفز الدكتور سنتالوس من السيارة وتقدم إلى جبهارت بذراع ممدودة، كان يرتدي بدلة خاصة بالغابات مما يجعله أشبه بمقاتلي العصابات أكثر منه إلى طبيب.
" لقد سمعت الكثير عنك سيد كارلوس " قال ذلك وعانق جبهارت كما يفعل ذلك مع صديق قديم، ثم رأى بعد ذلك النقيب بانديرا، فنسى ذلك الود القلبي الذي أظهره تواً، كما ألتمع البرق في عيني جبهارت ونورينا، والتقت نظرات سنتالوس وبانديرا وكأنهما في مبارزة وصراع دام ثوان، لم يكن فيه منتصر، وبعدها أبتسم سانتالوس مرة أخرى مجاملة وأدباً.
" لقد اعتقدت أن ليس للمستشفى سوى أهمية قليلة " قال " إذا كان مريضاً في هذه الأرجاء البعيدة يتطلب نقله خلال ساعتين أو ثلاثة، ستكون مسألة حياة أو موت بالنسبة له، وأنا أريد أن أبقى هنا في موقع العمل الأمامي سيد كارلوس، ما رأيك بذلك ؟ ".
تفادى جبهارت أن ينظر إلى نورينا مرة أخرى، بل تطلع بلمحة إلى النهر حيث يتناهى الآن صوت صراخ كثير، إذ كانت أولى الزوارق قد جرى إنزالها إلى الماء.
" ما هو رأي لويس جيزوس اريراس بذلك ؟ " سأل جبهارت.
" إنني لم أسأله " قال ذلك سنتالوس بأختصار.
" إنه مدير العمل هنا ".
" كنت أتصور أن مدير العمل هو رئيس المهندسين تانيرو ؟".
" هل كان السيد تانيرو هنا ؟ " سأل جبهارت.
" كلا ".
" وإنك سوف لن تراه إلا نادراً، تانيرو له حبيبة في كيرس وهي تكره البعوض جداً، وهنا توجد جيوش من البعوض ونائبه هو اريراس.
" إنك لا تحبه، أليس كذلك يا سيد كارلوس ".
ومن الذي يحبه هنا يا دكتور ؟ ".
" ستيفانو سانتالوس " أكمل الطبيب معرفاً أسمه، ثم أخذ يبحث في جيوبه عن السكائر " يبدو أننا سوف نتعاقد يا سيد كارلوس، ما أعجبني بك لأول وهلة أن اريراس يكرهك كما يكره الطاعون، وهذا يثبت نوعيتك، هل لديك سيجارة ؟ ".
" عندي واحدة " قالت نورينا، وقبل يتمكن جبهارت من الإجابة وناولت سنتالوس العلبة، ومرة أخرى تبادلت نورينا اللمحات مع جبهارت وكان الأصطدام الذي لا صوت له، هذه المرة ذو مغزى ... وقد شعر بها كلاهما، أبتعد كل منهما عن الآخر، ومضى كل يتطلع إلى أتجاه آخر فيما كان النقيب بانديرا يشعل سيجارة الدكتور سانتالوس .
" وماذا فعلت الشرطة هنا ؟ " سأل سانتالوس.
" إنها تعني بالنظام يا دكتور ".
" إنه شعور بالعدالة ".
" عليك أن تأخذ الجانب العدل أليس كذلك ؟ " وأخذ سانتالوس نفساً عميقاً من سيكارته ونفخ الدخان جانباً لأن نورينا كانت أمامه.
" بالتأكيد " قالها بانديرا وأبتسم، ولكن عينيه كانتا تشتعلان " على المرء أن يعلم من أي مادة تتكون العدالة ".
كان أمراً غير ذي جدوى بالمرة ربط وجود نورينا سامارينا بالموقف والنظام الحالي وإرباكه، هذا ما رآه جبهارت، فلنؤجل ذلك إلى الغد، هكذا فكر في نفسه، فالمساء القادم سيفيض بالكلمات، حيث ستجري أولى المباريات، والصداقة سوف تتحطم كالخشب الهش المتداع، فقط بسبب وجود هذه المرأة في المعسكر، والرجال هنا جياع تماماً، والمبغى المتجول لم يغير من الأمر شيئاً، وبسبب العاهرات كان هناك المعسكر، هناك ثلاثة قتلى قبل ثلاثة أشهر، ومنذ ذلك الحين يحرس الماخور المتجول رجال مسلحون تسليحاً ثقيلاً. والآن جاءت هذه المرأة إلى هنا، سيدة يحلم الجميع بها لجمالها.
في النهر، كانت الزوارق تصطرع بمجاذيفها، كان صوت الصراخ يتصاعد، وكأن شيئاً لا يتم على ما يرام، وفجأة هبوا جميعاً في آن واحد، ومن صوب النهر كان يسمع صوت الصراخ.
إنذار ! خطر ! هرع جبهارت إلى هناك وشاهد كيف وضع الرجال الزورق جانباً راكضين إلى النهر، وأنطلق صوت الرصاص فيما كان صوت الصراخ يتصاعد دون توقف.
" حادثة " صرخ جبهارت وقفز إلى سيارته اللاندروفر، وشاهد كيف أستقل الدكتور سنتالوس سيارة الجيب مع نورينا فيما أخذ النقيب بانديرا سيارة الجيب الأخرى.
" اللعنة نادوا على نورينا لتأتي إلى هنا ! " صرخ جبهارت " إذا كان أحد الزوارق قد غطس أبعدوا نورينا من هنا، فليأت سنتالوس ".
كان يفكر بالتماسيح وفي أسمالك البيرانا، وكذلك في الرجال الذين سينتشلون من المياه قطعاً ممزقة من اللحم، ولكن جهودهم ذهبت عبثاً.
جلست نورينا خلف مقود السيارة، وأدارت المحرك وضغطت على البنزين، وعندما مرقت بالقرب من جبهارت وألقت نظرة عليه.
ومن هذه اللحظة، أدرك جبهارت أن هذه الفتاة قد أصبحت قدره.
للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:
http://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/16702-2015-05-18-12-01-41.html
3266 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع