الفنان العراقي حسين نعمة أصرّ على أن يغني كل ألوان العراق الطربية، دون تعصب فغنى فنون بغداد والغرب والسويحلي والمحمداوي والبوذية والهجع.
العرب إبراهيم الجبين:من ينسى تساؤلات هذه الكلمات تترقرق بصوت عريض أصيل حمل العراق كلّه إلى العالم بحرية طفل وبوعي نهرين: “كلي شكلت وشقررّت وك يا قلب..ناويين عالغربة يتركونا غرب.. وك يا قلب… بس المطر يمحي الأثر.. لا سجّة ظلت لا درب.. وك يا قلب.. شيصير لو تطلع شمس.. فرحة وعرس؟ شيصير لو رديت لا يا طيف الامس؟.. رديت وجدامي تخط رديت وعيوني تخر” هذه القصيدة التي كتبها هادي العكاشي الشاعر المسكون برائحة الشلب والذي مات قتيلا برصاص أحزاب إيران في العراق، “تفاخر حزب الدعوة باغتيال هذا الشاعر” وحتى تمثاله في النجف هدموه.
على سطوح المنازل، في عمق الماضي، تلك السطوح الباردة في ليالي الصيف، مدّت الأمهات فراشاً لأولئك الذين خرجوا فيما بعد من تلك البيوت، وانتشروا في بلدان العالم القريب منها والبعيد، لينقلوا نبرة الليل وبرد الليل وصفاء سماء الفرات إلى كل مكان، وليسكنوا قلوب الناس، لتتخلد كلماتهم وأنغامهم في أرواح الأجيال بلا انقطاع، وفي أصواتهم تلك سكنت الهوية التي لا يمكن أن يطويها مشروع أو تمحوها محنٌ أو حروب.
سر عبدالباسط عبدالصمد
يقول حسين نعمة إن تقليده لتلاوة المقرئ الشهير عبدالباسط عبدالصمد للقرآن الكريم، كان مفتاحاً لباب الطرب في طفولته، جعله يدرك حلاوة الصوت وسحر تأثيره على المستمع، وفي مدرسة المهمين قلد طويلاً صوت عبدالباسط، ثم انتمى إلى فرقة التربية التي كان يقودها اللبناني سالم الشهلاني، وفي الصف الأول المتوسط في متوسطة الجمهورية قدم أغنية داخل حسن “فوك ارفع ايدك” و قلد عوض دوخي وفهد بلان وعبدالحليم حافظ، ولكن عبدالباسط بقي معه في كل مرحلة من عمره، فأخذ يغني كما لو كان يقرأ القرآن، منسجماً مستغرقاً في الكلمات واللحن ناسيا العالم من حوله، ذلك الانسجام هو ما دفعه فيما بعد بقوة إلى مناخ بغداد، ليرتوي “العطشان” من نهرها وعاش تناقضا بين “قرويته” وصخب بغداد ففقد توازنه في المدينة هو الريفي حد الطيبة، تزوج حسين نعمة من الفنانة العراقية سعاد عبدالله “رحلت مؤخرا في بغداد وهي تصارع وحدتها”، وخرج عن تقاليد بيئته المحافظة، ورصانة الناصرية وأهلها، ولامه الناس على حياة الفن، ولكنه سرعان ما انفصل عن زوجته، وتابع صعوده أدراج بغداد التي لم تكن تفضي إلا إلى المزيد من الشجن والمزيد من الضياع.
يقول حسين نعمة :”كنت في سنوات عمري الأولى، حين رأيت أقاربي رجالاً ونساء يغنّون فرحاً، فصفّقت معهم بحرارة وحماس طفل بريء وهم يزفّون عروساً، كان الجميع في غاية الفرح إلا امرأة واحدة كانت تبكي بحرقة وألم ولوعة، كانت هذه المرأة هي أمي، بعد أن تقصد والدي أن يتزوج غيرها ويسكنها في دار قرب دار والدتي”، وكان والده السيد لفتة الميالي، يزدري الفن رغم صداقته لداخل حسن، ولكنه كان يشعر أن ابنه حسين عليه أن يكون لائقاً بلقب “سيد”، وهو ما لم يفعله الفنان حسين نعمة، وبعد أن مرّت سنوات، اتصل أحدهم به ليقول له إن الشرطة قد داهمت محلّ القصّاب، وألقت القبض على والده السيد بسبب عدم ختم إحدى الذبائح بختم البيطرة، فهرع حسين من بغداد إلى الناصرية وذهب إلى مركز شرطة المحافظة، يقول: “خلال دقائق أنهيت الموضوع واصطحبت والدي إلى محله، لكنه توقّف في الطريق وسألني (بويه هو إلّي يغنّي هيج الناس تحترمه؟ إذا هيج يحترمون غنّي براحتك بويه، صارلي ساعات عريف بالشرطة ما يحاجيني وهسه على مودك المدير بنفسه يقدملي الجاي والماي وبغرفته (ليعترف الوالد بفضل ابنه”.
"يا نجمة" أطلقت اسم حسين نعمة في فضاء العراق، برقرقة لحنها وتساؤل كلماتها الحميمة وعذوبة صوته وهو الذي أخذ مطلع الأغنية هو وكوكب حمزة من تراث الفرات عن أغنية " ما رابط ما أريدا" فكانت إذاعة بغداد تبثها 14 مرة في اليوم الواحد
في بغداد المدنية
حسين نعمة ابن الناصرية المدينة الوادعة على ضفاف الفرات، حيث شارع الحبوبي، ودروب من تراب يعبرها لابسو العقل والعباءات داخلين وخارجين من البيوت، في العام 1944 ولد حسين نعمة، ولم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، إلا وكان توقه إلى بغداد يشتدّ به ليشدّ الرحال إليها، فيصل في العام 1969، فتى جنوبياً وسيماً إلى مدينة النور والمقامات، مقامات لكل شيء، للإنسان والموسيقى والذائقة والفكر، فغرق في مقاماتها، صاعداً سلالمها الموسيقية، مسحوراً بمدنيّتها الفائقة، وليلتقي بكوكب حمزة، ويصنع الاثنان معاً أغنية ” يا نجمة” التي كتب كلماتها الراحل كاظم الركابي، ” يا نجمة” أطلقت اسم حسين نعمة في فضاء العراق، برقرقة لحنها وتساؤل كلماتها الحميمة وعذوبة صوت حسين نعمة الذي أخذ هو وكوكب حمزة مطلع الأغنية من تراث الفرات عن أغنية ” ما رابط ما أريدا”.
كان كوكب حمزة وحسين نعمة من جيل واحد، ربطتهما الصداقة، وباعدتهما مزاجية كوكب ونزقه، الذي لم يتوقف عن نقد صديقه حسين وكيل التهم له فيما بعد بأنه قتل المطرب العراقي رياض أحمد باستدراجه له إلى عالم الخمور والمجون، ولكن أغنية “يا نجمة” كانت قد فعلت فعلها، وأطلقت الطاقة الجبارة لصوت حسين نعمة، وجاءت أغنية “نخل السماوة” لتتألق في سماء الروح العراقية بحنجرة حسين نعمة، ومن ثم توج قلادة الغناء العراقي الفضية باغاني لن تغادر الذاكرة من ألحان الفنان محمد جواد أموري، من ينسى “جاوبني” كلمات كامل العامري والتياع “ياحريمة” من كلمات ناظم السماوي ثم الوجع المر في قصيدة الراحل جبار الغزي “غريبة الروح” والحان محسن فرحان”
عاش حسين نعمة نهاية السبعينات وبداية الثمانيات مجموعة ازمات شخصية جعلت يعود الى الناصرية تاركا بغداد بعد ان تزوج من أم علياء وانجب منها علياء وهنادي وعلي، وعاد للفناء بداية الثمانيات باغنية “خطار” من ألحان فاروق هلال “خِـطَّـارْ جَـانَــهْ الـْـعِـشِــكْ مِـثْـلَ الـْـمُـطَـرْ بِـالـصَّـيْـفْ/ بَـلـَّـلْ سِـوادِ الـْـكــَـلـُـبْ خَـضَّـرْ خَـيـالْ وْ طَـيْـفْ/ اشـْـطَــيْـبِ الـْـعِـشـِـكْ وِ شـْـحِـلـْـوَهْ سَــاعَـاتَـه/ حَـلـْـمَـانْ حَـلـْـمَـانْ لـَـوْ لا صِـدِكْ رِدَّنْ يَـا جــلـْـمَـاتَـهْ/ بِـعْـيُـونـِـي إِنـْـتَ الـصُّـبُـحْ وِانـْـتَ الـشـَّـمِـسْ وِالـْـكــُـمَـرْ/ بـْـرُوحِـي أَحِـسَّــكْ ضُـوَهْ إِلـْـعَـطَـشْ خُـضْـرَهْ وْ نَـهَـرْ/ لـَـوْ هَـبْ نَـسِـيـمِ الـْـهَـوَا بْـصـدْرِي أَشـِـمَّـكْ هَـوَى/ اشـْـطَــيْـبِ الـْـعِـشـِـكْ وِ شـْـحِـلـْـوَهْ سَــاعَـاتَـهْ/ حَـلـْـمَـانْ حَـلـْـمَـانْ لـَـوْ لا صِـدِكْ رِدَّنْ يَـا جــلـْـمَـاتَـهْ.
الروح بقيت غريبة
ورغم أريحية حسين نعمة، وطفولة روحه، إلا أنه بقي غريباً في بغداد، وظلّ مرتبطاً بحبل سري إلى الناصرية، منعه من الترحال والسفر في العالم العربي، فظل على طريق الناصرية بغداد، رائحاً غادياً، ينقلّه الحنين والقصائد الراقية الرفيعة التي تتحدث عن المكان والإنسان، وفي الكرخ بدأت شعبية حسين نعمة تكتسح الأوساط العراقية والعربية، ويبدأ مشواراً خاصاً مع الملحن المبدع محسن فرحان في أغنية “غريبة الروح” في العام 1971 من كلمات جبار الغزي، وكانت ذروة حسين نعمة في ذلك الوقت في أغنية “ما بيه أعوفن هلي ولا بيه أعوف هواي”، ثم جاء دور ابن الناصرية الآخر الملحن الكبير طالب القره غولي، في أغنية “يا كمر” وأغنية “فرد عود” من كلمات زامل سعيد فتاح.
كان مناخ العراق زاخراً بالطرب وعمالقة الغناء واللحن، فكان ياس خضر وفاضل عواد وسعدون جابر وفؤاد سالم ومدارس محمد القبنجي ويوسف عمر وحضيري أبو عزيز وناظم الغزالي وعباس جميل وياسين الراوي وعلي عبدالله وحسن الشكرجي، فشق ابن الناصرية طريقه وسط الزحام ووسط فوضى حياته ونتائج المسّ الذي يعتقد أنه يجب أن يكون مرافقاً للفنان، ليؤكد نظريته على أن التنوّع في المقامات واللحن هو أساس قوة الفنان، فهو يرى أن “99 بالمئة من أغاني المطربين اليوم من مقام الكرد، وهذا ضعف كبير، لأنهم لا يحسنون المقامات الصعبة، ومقام الكرد بسيط”.
فجاءت أغنية “كون السلف ينشال” للملحن كمال السيد من كلمات كاظم الركابي، ثم مع الملحن جعفر الخفاف في أغنية “ردّيت” من كلمات هادي العكايشي، مع أن الأغنية تم تسجيلها باسم محمد جواد أموري مع أنهما اشتركا في اللحن، وليلحّن حسين نعمة بنفسه أغنية “نخل السماوة” التي صنّفت على أنها من التراث الشعبي كأغنية “مالي شغل بالسوق”، بينما لحّنها حسين نعمة نقلاً عن مذهب ناصر الحكيم وصارت على كل لسان.
طير المجرة الذي أتى إلى الغراف ليسبي قلوب الناس.. هوية خالصة مصبوبة من أحلام العراقيين
الهوية المفتوحة
أصرّ حسين نعمة على أن يغني كل ألوان العراق الطربية، دون تعصب فغنى فنون بغداد والغرب والسويحلي والمحمداوي والبوذية والهجع، وتناول المفردات القادمة من ثقافات العراق المختلفة دون تعصّب، فكان مواله الشهير “يا كاظم ” من أجمل النداءات العراقية الروحية: “يا كاظم مهجتي الهجران عادمها/ راح الجان سلوه الها ونادمها/ راح الجان بيها الكلب ينسه الناس/ راح وراح شوفي وكثر نوح ابجاي/ اشوف الليل هذا الليل اللي تنامه الناس/ حرام الجان بيه انا طرحت الراس/ حرام الجان عيني لجلجت بالنوم/ اكظي الليل بيها انا اعد نجوم/ شلونه ينام اليله للي غطاه هموم/ عليه انا انكتب من دون كل الناس″، لتظلّ تلك الكلمات تتردّد في جنبات العراق، وتظلل السبعينات بخيالها الرائق، ولم يتردّد حسين نعمة في خوض كل مغامرة تثبّت أقدامه في ذلك الميدان، فمثّل أكثر من عشرين مسرحية، وغامر في السينما فقام ببطولة فيلم “حمد وحمود” مع شذى سالم، الذي أنتج في العام 1984 من إخراج إبراهيم جلال، بالإضافة إلى الملحن محمد جواد أموري الذي قام بتلحين أغاني الفيلم وغنى فيه أغنية “يا دفان”.
التجريد انعكاس الواقع
لا يعرف المرء ما الحدود الفاصلة ما بين الواقع والتجريد في العراق، هل ما كان أم ما يكون؟ ولذلك لم يكن غريباً أن يغادر الفنان الكبير حسين نعمة الطرب إلى الرسم، ويختار التجريد مدرسة للتعبير عن رؤيته للواقع والإنسان، فبعد أن سافر في بداية التسعينات إلى أميركا وبريطانيا، وعاش خلال زيارته غربة مكثفة سرعان ما أعادته إلى بلاده، ليبقى فيها متحمّلاً عاصفة الظروف التي هبّت رياحها على العراق، خلال العقود الماضية، ولم تتوقف حتى اليوم، هو من غنى بقرار صوته: ” يا حريمه.. انباكت الجلمات من فوك الشفايف … ياحريمه سنينك العشرين مامره العشك والعشك خايف… لا ولك لا لا على بختك ماني سالوفه صرت بين الطوايف.. يازلف يتغوى ويه الليل بأطراف الكصيبه… هاك روحي الما غفت والطيف مامره حبيبه… وهاك جرحي اللي ماتعطب.. وأنته عطابه ولهيبه… هاك عمري الظاك حنظل وانته برحي”.
741 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع