الجزء الثالث عشر
كانت مرافعات المحكمة تدور بشكل سري، وقد عقدت في مطعم المعسكر، ولم يسمح سوى الضبط بدخول الصالة، ومن أجل أن لا يزج أحداً برئيس المحكمة مستقبلاً في نزاع معين، فقد وضعت الكراسي في المحكمة، سبعة ضباط بما فيهم رئيس المحكمة، ومن العاصمة برازيليا جاء جنرال، كما أوفدت وزارة الداخلية التي تدير جهاز الأمن، أحد أمناء السر وكان رجلاً نحيلاً غير معروف، حضر الجلسات كمراقب، كارل جبهات كان الأجنبي الوحيد الذي جلس خلف حاجز خشبي، وقد طلب العقيد حضوره المرافعات.
كان الأب دي سيتا يتحرك منذ الصباح الباكر، من زنزانة إلى زنزانة يذهب ويتحدث مع الموقوفين " كونوا شجعاناً " قال لكل من ركع أمامه وطلب رحمته، ولم يقل أكثر من ذلك، ولكن الجميع أدرك فوراً أن قرار الحكم قد صدر فعلاً، وأن فترة العمر أصبحت قصيرة، لا تشتكوا، ثقوا بأنفسكم، فقد كان يمكن أن تموتوا فعلاً وكنتم على استعداد للموت في ذلك الطريق الملعون سواء من لسعة أفعى أو في معركة سكاكين، من أجل فخذ عاهرة، أو أخيراً برصاص جنود المظلات، وما سيحدث الآن ليس أكثر من أن تقف على العمود.
كونوا شجعاناً أيها الرفاق.
وكان أول من اقتيد إلى المحاكمة هو الدكتور ستيفانو سانتالوس. كان وجهه منتفخاً ومترهلاً، فمن يضرب بأعقاب البنادق يبدو هكذا، وعندما مر أمام جبهارت أحنى رأسه تحية وأومض بجفنيه، تحية خرساء فهمها جبهارت وعض على شفتيه.
" د. سنتالوس " مزق صوت العقيد الخشن صمت القاعة " إنك متهم بقيادة منظمة إجرامية، جمع من القتلة والمخربين والمتمردين في عصيان مسلح ضد نظام الدولة، هل تقر بأنك مذنب ؟ ".
" لتحيا البرازيل حرة ..! " كان رد الدكتور سنتالوس بفخر، وكان في صوته شيئ من أزيز إذ كانوا قد حطموا له أسنانه " لا يوجد متمردين، بل وطنيين، لا يوجد نظام دولة، ولكن قساة وتفرد في الحكم لصالح أقلية، لا يوجد قتلة ومخربين في صفوفنا، ولكن فقط مناضلون من أجل العدالة الاجتماعية، ولكن هناك توجد عصابة من الأغنياء الذين يستغلون العمال، ويصفون الهنود، هذه العصابة لها جيش خاص بها وله مهمة واحدة هي القتل ".
" شكراً هذا يكفي " نهض العقيد ووضع قبعته العسكرية وأدى التحية ثم تطلع إلى الينين وإلى اليسار، إلى الضباط الستة الآخرين في المحكمة العسكرية فأشاروا بانحناءة رأس خفيفة، ثم نط\ق العقيد ما يلي: إن المحكمة العسكرية الخاصة في الإدارة العسكرية قد توصلت إلى الحكم التالي: الحكم على الدكتور ستيفانو سنتالوس بالإعدام ".
عاد العقيد وجلس وخلع قبعته، أما الدكتور سنتالوس فلم يهتز قيد أنملة وتابع العقيد قوله " هل لديك شيئ بعد تقوله ؟ ".
" كلا ... ولمن ؟ ".
" فعلاً " رد العقيد.
" ما كنت أريد قوله يعرفه كل واحد في هذه الصالة، أيها السادة فكروا بذلك، وقولوا بصوت عال، إلا أنكم وبرغم ثيابكم العسكرية تنقصكم الشجاعة، ليكن الله مع البرازيل ".
واستدار على عقبيه وأتجه صوب الباب، وتوقف فجأة عند جبهارت قرب الحاجز الخشبي ومد يده، لم يمنعه أحد عن ذلك، تطلع الجنود حيارى إلى الضباط، ولكن الضباط ظلوا صامتين.
" لا تعتبر المسألة تراجيديا محزنة كما هي كارلوس " قالها سنتالوس وكأنه قد تحرر " في أوربا يعتبرون أن هذا شأن أمريكي جنوبي يومي ".
ثم مضى مغادراً القاعة فخوراً بنفسه.
الدكتور سنتالوس كان الرجل الوحيد الذي تولى القيادة، ومن أجل أنجاز كافة قضايا المحكومين حتى المساء، فقد اقتيد المتهمين الآخرين في مجموعات إلى صالة المحكمة، كأن شريطاً نقالاً من المتهمين إلى المحكمة، يقرؤون أسم المتهمين، يستمعون إليهم. وكانت إجابة كل من وجه إليه السؤال: لتحيا البرازيل، وتحيا الحرية " ثم يقرأ الحكم. كان التدرج في الأحكام ضيقاً، ممن خمسة إلى عشرين سنة سجن، وهناك أحكام الإعدام على القياديين المعروفين.
لقد تصرفوا مثل الدكتور سنتالوس، وكان القديس دي سيتا قد هيأهم لهذا الموقف، وكان جو المحكمة قد أصبح محرجاً وكئيباً، ليس فقط بسبب الحرارة، بل بشعور المرء بتراكم الكراهية الذي تخلفه أي مجموعة ورائها.
استغرقت مرافعات المحكمة سبع ساعات، بينها ساعة استراحة، ولم تكن نورينا سامازينا قد اقتيدت بعد للمحكمة، وكان جبهارت بحالة متعبة من الخوف، فقد ظل وحيداًُ في القاعة خلال فترى الاستراحة، ولم يهتم به أحد، فيما اختفى الضباط وراء الأبواب، وغادروا الصالة إلى الباحة المشمسة. وقف جبهارت في ساحة التدريب العريضة التي كانت خالية، وشعر وكأنه في مدينة أشباح، ثم عاد الضباط إلى قاعة المحكمة، وعاد جبهارت إلى مقعده خلف الحاجز الخشبي، عندما دخل القس دي سيتا.
" ماذا عن نورينا ؟ وأين هي، ولماذا لم يقدموها إلى المحكمة ؟ هل حدث شيئ لها، سأهرب معها، قل لي الحقيقة أيها الأب ".
" لا أنها ما زالت تنتظر " رد القس دي سيتا " هذا كل شيئ ".
" كيف يبدو موقفها ؟ هؤلاء الأوغاد يحطمون أعصابها، ويدعوها تحترق بنار قلقها، هل ما زالت تبكي ".
تمسك جبهارت بكتفي الأب دي سيتا، هز القس رأسه وقال " بالعكس إنها هادئة، وقد استعادت رباطة جأشها بعد مقابلتك وتبدو لي هادئة جداً ".
" هل تحدثت معها ؟".
" ثلاث مرات حتى الآن ".
" وماذا تحدثتم ؟ ".
" يجب أن تبكي، ياللعنة، ولكنها عندما رأتني سكتت، وهذا لم يعجبني، ربما ينبغي أن تعصر بصلة في العين قبل أن يراها أحد، ربما ستبكي إذا مسدت بيدي على رأسها بمنحها البركة " تطلع الأب دي سيتا صوب طاولة المحكمة وقبعة الرئيس على الطاولة ذات الشريط الفضي العريض يشع في أشعة الشمس.
" عندما لا تبكي، بل تتحدث .." لم يتمكن من إكمال جملته، نهض وغادر الصالة.
" تحدث معها مرة أخرى" هتف جبهارت " رجاء أيها الأب، ربما إذا رأتني ..".
كانت نورينا آخر من دخل الصالة، كان الظلام قد حل، والهواء قد أصبح ثقيلاً، والجدران ما تزال تحتفظ بحرارة النهار.
كانت طقوس التحية قد بقيت كما هي، نفس التهم ونفس الأسئلة، وكان العقيد يراقب المتهمين بدقة وينتظر. المتهمة لا تبكي، فكر في نفسه، كانت لها نظرات ترفع حرارة القاعة، وبوسع المرء أن يجعل هذه الطاقة مفيدة، وهي عندما مرت بالقرب من حبيبها جبهارت واصلت سيرها دون تردد ودون أن تلتفت برأسها، أو أن تتطلع إليه." يا لها من إمرأة ".
كاد أن ينهار عندما رن صوت نورينا فجأة بصوت عال وواضح، عندما قالت" أيها الجبناء، هل أقلعتم عن كونكم برازيليون، فقط لأنكم ترتدون الملابس العسكرية ؟ أيها الرائد ماركوس، لقد كان ذويك من مزارعي التبغ، وقد جاعوا من أجل توفير نفقات دراستك، كيف عشت ؟ لقد كدوا وشقوا من أجل توفير كل كروتسيروس، هل استفاد والديك من ارتفاع أسعار التبغ عالمياً ؟ أين ذهبت النقود ؟ وأنت أيها النقيب بيريرو، ألم يكن والدك عاملاً عند السيد لومباز ؟ ألم تسمع قط أن والدك كان يتضرع إلى السيدة العذراء أن يرسل الشيطان إلى السيد بيروبيرتا ريو ؟ ".
قفز العقيد من مقعده وارتدى قبعته.
وكان صوته الآمر يمزق كلمات نورينا
" إن المحكمة الخاصة للقسم العسكري قد توصلت إلى الحكم التالي ....".
" أسمعوا ماذا تقول ..! " صرخ جبهارت وقفز من مقعده، وأمسك به ضابطان كانا بجانبه وأجلساه بقوة على المصطبة، وفجأة كان الأب دي سيتا خلفه وضغط بكفه على فمه، ولكن بقوة لم يكن أحد يعهدها فيه. نهض جبهارت مرة أخرى " لماذا تخافون من إمرأة " زمجر في الصالة " إذا كان بوسعكم مقاطعة كلماتها، إذن استمعوا لي، إنكم لا تستطيعون منعي، إنني مواطن حر لدولة حرة ".
" قطيع أبقار هذا ليس إلا " قال القس دي سيتا ولكز الضابط الذي بجانبه وقال " هاجموا بشدة أكثر ..! ".
سحبوا جبهارت بشدة مرة أخرى إلى الخلف، وإلى مقعده وعاد الأب دي سيتا يضغط بكلتا يديه على فمه.
تنفس العقيد بعمق، وكان وجهه قد غدا حراً، وقال بصوت مرتفع: " قرار الحكم بالإعدام على نورينا سامارينا، وإنني أنهي بذلك أعمال المحكمة الخاصة ".
التفت إلى الخلف وغادر الصالة مسرعاً، ولحق به ضباطه الستة على عجل وكأنهم يتسابقون فراراً، ثم تقدم ثلاثة جنود وأقتادوا نزرينا من باب جانبي.
" الحكم بالموت " قال جبهارت، عندما رفع القس دي سيتا يده عن فمه، وكان الضباط الجالسين على مصاطب المشاهدين قد غادروا الصالة أيضاً، وتطلع إلى الجنرال القادم من العاصمة وكذلك إلى ممثل وزارة الداخلية " بالإعدام ..! " قالها جبهارت وهو يشعر بفراغ في داخله، كان مندهشاً ويشعر بعد القدرة على الوقوف " وماذا الآن ..؟ ".
" لا أعلم " رد دي سيتا " المحكوم عليهم في جناح آخر من الزنزانات، فهناك أمر بهذا الخصوص، ثن أنني لا أ‘رف الحراس بصورة جيدة، لذلك أشك بأنني سوف أتمكن من النجاح حتى فجر يوم الاثنين ".
" الحكم بالموت " قال جبهارت بذهول " يا إلهي .. بالموت ..".
" وقد ساعدت أنت في ذلك، وعليك أن تهتم الآن بالأمر ". قال القس.
بدا على جبهارت وكأنه يعيش منذ إصدار الأحكام في غرفة فارغة، في عالم ميت، فقد كان بوسعه أن يتحرك بحرية ضمن مجال المعسكر، ولكن أحداً لم يكن يكلمه، ولم يقف معه أحد، وعندما كان يحاول أن يكلم أحد الجنود أو الضباط، كان هؤلاء يواصلون المسير ولا يقفون، وكأنه غير موجود بالمرة، وحتى طعامه كان يجلب إليه بواسطة مراسل عسكري، ويضعه فوق الطاولة، ويمضي دون أن يتفوه بأي كلمة.
الليل كان مخيفاً، وقف جبهارت على النافذة ذات المشبك الحديدي، يتطلع بصمت وجمود إلى النجوم التي لم تكن رائعة كما في صحراء أو في الغابة، كان يشعر بكل ضعفه وتراجع ثقته بنفسه، وعجزه الفضيع.
طالب دون جدوى ولعدة مرات بحضور القس دي سيتا، ولكن القس لم يحضر، لذلك كان يقطع غرفته مشياً من الجدار إلى الجدار، يسحب ضعفه كحمل ثقيل، كما لو كان على وشك الانهيار التام.
في الصباح التالي، استيقظ أمام أعمدة الاعدام التي دقت على أرض الساحة، وكان هناك ثمة حارس يقف كما لو كان حرس شرف، والبندقية على كتفه في وضع الاستعداد دون حركة، فالجدار خلف الأعمدة كان قد صبغ باللون الأبيض حديثاً إشارة للمشاهدين إلى الشرف، أو ليثبت فيما بعد إلى ثقوب الرصاص .. أو لأجل إثارة الدهشة من رذاذ الدم المتطاير ...؟
سوف أصاب بالجنون، فكر جبهارت، لم أعد أستطيع بعد التفكير أو التصور بأن يشد وثاق نورينا إلى إحدى هذه الأعمدة، لابد أن يحدث شيئ، لابد أن يحدث شيئ ما فوراً، لماذا لا تتدخل السفارة الألمانية، فوجودي هنا في كيرس معروف، ومعروف أني أكافح من أجل حبي لنورينا، ولكن لا أحد يهتم بذلك، الجميع صامتون، هل من واجب الدبلوماسيين الصمت حيث ينبغي عليهم أن يصرخوا ..؟ هل يتضمن اختيار الدبلوماسيين إبقاء العيون والآذان مغلقة، أم ترى أن اهتمامات الدولة تغرق في البنوك والأوسمة والحفلات والمصافحات ؟
هنا ينبغي أن يقتل الناس، لا أحد يدرك هذا ..! هل المعاهدات التجارية أهم من حياة الإنسان ؟ فجأة قفز إلى الأمام وأحتضن أحد أعمدة الإعدام وأخذ يهزه بجنون ويأس، فقد تقمصته قوى مجهولة، ثم نجح فعلاً باقتلاع العمود من الأرض، وضغط به إلى صدره، ثم قذف به، هكذا كما يفعل عمال الطريق حيث كان يقذف بالكتل الخشبية، دون أن تبدر أي حركة من الحراس، ولكنه وبطرفة عينه شاهد وسمع صافرة تدوي بجنون في مكان ما ربما في بناية قيادة أركان المعسكر.
" أطلق النار ..! " زمجر جبهارت عبر الساحة " أطلق النار ! أليس واجبكم أن تقتلوني ... أقتلوني إذن " كان العرق يجري على وجهه، وكانت شمس الصباح متوهجة والهواء كالغاز الساخن، أحتضن عمود الإعدام ومضى سائراً صوب بناية القيادة، وبرز العقيد على الباب دون أن يرتدي النطاق، ولكن البيرية كانت على رأسه، فقد كان جالساً لتوه على مائدة الإفطار.
" أطلق النار " زمجر جبهارت " أنا قادم لمواجهتكم فقد جلبت عمود إعدامي معي ".
لم يحدث شيئ، فقد سار في الحرارة المتوهجة عبر الساحة الكبيرة المغبرة، ووصل إلى العقيد ووضع عمود الإعدام على الأرض، كانت يداه ممزقتان وجسده يهتز من العصبية، وقد بلغ الضعف بساقيه لدرجة كان عليه أن يستند على العمود كي لا ينهار، وخلف العقيد في بناية الممر رأي القس دي سيتا وبعض الضباط.
" كنت أريد أن أرحمك بأقصى ما أستطيع " قال العقيد بهدوء " والآن يتوجب علي أن أرجوك إعادة العمود إلى مكانه ".
" إنه عمود نورينا ". صرخ جبهارت
" ربما، فنحن لا نضع الأسماء على الأعمدة، ماذا تريد من حديثك هذا ؟ والتظاهرة العديمة الفائدة ".
" هذه بداية فقط، أريد أن أقول لك بأنني سوف لن أشاهد إعدام نورينا دون رد فعل، إنني أعرف الآن أنك تتصور أنني أحمق لا حول له ولا قوة ".
" على كل حال .. ماذا تريد ".
" أمن نخطئ، وأنك تحتجزني إلى وقت تنفيذ الإعدام، عليك أن تنال مني أولاً " كان جبهارت قد غدا أكثر هدوءاً ومسح وجهه من العرق وأتخذ مكانه خلف عمود الإعدام " إنني سوف أدافع عن نفسي، وسأضرب دون تمييز وإني أضمن ميتاً واحداً، إنني سأرغمكم على إطلاق النار علي، سواء أصابني بجرح أو يصيب مني مقتلاً، وعلى كل حال، ستكون شأناً من شؤون الدولة، إنني ألماني حر، وعلى المرء أن يهتم بما يجري هنا ".
أرتعش العقيد وقال بلهجة أبوية " أيها الأب، أوضح له ما هي الواقعية، فهو سوف لن يصدقها مني، سيد كارلوس نحن لدينا بلاغات عن تدخلك في الشؤون السياسية، وعن بقاؤك عندنا، الاتصال بالسفارة، والآن سعيك إلى الاشتباك مع السلطات، وكان جواب سفارتك واضحاً، إنهم يعتبرون عملك مسألة شخصية، أنت تعلم ماذا يعني ذلك ! ".
" هذا ليس صحيحاً " قال جبهارت بقوة " لا يمكن للعالم أن يكون لا أبالياً هكذا ".
أشار العقيد إلى القس دي سيتا وقال " أكد له ذلك أيها القس ".
" نعم إن الأمر كذلك كارلوس " قال القس وأقترب من الباب.
" لا ينبغي أن تؤخذ عبر من الكذب والظلم ".
" إن مصطلح الظلم هو نسبي، بل أنه أكثر المصطلحات السياسية نسبية " أوضح العقيد.
" هناك الآن وفد من كبرى الفعاليات الاقتصادية من ألمانيا في العاصمة برازيليا، والحديث يدور عن استثمارات بالملايين ".
" وقتل الهنود ؟ " قال جبهارت بغضب.
" المدير الأعلى للوفد معجب بأمكانات بلادنا، سوق عريضة مفتوحة، مواد خام غير مستغلة، قوى عاملة كثيرة ".
" وكبار ملاكي الأرض يطردون قبائل الهنود بالسياط والنيران من أراضيهم ".
" ألمانيا ترى في البرازيل طرفاً لا يثمن لتوسع مطرد بعد أن واجهت بلادكم فوضى اجتماعية، فبوسع رجالكم عندنا، أن ينالوا امتيازات الإنتاج الرخيصة " وتقدم العقيد خطوة وضرب بقدمه عمود الإعدام وأضاف " وأنت تقف هنا كالمساكين وتريد تغير الرياح ؟ لا يمكنك ذلك أبداً أن تدرك في أي عالم تعيش ! هيا سر إلى الخلف، أيها الأحمق وأغرس عمود الإعدام في مكانه، إذا كنت تريد من كل بد أن تعدم رمياً بالرصاص، أحضر هنا غداً في السادسة صباحاً وأنا أعدك بأن أربطك بالقرب من عمود نورينا، وأنت ستكون سعادتها الشاذة في أن تموت إلى جانبها ".
ثم ركل عمود الإعدام مرة أخرى واستدار مرتقياً سلم البناية وأغلق الباب ولم يبق في الخارج سوى الأب دي سيتا الذي توجه نحو جبهارت.
" هذا هو الطريق الخطأ كارلوس " قال بهدوء.
" إذن أوضح لي الطريق الصحيح " صاح جبهارت " بالصلوات لا يمكنك أن تحرف الطلقات عن مسارها ".
" أستطيع ذلك " قال القس ذلك وأنحنى " في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ستكون هناك سيارة جيب تقف مقابل المعسكر خلف الصيدلية تنتظر ".
" جميل جداً " ضحك جبهارت ضحكة لا معنى لها في الواقع، " وأنا سأقول للحراس كفى .. إنني سأسافر ".
" صحيح ".
تطلع جبهارت إلى عيون القس دي سيتا، كانت عيناه قد بدأـ تلتهب وتشوهن معالم وجهه " إنه خبث حقير، وكل ما تفعله الآن مضحك " قال بحرارة
" أنت كقس ....".
" لقد تم الاتفاق مع العقيد، فأنت تستطيع مساء اليوم مغادرة المعسكر الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، الحراس مبلغون بذلك وسيتركونك تمر ..".
" بالطبع وحدي بدون نورينا ؟ ".
نورينا ستكون جاهزة بانتظارك داخل سيارة الجيب ".
" أهذا ممكن ؟ كيف ؟ .. كيف ستستطيع الخروج من زنزانة الإعدام أيها الأب، أنت تريد بهذه الحيلة إخراجي وتبعدني عن المسألة، وإذا خرجت من المعسكر، سوف لن يكون بوسعي العودة إليه مرة أخرى، وفي السادسة صباحاً ستدوي الطلقات.. هذه حيلة لئيمة ".
" إنني أعدك بأن ........ ".
" كيف ستخرج نورينا من زنزانة الإعدام ؟ ".
" أقسم لك " قالها القس دي سيتا ولامس عمود الإعدام الذي كان جبهارت قد احتضنه " ألم تعد تصدق قسم أب قسيس ؟ ".
" أنا لم أعد أصدق شيئاً بعد، أنا أصدق ما أراه فقط، وما أراه أن كل شيئ جاهز لحفلة الموت " . سحب جبهارت القس، وكان وجهه الغارق في العرق والغبار يبدو معذباً " حتى أنت لا تستطيع أن تحيل نورينا إلى شبح وتهربها من زنزانتها، وكل شيئ هو عبارة عن أكاذيب، أنك سوف تسميها كذبة ورعة، وبذلك تستعيد هدوئك الوجداني ".
وبعد أن أعادا عمود الإعدام في مكانه قال القس: " أنك لا تمتلك كارلوس حقاً فكرة عن قواعد اللعبة في هذا العالم " ثم أنحنى القس إلى جبهارت وقال " هيا لنمضي إلى الساحة اليمنى، سأقول لك شيئاً ".
ومضيا عبر الساحة المغبرة الساخنة، بمحاذاة الجدار الأبيض حيث كانت هناك أربعة أعمدة إعدام، وحارس جامد الحركة متنكباً بندقيته.
" أتعتقد إنني تمكنت من النوم والأكل طيلة النهار ؟ " قال القس دي سيتا وأستند إلى العمود بكتفه " إنني كنت على دراجتي البخارية وكأنني ساعي أذهب هنا وهناك وقد جرت أحداث لا تصدق، حيث قام فدائيون بأختطاف أبنه العقيد البالغة من العمر تسعة عشر عاماً، وحولت القضية لي من أجل التوسط في شروط إطلاق سراحها، إنها مبادلة بسيطة: الآنسة بسكويلا مقابل الآنسة نورينا ".
بدا الذهول على جبهارت " أيها الأب ..."
لكزه الأب بمرفقه دافعاً أياه إلى الأمام " يا للشيطان .. أمض .. أمض ..! " ومال عليه القس وأضاف " المبادلة ستبقى سراً، بضعة أشخاص فقط يعلمون ذلك، وحتى الجنرال لا يعلم بذلك ".
" وكيف قرر العقيد ذلك ؟ ".
" بسكويلا هي أبنته الوحيدة يا كارلوس ".
" يا إلهي، لقد بسطت الأمر أيها الأب، ألا تبالغ، لقد قلت بأنك ستواصل عمل سنتالوس عندما ينتهي كل شيئ ".
" أنا لم أفعل شيئاً، عندما لعبت دور الوسيط " وتطلع الأب دي سيتا إلى الأمام كان الجدار المصبوغ بالأبيض قد أقترب كثيراً وبسرعة " وعندما تفر مع نورينا غداً، ستكون هناك ضجة كبيرة، ولكن هناك لغز اختفاؤك سيبقى بدون حل، زنزانة مفتوحة ولكن باب الممر مغلق، في الساعة الواحدة ستسافر أنت ونورينا بسيارة الجيب الواقفة خلف الصيدلية، وفي الساعة الواحدة والنصف ستكون باسكويلا قد وصلت باب سكن ذويها، وفي الساعة الرابعة سيكون الإنذار. إذن فلديك ثلاث ساعات بدون مطاردة لك، وهذا قليل، لكن ينبغي أن يكون كافياً، وفي السيارة ستجد خطة دقيقة وعناوين، ستأخذك إلى حدود أورغواي، وهناك سيكون بانتظارك رجل ارتباط أخير سيعبر بك الحدود ".
" كيف يمكن أن أعبر عن شكري لك أيها الأب " قال جبهارت بصوت منخفض، وكان صوته معبراً عن عجزه، كانا يقفان بقرب أعمدة الإعدام، ضغط الأب على العمود الذي كان مقتلعاً وقال: سر على الأرض بثبات " قال بهدوء " هيا أفعل شيئاً، فالمرء ينتظر منك شيئاً كنوع من التعويض على تصرفك ".
كانا يدكان الأرض بقدميهما حول العمود لتثبيته، وأختبرا متانته ثم عادا أدراجهما، أخفض جبهارت رأسه ومسح ظاهر يده بسرواله.
" يبدو لي كما لو تلوثت بالدم، كما لو أني ساعدت على عملية قتل " قال بصوت منخفض.
" سيكون هناك دائماً بشر يموتون من أجل المثل العليا " ووضع دي سيتا يده على كتف جبهارت وسحبه إليه " نتأمل أن نضالنا عادل، إنها عملية غليان وحشية عندما يريد شعب أن يجتاز ويعبر حقبة تقدر بمئات السنوات في بضع سنين، فمن يؤكد على صحة الإجراءات ؟ من يمتلك القوة لتنظيم هذه العملية ؟ لهذا أشعر كارلوس شخصياً بالخوف، لا يوجد ما يدمر الأحداث أكثر من إنسان فاقد السيطرة على ذاته، خاضع للتهيج، هذا هو قلقنا، وأنت عليك أن تصل إلى بارغواي مع نورينا بأسرع ما يمكن ".
انفصلا في وسط الساحة، مضى القس إلى بناية القيادة، فيما توجه جبهارت إلى الأسفل حيث غرفته التي كان بابها على الممر، فوجد الباب مفتوحاً وكان خادم الغرف هناك.
كان الفطور بانتظاره على الطاولة، خبز شهي ذو رائحة زكية لذيذة، زبد وعسل، لحم مدخن، عصير طبيعي وبيضة. والمراسل العسكري الذي جلب الفطور كان لما يزال واقفاً بصمت كعادته، ولكنه نطق وللمرة الأولى.
" عجباً ..! " قال الخادم " كيف استطعت القيام بذلك ؟ كيف استطعت أن تقتلع عمود الإعدام بيديك فقط .. لم أكن أتوقع ذلك منك ".
" أنا أيضاً لم أكن أتوقع ذلك مني " قال جبهارت بصوت جاف.
كان يفكر بأحداث الليلة المقبلة.
" نعم .. أنا أيضاً لم أتوقع ذلك " كرر ذلك بصوت منخفض.
الجزء الرابع عشر
في المساء، سمع قرع ثلاث دقات قصيرة على الباب.
كان جبهارت راقداً في فراشه بدون نوم، يدخن سيكارته التاسعة عشر، وكان القس دي سيتا قد أ‘طاه علبتان عموديتان (كل علبة تحتوي على 10 علب صغيرة) وتطلع ببصره إلى الساعة، كانت الواحدة إلا خمسة عشر دقيقة، قفز واقفاً، جمع حاجاته القليلة التي تبقت له، وهرع إلى الباب ومرق منه، كان الممر خالياً، والذي كان قد قرع الباب قد اختفى.
حتى هذه الدقيقة لم يكن جبهارت قد صدق أنه سيحصل حقاً على نورينا حية .. والآن فقد حصل على قوة دافعة جديدة، كان الممر مضاء بضياء خافت.
خرج جبهارت من الغرفة، تطلع حواليه، كان وحيداً، والسكون التام يعم المكان، ها قد ابتدأت منذ هذه الليلة أحداث حياته الجديدة، كانت تبدو له داكنة، فمن الممكن أن يكون كميناً، فكر في نفسه فجأة، سأمضي في الممر إلى الأسفل، وأفتح الباب إلى الساحة، وهناك يقفون ببنادق مستعدة لإطلاق النار ..... قتل أثناء محاولته الهروب .. إنها جملة مفضلة للقتل الحكومي.
مضى ببطئ في الممر، ووضع يده على أكرة الباب وتطلع مرة أخرى بحذر، الساحة كانت شبه مظلمة، المعالم مبعثرة، أبواب كثيرة، أبواب خافها بشر نائمون، أو أنهم ينتظرون، وحتى يستطيع أن يمرق من هذا الباب الأخير، ويضع أولى خطواته في المساء.
كن مرة بطلاً ... يشجع نفسه، أبتلع خوفك، وأحتفظ برأسك عالياً، ولتكن النهاية ...! ولكن هذه الخطوة الخطرة صعبة ويمكن أن تكون خطوتي الأخيرة، أفتح الباب وحتى لو كانوا بأنتظارك في الخارج.. قد خدعوك .. أحتفظ بشجاعتك وكبريائك، ولكن الخطوات صعبة .. أليست البطولة هي النهاية الأخيرة، اليأس ؟ إنه انفجار من موقف لا خروج منه، هيا أيها الشاب، أقفز فوق النيران التي تحرقك ....!
ضغط على أكرة الباب ودفع، كان هواء الليل بارد بعد يوم ساخن الحرارة ذات الرطوبة في الغرفة، الهواء كان منعشاً كما لو صفع على وجهه، وفي نفس الوقت، أشعلت نيران خوف مجهول. سار بالقرب من البناية، ونظر جيداً كانت أمامه ساحة كبيرة مصبوغة حديثاً تبدو على ضوء القمر باللون الرمادي / الأبيض، وجدار من الطين وخمسة أعمدة تغرق في ضوء أبيض حليبي، والآن لم يكن حراس كما في النهار بل بالقرب من الأعمدة كانت قد وضعت منضدة خشبية بسيطة.
مقصورات لمشاهدة حفلة الموت ...............!
أنطلق جبهارت وبدأ خطواته الأولى في هذه الصورة التمثيلية، لم يطلق أحد النار عليه، كان وحيداً كما وعده الأب دي سيتا، وبخطى سريعة عبر الساحة، كان يركض تقريباً عندما بلغ بوابة الجدار ذات الأبواب الحديدية، ومن كشك الحراسة التي كانت غارقة في الظلام، خرج جندي دفع البوابة دون أن يتفوه بكلمة، فتح جناحاً صغيراً من الباب مرق منه جبهارت إلى الخارج، ثم أعيد غلق الباب، وأحدث صوت فتح وإغلاق الباب صوتاً في سكون الليل، وبحسب التقاليد العسكرية للحرس، سمع ضربة القدم على الأرض، والآن فكر في نفسه، سيطلقون النار الآن .. إنني خارج المعسكر وهذا أفضل دليل على نية الهرب.
خطا ثلاث خطوات عن الباب، ثم توقف مرة أخرى، حيث جرى الدم من رأسه خوفاً. الخوف شعور طبيعي للإنسان عند مواجهته الخطر، أصابة الشلل بصورة تامة، لم يعد بوسعه أن يتنفس، فتح فمه كما لو سمكة أخرجت من الماء إلى اليابسة.
في مكان ما بعيد، ربما في برج كنيسة كيرس، رن ناقوس بصوت عميق مشيراً: الساعة الواحدة، كان العرق يتفجر من جميع مساماته، رغم أن الليل كان بارداً، شاهد لوحة الصيدلية التي ينبغي أن تكون سيارة الجيب خلفها مع نورينا.
Pharmacia : صيدلية، كانت اللوحة تلمع في ضوء القمر، لوحة من زجاج كانت باهتة عند حرف (C) بناية على الزاوية.
بدأ جبهارت بالركض، كان يترنح كسكران في الساحة أمام المعسكر وهو يعلم لأن حارساً يحمل رشاشاً يتعقبه في برج الحراسة، ويسجل حتى رمشة العين. يا إلهي كم بدت بعيدة ومسافة لا نهاية لها حتى زاوية البناية، حتى خيل له أن لوحة الصيدلية تعدو هي الأخرى أمامه ... يا إلهي سوف لن أصلها أبداً ....
خلف الستارة في الغرفة، وقف العقيد والقس دي سيتا يراقبان جبهارت وركضه حتى الصيدلية، ضم العقيد قبضته بشدة وعصبية ...
" أيها الأب " قال " أنت تضمن لي أن أبنتي سوف تصل لي خلال نصف ساعة ؟ ".
" نعم .. وإذا لم يحدث ذلك، فبوسعك أن تربطني إلى أحد الأعمدة أيها العقيد ".
" وماذا أحصل أنا من ذلك ؟ أنت تموت وأنت تصلي، ولكني أضيع أبنتي الوحيدة إذا تقدم الفدائيون بمطالب جديدة أخرى ".
" سوف لن يفعلوا ذلك، لإنهم يعلمون بدقة أن تلك المطالب سوف لن تلبى ".
" هل يعلمون ذلك ؟ ".
" نعم، إنهم يعرفونك أيها العقيد أنكم سوف تنفذون أحكام الإعدام حتى لو ضحيت بأبنتك. لقد كان بوسعك أن تخرج نورينا سامازينا من الأمر لأنك تعلم جيداً بأنها لم تعد تشكل خطراً، إنها ستسافر مع كارلوس إلى ألمانيا، ولكن د. سنتالوس ...".
" أبداً أيها الأب " قال العقيد بتصميم " إنني جندي ".
" حقاً " قالها الأب وسحب الستائر قليلاً من أجل رؤية أفضل، فيما كان جبهارت يهرول نحو الساحة وكان قد وصل إلى منتصفها.
" أنت تكره الجنود أليس كذلك أيها الأب ؟ " قال العقيد مستطلعاً.
" إنني مندهش من عنادك، وأنا لا أستطيع أن أفهم ذلك، أن يتناسى أمرء ما بمجرد أرتداؤه الملابس العسكرية، يتعذر عليه إدراك وتفهم الواقع والحقائق، إنني أرتعد من هذه الآلية الباردة ومن الإنسان الآلي (الأوتوماتيكي) الذي يعمل كالروبوت يتلقى الأوامر، فهذا هو أسوء من الكراهية أيها العقيد ".
" الآن، ها قد وصل إلى الزاوية " وأنحنى العقيد بتوتر إلى الأمام " ترى هل هو خائف ؟ ".
" ولم لا ؟ فهو إنسان وله قلب " تطلع القس إلى الساعة وقال أسمح لي الآن بالذهاب أيها العقيد لكي أكون بأستقبال أبنتك " ثم تريث وتنفس بعمق " كم محكوم سينفذ به اليوم ؟ ".
" الجميع " وقام العقيد بإشارة من يده بحيوية " في الساعة التاسعة سيكون كل شيئ قد أنتهى ".
" سأبدأ في الساعة الثالثة بإقامة الصلوات في الزنزانات " وشاهد جبهارت قد وصل إلى سيارة الجيب، ترك القس يد لتهبط الستارة، وأضاف " أتصل بعد نصف ساعة ببيتك وسيكون بوسعك أن تكلم أبنتك ".
وصل جبهارت إلى الصيدلية، وكان قد شعر بدوار عند الزاوية، وشاهد سيارة الجيب واقفة في ظل البناية، وشاهد هيئة شخص يرتدي السواد جالساً في السيارة على الكرسي بجانب السائق.
" نورينا ..." وخرس جبهارت ومد ذراعيه أثناء ركضه.
دار محرك السيارة، فقد أدارت هي مفتاح التشغيل، وبثلاث وثبات كان جبهارت قد أصبح إلى جانبها، وضمها إليه بقوة، كان وجهها في ضوء القمر الساقط يمنحها بشرة الأموات، وبدت له صغيرة وطفلة، شعر بالفزع، ثم نظر إليها مرة أخرى، كانت تبكي ... بدون أن تصدر صوتاً دون حركة، كانت الدموع تسيل من عيونها كالتيار، كنبع ماء، أدرك أنها تبكي، ولكنه لم يجد الكلمات لكي يواسيها.
لقد عاشت، وسوف تواصل العيش، في أورغواي، ولاحقاً في ألمانيا، وستكون هي زوجة صالحة له، وكأم طيبة لأطفالها، ولكنها ستبقى له بجزء من قلبها، ولكن جزء من عواطفها ومشاعرها وحبها ستبقى في البرازيل، ستكون أشواقها لوطنها إلى الغابات والأنهار الهائلة، وإلى الشواطئ الرملية البيضاء، إلى المزارع، لذلك هي الآن تبكي، ولم يكن يمتلك كلمات لكي يواسيها بها.
" أنمضي ...؟ " قال جبهارت بصوت منخفض، وأعتدل في جلسته وأمسك بالمقود، ووضع معدل السرعات على الأول، وعندما سارت سيارة الجيب الصغيرة، وضعت نورينا رأسها على كتفه، وأخذت تفكر به، وضغطت بنفسها إليه، بحيث آلمته قليلاً، وأنشبت أظافرها في ظهره،وكأنها تريد أن تتأكد من وجودها معه.
ألتفت جبهارت، ثم ضغط على عتلة البنزين، كانت كيرس أمامه.
مضت ثلاث ساعات، في الرابعة قرع الإنذار في المعسكر، والسيارة تغد المسير ولكن ما هي ثلاث ساعات في بلد يصل بحجم مساحته عشر مرات أكبر من ألمانيا ..؟
" ما هي المحطة القادمة ؟ " سأل بصوت مرتفع، كان ضغط أظافر نورينا على ظهره قد تركت علامة على ذراعه، رفعت رأسها إليه وأزاحت خصلات الشعر المتناثرة على وجهها، ومسحت بظهر يدها الدموع من وجهها.
" رجل أسمه غويا لورنزو في أيتابريا " كان صوتها وقد أدهشه ذلك قوياً ومتماسكاً " في سوق المدينة عليك أن تنحرف إلى اليمين في الطريق إلى غويانا "
" ومن ثم ؟ ".
" نواصل السير على الطريق حتى كامب غراناما، ومن هناك يمكننا أن نتجه إلى أورغواي أو باراغواي ".
" وإلى أين تريدين أنت نورينا ؟ ".
تطلعت إليه لحظة كانت عيناها السوداوتان كما كان يعرفهما: شجاعة، عاقلة، فيها قوة غامضة " وهل يلعب ذلك دوراً كارليتو ؟ " قالت بعد برهة قصيرة " في كل مكان تطير منه الطائرات إلى ألمانيا ".
" وإذا شئت نبقى هنا " قالها بتلعثم .
هزت رأسها علامة النفي، ومدت يدها إلى رأسه وجهه ولامسته بحب " كلا، ولماذا كارليتو ؟ إني أحبك ويجب أن أعتاد على أنتمي لك وليس لشيئ آخر ".
وكان هذا أستسلاماً أمام ذاتها، أحس جبهارت بذلك، وأمتنع عن قول أي كلمة، فالآن أي كلمة ستكون مزعجة، إنها تودع وطنها البرازيل، وإنها ستصبح زوجتي، بأكملها لي، هذه سعادة شيئ لا يمكن مشاهدته، بل يشعر به المرء.
أنحنى إلى الأمام، وجمدت نظراته على الطريق الغارق في الضياء الأبيض الذي يبثه القمر...... وضغط على مفتاح البنزين.
****************************
في الساعة السادسة، وصل الدكتور سنتالوس أول المحكومين إلى الساحة، ومضى صوب عمود الإعدام، وكان القس دي سيتا إلى جانبه يصلي.
على المنصة جلس الحضور في أربعة صفوف، الضباط وكبار موظفي الدولة، ومحافظ مدينة كيرس، وبعض الرجال من جهاز الأمن، جنرالين قدما من العاصمة برازيليا، وثلاث ممثلين لوزارات، وكان المعسكر قد جرى ترتيبه وتنظيمه لهذه الغاية، وكان جنود المظلات قد ضربوا طوقاً حول المكان، لم تكن هناك تظاهرات، بل كان الخوف يسود تلك الساعة.
في الساعة السادسة وتسعة دقائق، بدأت الطبول تقرع، ومد جنود فصيلة الإعدام بناد
قهم، وقد رفض الدكتور سنتالوس تعصيب عيناه، ونظر بكبرياء وفخر إلى منصة الحكام، وكان القس دي سيتا يقف على مبعدة خمسة أمتار عن عمود الإعدام، يرفع الأنجيل عالياً، في سماء الفجر المائلة إلى الحمرة، والأربعة الآخرون بجانب الدكتور سنتالوس بدأوا يزمجرون:
لتحيا البرازيل ..........لتحيا الحرية
ثم مزق أزيز الرصاص الكلمات الأخيرة ....
كان الدكتور سنتالوس، لم يمت بعد، فقد أستلزم إطلاق النار عليه من مسدس قائد فصيلة تنفيذ الإعدام، القس دي سيتا كان يقف إلى جانبه وهو يمد يده أمامه، ومن فوق الأنجيل، أطلق الضابط النار على رأس الدكتور سنتالوس.
لم يلاحظ أحد في تلك اللحظة عيون القس الشاب .....
بعد حوالي أسبوعين، وصل جبهارت ونورينا إلى قرية يبية أيهيو وهي عبارة عن بضعة بيوت فقيرة على حدود بارغواي، كانا مرهقين جداً، بحيث أنهما ناما لمدة يومين وليلتين، وكانت هوسبيديرو المحل الوحيد المخصص لنوم القادمين في المنطقة، وكان قذراً لدرجة تحمل الضيف على التساؤل فيمنا أنه قد يموت من قذارة الأسرة والأغطية، ولكنهما استيقظا وأتجها صوب كيونكيبكون، ومن هناك أشترى جبهارت صحيفة برازيلية.
عن انتفاضة عمال الطريق لم يعد أحد يتحدث عنه، وأيضاً موت الدكتور سنتالوس ورجاله، فقد أسدل ستار من الصمت ولكن نشرت بعض الصور عن البرازيل كانت تحمل عناوين فخورة:
ـ إنه الطريق الجديد العريض عبر الغابة.
ـ افتتاح عصر جديد.
ـ الأمازون سيعود قريباً إلى العالم.
" العصر البرازيلي الجديد قد أبتدأ " كتبت الصحيفة " اليوم ينظر العالم إلى البرازيل بلد المستقبل ".
" متى نطير إلى ألمانيا ؟ " سألت نورينا وقذفت بالصحيفة جانباً.
" متى تشائين ".
" إذن بأسرع ما يمكن " وألتفت صوب الحدود البرازيلية " هل تعتقد بأننا سنسمع في ألمانيا ما سيحدث هنا في بلادي ؟ ومتى سأحكي عن ذلك ؟ ومتى سأكتب ..".
" لا أعتقد ذلك " قال جبهارت " حيثما تستثمر الملايين، فإن العالم سيكون بخير ".
كانت هذه سخرية لعينة ومؤسفة بما لا حدود له.
890 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع