شحرورة العراق عفيفة إسكندر - الجزء الرابع

الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل

 

شحرورة العراق عفيفة إسكندر - الجزء الرابع

تُعد عفيفة إسكندر المغنية الاولى في العهد الملكي، كما كان لها حضورها في العهد الجمهوري، وقد تركت بصماتها على الغناء العراقي وشغلت الناس على مدى ثمانية عقود، وتميّزت بعذوبة صوتها وفطنتها، فضلاً عن تذوقها الموسيقى.

من الذين كتبوا عن عفيفة إسكندر الأستاذ الدكتور عمر الطالب في موسوعته: (موسوعة أعلام الموصل في القرن العشرين). ويذكر الدكتور الطالب أن عفيفة إسكندر لمع نجمها كعلم من أعلام الفن في العراق في الثالث عشر من يوليو (تموز) 1936، أي قبل الحرب العالمية الثانية بأربع سنوات، وقد نشرت مجلة "الاثنين" القاهرية خبرا يشير إلى أن الفنانة والمنولوجست العراقية عفيفة إسكندر ستزور مصر لتقديم بعض أعمالها الفنية.

لقد امتدحت المجلة الحركة الفنية في العراق وقالت: "إنها نمت نمواً مطرداً وأصبحنا نرى هناك ممثلين بارعين ومطربين ومطربات، بل ومنولوجست ضربوا في الفن بسهم وافر، ومن بين الأخيرين فتاة امتد صيتها هناك لما امتازت به من مهارة في الإلقاء ولما تأتيه من ضروب الغناء.. تلك هي الفنانة عفيفة إسكندر إن مجيئها إلى القاهرة هو فرصة يشاهد فيها المصريون فنانة عراقية ويؤدون إليها بعض ما يجب عليهم من التشجيع، فيردون بذلك شيئاً من جميل العراق الذي يطوق دوماً فناني مصر".

لقد كانت رحلة عفيفة إلى القاهرة ناجحة، ولفتت الأنظار هناك، ودعيت لأداء أغنية في فيلم "يوم سعيد" مع محمد عبد الوهاب، وهو الفيلم الذي بدأت فيه فاتن حمامة حياتها كممثلة، لكن المخرج محمد كريم اضطر إلى حذف الأغنية بسبب طول الفلم.

ثم تكررت زيارات الفنانة العراقية إلى مصر، وفي ليلة رأس السنة 1938-1939 قدمت عفيفة إسكندر حفلة على مسرح (ببا عز الدين) في القاهرة، وردد شارع عماد الدين أصداء أغنيات عراقية بصوت صداح لا يخلو من بحة جذابة. وظهرت عفيفة إسكندر في فيلم "القاهرة-بغداد " للمخرج أحمد بدر خان، مع مديحة يسري وبشارة واكيم من مصر، وإبراهيم جلال وحقي الشبلي وفخري الزبيدي من العراق.

كما ظهرت في فيلم "ليلى في العراق" للمخرج أحمد كامل مرسي، بطولة جعفر السعدي وإبراهيم جلال والمطرب محمد سلمان والفنانة نورهان.

يضيف الدكتور عمر الطالب: قالت عفيفة إسكندر في مقابلة نشرت عام 1949 "إن معظم أنواع الفنون لا تظفر بأي تقدير أو مكانة لائقة عند الشعوب العربية بل إن بعضها يحتقر الفن ويعتبره من الكماليات"، لكنها أكدت في نهاية المقابلة إنها غير أسفه على احترافها الفن بل شديدة الاعتزاز لكونها فنانة. ويبدو أن عفيفة إسكندر تحولت عن رأيها ذاك بعد تقدمها في السن وحلول زمن صار الفنان جزء من آلة تعبوية حزبية وسياسية (هذا ما سمعته منها عندما زرتها)، قبل خمس سنوات، في شقتها المطلة على دجلة في شارع أبي نواس في بغداد.

وكانت عفيفة إسكندر قد اعتزلت الغناء منذ أواسط السبعينات وتبرعت بكل أملاكها إلى الكنيسة التي تنتمي إليها مبقية على مورد مالي بسيط كانت تظنه يسد حاجتها لما تبقى لها من عمر، ولم تحسب حساب الحروب الآتية وانهيار العملة العراقية إلى الحضيض. فوجدت نفسها خالية الوفاض، يتقطع بها سبيل العلاج وقد كلّ بصرها وخانتها ركبتاها.

يضيف الدكتور عمر الطالب قائلا: ذهبتٌ إليها بعد موعد رتبة محامٍ ظل كريماً معها يرعى شؤونها، وأخذتُ لها باقة من الزنابق الحمراء، نادرة في زمن الحصار، تليق بدلالها السابق، وكانت الكهرباء مقطوعة والمصعد جامداً، وأنا أتلمس دربي إلى طابقها العالي وكأنني أؤدي نذراً لولية صالحة.

فتحت لي الباب امرأة من أهل الشمال، تعتني بها، وجلسنا في صالون شديد التواضع يتوسطه منقل من السيراميك الأخضر تعلوه أباريق ودلال قهوة فولكلورية وجاءت نجمة الأمس في جلباب زاهر تتوكأ على عكاز، تسبقها بحتها المميزة وضحكتها التي لم ينل منها الزمن، وكانت مهفهفة معطرة جميلة، أو هكذا رأيتها بعين المحبة تأسفنا على أحوال الحاضر، وتحدثنا عن الماضي، وقالت إنها "تابت" وتريد أن تنسى عمرها الذي أمضته في الفن وسألتني عن "الشانزليزية" و" الأوبرا" التي شيدوا لها مبنى جديداً في الباستيل وعن " الكوميدي فرانسيز"، وحدثتني عن سفراتها في أوربا وصداقاتها في باريس، ورطنت ببضع عبارات بالفرنسية عند باب المغادرة، قالت لي المرأة التي تقوم على خدمتها إن " الست عفيفة مريضة وتعبانة، وأن المنقل الذي يزين غرفة الجلوس معروض للبيع".

ويقول قحطان جاسم جواد: حين اخترت الفنانة القديرة (عفيفة إسكندر) لتكن موضوعة كتابي الاول (عفيفة.. حياتها وأسرارها الفنية) لم أكن على خطأ بل كان اختياراً دقيقاً جداً لما لها من أهمية وانجازات كبيرة في حفل الغناء العراقي بالرغم من إهمال النظام السابق لها وتعمده في تجاهلها مما حدا بها الى الاعتكاف في منزلها واعتزال الفن ومقاطعة الإعلام!

عفيفة إسكندر صوت مغرد وجميل.. وهي قلب الجمال النابض.. أودعت يد القدر فيها اوصافاً بدنية وخلالاً نفسيه.. فهي لا تستطيع أن تخفي محاسنها، بل تبدت وتجلت في أكمل جمال في نظر عشاق الجمال.. جمال ساحر من صنع الخلّاق لا مصنع الحَلاق.. عفيفة مطربة كبيرة قدمت للإسماع وللجماهير التي احبتها وللغناء العراقي أروع الاغاني وأجمل القصائد.. وهي ناحية تميزها عن بقية المطربات.. إذ أنها قدمت أكثر من خمسين قصيدة مغناة.. والقصيدة من أصعب أنواع الغناء.

وتحدث الفنان خليل الرفاعي قائلا: امتازت عفيفة بعدة جوانب في شخصيتها فهي اضافة الى كونها صاحبة صوت جميل وحنجرة طوعتها لألوان كثيرة من الغناء كانت تساعد الكثير من الفنانين من هم بحاجة مادية أو معنوية نتيجة لقسوة الحياة، وهي تساعدهم بشتى الوسائل ودون أن تبوح بذلك ولا تجعل أي أحد يعرف بذلك.

ويتابع خليل الرفاعي: مرة شاهدت (الفنان خزعل فاضل) الملحن وعازف الجلو وملحن أجمل أغنية في تلك الفترة (حنة حنة بيديها) وكان يشكو من ألم في عينيه ولما عرفت عفيفة خبر هذا الفنان رصدت له مبلغا أرسلته إليه كي يسافر الى الخارج، فذهب ثم عاد معافى.

ويضيف خليل الرفاعي: حاليا يملأ الحزن قلبي لأن هذه الفنانة التي قدمت العون لجميع الناس تعاني من المرض واتمنى لها الصحة والعافية والعمر المديد.

ويختتم خليل الرفاعي كلامه قائلا: إن عفيفة كانت أول مطربة تظهر في التلفزيون عام 1956 حين غنّت من شاشة التلفزيون في المعرض البريطاني قبل أن تشتريه الحكومة العراقية، وعفيفة فنانة مثقفة ولبقة بالكلام واختيار العبارات الملائمة وفي الوقت المناسب.

أما مطرب الريف المعروف (عبد الجبار الدراجي) فتحدث عن تجربته مع عفيفة إسكندر قائلا: عرفتُ فيها مطربة متميزة وتستحق التعاون معها لما تتسم به من خُلق وصوت جميل وشخصية جذابة، ولما كانت عفيفة تسمع بأغنياتي وألحاني طلبت مني (من خلال أحد الاذاعيين) أن أكتب لها أغنية، وبما أن عفيفة فنانة كبيرة وأصيلة وتحترم نفسها وفنها فقررت أن أكتب لها ما يتناسب وقيمتها الفنية، فكتبت لها (مسافرين) وأغنية أخرى بعنوان (انطيني الدربيل) وقد أعجبت بهما كثيرا. وحاولت أن تغير كلمة اخترتها من الفلكلور في أغنية (يا يمة انطيني الدربين)، وفي البداية حاولت الاعتراض لكن بعد النقاش معها وهي صاحبة تجربة ثرية في الغناء اقنعتني برأيها وكان لها ما أرادت.

https://www.youtube.com/watch?v=N354nm-vV14

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1197 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع