يهود العراق ذكريات وشجون. الحلقة الثانية عشر
بقلم/ البروفيسور شموئيل(سامي) موريه
الوالد إبراهيم مير معلم، العراق يفترس أبناءه
وبعد مدة طويلة من محاولة الوالد العثور على عنواننا في إسرائيل لكي يراسلنا طلب منا إرسال عنوان في أوروبا ليراسلنا منه. كانت والدتي قد تصادقت مع فتاة مغربية بسبب معرفة الوالدة باللغة الفرنسية وولعها بالتكلم بها.
كانت هذه المغربية قد هاجرت إلى إسرائيل من باريس مع زوجها المسلم البربري الذي صبأ إلى اليهودية ليتمكن من الزواج بها بالحلال لجمالها وقوامها الممشوق. حقق العاشقان الآمال بالزواج السعيد ولكن بقيت لهما حسرة واحدة، لم يستطع أطباء فرنسا معالجة عقمها فقدمت إلى إسرائيل، لعل وعسى. وهنا أيضا فشل الأطباء في انجاز المعجزة، شكت جاكلين المغربية إلى والدتي همومها. قالت أمي وعلى وجهها ابتسامة أمل مشرقة، "عندي وصفة جربتها في بغداد في معالجة يهوديات ومسلمات وآمل ان تنجح معك أيضا"، طار عقل جاكلين المغربية الجميلة من الفرح وأكثرت من الدعاء لأمي بالخير والبركة.
والمغاربة اليهود يؤمنون بالأولياء والصالحين وبمعجزاتهم وقد تركوا في المغرب قبور أوليائهم، ولهم في طنطا قرب مزار السيد البدوي مزار للولي اليهودي المغربي أبو حصيرة، الذي يقال عنه بأنه عندما أراد السفر إلى الديار المقدسة لم يكن يملك ثمن تذكرة سفر بالباخرة فشد حبلا إليها وجلس على حصيرته كالمتزلج على الماء وعندما بلغ ميناء الإسكندرية بكرامته هذه مرض وتوفي في دمنهور. وقد قض مريدوه وممن لهم اعتقاد فيه من زوار ضريحه المغربيين، مضجع المتزمتين في مصر. فجموع اليهود المغاربة التي تفد لزيارة ضريحه كل عام متهمون بالعربدة وتناول الخمور المحرمة عند المسلمين والإزعاج بتلاوة الصلوات والترانيم بأصوات عالية.
قدمت الوالدة لهذه المغربية نبات "المريمية" الأخضر الزكي الرائحة، وزودتها بالتعليمات كيف تغليه ومتى تشربه ومتى تأوي إلى مخدعها في حضن الزوج الحبيب. لم يمر شهر على تناول وصفة الوالدة وإذا بجاكلين التي كانت تأتيها العادة في أوقات منتظمة مثل الساعة السويسرية قد تأخرت دورتها، ذهبت وهي لا تصدق عقلها بين يأس ورجاء وتكاد تطير شوقا لإجراء فحوصات الحمل في المختبر. قالت الطبيبة لها وهي تبتسم، "مبروك عليكِ، أنت حامل".
انطلقت الزغاريد المغربية من دار جاكلين ومن دور المغاربة المجاورة وعزفت الدفوف المغربية والطارات في زفة إلى الوالدة وهم يقبلون يد "الولية الجديدة" التي قدمت من العراق، من بلد أنبياء إسرائيل وأوليائها. خمس سنوات وهي تستشير كبار الأطباء وتنفق الأموال الطائلة على أدوية ووصفات لا تنفع ولا تدفع، وإذا بالعراقية "الولية" بيدها المباركة تغلي "المريمية" بالماء فتتحقق المعجزة. وبعد الطهور وفشل البحث عن عمل في القدس عادت جاكلين مع زوجها البربري العاشق الذي حمل كنزه الثمين ثمرة حبه الغامر لزوجته وسافر عائدا إلى باريس وقد ازداد اعتقاده بكرامة الولية العراقية إلى باريس إذ لم يفلح زوجها العاشق المعمود في تعلم اللغة العبرية والعثور على عمل يليق بثقافته العالية. وبعد سفر جاكلين بالسلامة مع ابنها البكر، بعد أن أغدقت على والدتي الهدايا وأقسمت بأنها ستواصل إرسال الملبس المغربي كل سنة في يوم ميلاد الأمير البربري الجميل، وصلت رسالة من الوالد يطلب منا العثور على عنوان آمن في فرنسا أو إنكلترا ليراسلنا وليعطينا التعليمات كيف ومن أين نقبض المال الذي سيرسله لنا لشراء شقة جديدة. تذكرت الوالدة عنوان جاكلين في باريس وإرسالها الملبس، فطلبت على وجه السرعة، أن تكف عن إرسال الملبس، وبدل المال الذي تصرفه على الحلوى ترجوها أن تشتري الطوابع والظروف البريدية الفرنسية، وعندما تتسلم منـّا رسائل إلى الوالد، عليها أن تمزق الظرف مع طابع البريد الإسرائيلي وتكتب من جديد عنوانه في العراق وأكدت "ووزّمت" وكررت عليها أن لا تنسى أن تمزق الظرف البريدي الإسرائيلي وتضعه في ظرف فرنسي مع طابع بريد فرنسي، والحذار، الحذار من أن تبقى آثار تدل على جهة الإرسال الأصلية، فالعراق ما زالت في حالة حرب مع إسرائيل وهي الوحيدة من بين البلاد العربية التي لم توقع معها معاهدة هدنة. فرحت جاكلين بهذه الفرصة التي تستطيع بواسطتها رد جميل "الولية العراقية" وكتبت للوالدة رسالة سريعة بان أمر الوالدة على رأس وعين ولا مانع لديها من أن تقوم بهذا الواجب المقدس كل يوم إن اقتضى الأمر. وهكذا صرنا نتبادل الرسائل مع الوالد في بغداد بأمان على اسم وعنوان صديق له مسلم من أولاد الحلال. ولم نعد نغبط اللاجئين الفلسطينيين الذين تتاح لهم فرصة تبادل الرسائل بكل الطرق الممكنة مع ذويهم في الخارج. غير أن رياح الأمور لا تجري دائما بما تشتهيه السفن. وفي ذات يوم تلقى الوالد مكالمة هاتفية مستعجلة غاضبة من صديقه ابن الحلال وهو يصرخ "تعال يا ايهودي قبل ما أنعل دينك وأنعل سيف التورا مالكم، دتريد تهجم لي بيتي تعال أبسرعة".
اشترى الوالد هدية ثمينة في طريقه إلى صديقه الوفي وهو حائر من تصرفه الغريب، "ها أبو جواد خير إنشا الله؟" أشار أبو جواد إلى ظرف الرسالة الملقاة أمامه برعب وفزع كأنه قنبلة على وشك الانفجار، "إبراهيم، أشو افتح هذا الظرف الجاني من البربوكة المغربية صديقتكم القاعدة اتكودلك إباريس"، تناول الوالد ظرف الرسالة بحذر فوجد في داخله شيئا هاله فألقاه من يده بسرعة على الطاولة وقد امتقع وجهه، "الحق وياك يا أبو أجواد، الحق وياك"، غضب أبو جواد وصاح "داكلك طلع الظرف الثاني الملعون، أنا أخاف ألزمه لا تصير طبعات أصابعي عليه".
فتح والدي الظرف بحذر وأخرج ظرفا آخر وعليه طابع بريد إسرائيلي معنون إلى المغربية في باريس وعلى ظهره عنوان الوالدة في إسرائيل في داخل الظرف المعنون إلى أبو جواد في بغداد، صاح أبو جواد "ولك تريد تهجم بيتي، هيج اتجازيني؟ وآني أستاهل منك هيج معاملة؟"، نظر الوالد إلى الطابع وخيل إليه أن حرف "الألف" في كلمة "إسرائيل" أصبح خنجرا يخترق صدره، وقفز حرف "السين" كأنه سكين مسننة تقترب من رقبته، وانقلب حرف "الراء" إلى خطاف معقوف كالذي يعلق عليه المتهمون في السجون العراقية لتعذيبهم، وأقسم لي بأنه شاهد كيف انقلب حرف "اللام" إلى أفعى مشرعة أنيابها المترعة بالسم الزعاف في وجهه وقد انتصبت على ذيلها وتكاد تنهش يده. امتقع وجه الوالد وقال، "الحق وياك أبو جواد والعفو، وآني، قسما بالله راح اطلب من هل منبوشة الصفحة تبطّل تبعث بعد مكاتيب على اسمك. هسا الحمد لله مشت ابفالها وبالخير وما فتحها الرقيب، هاي بشلون داهية جان وقعتنا بيها هاي البربوك المسطولة". أحرق الوالد الظرف والطابع المرعب مع الرسالة، وكرر وعد الشرف بعدم إرسال رسالة مهما تكون بريئة عن طريق عنوانه، إلى ان هدأت سورة غضب أبي جواد الشهم النجيب. بقي الوالد يذكر أبا جواد بالخير ويشيد بشهامته إذ أنقذه من حبل المشنقة، ويحمد الله على هذه المعجزة التي أنقذته من الموت الزؤام، إذ لم يفتح الرقيب الرسالة وغشا الله على بصره، وغلّ يديه، وألهاه عن فتح الرسالة الصلـّية الغادرة.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/13095-2014-10-16-10-07-45.html
1210 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع