( لفت نظري مادة عن صحيفة عراقية ، كتبها صحفي قديم ، وقد لاحظت ان المادة المذكورة ، خلت من اسم كاتبها ، او اننا لم نلتفت اليه ، ولأن المادة المذكورة تؤرخ لفترة صحفية وسياسية مهمة في تاريخنا المعاصر ، فقد استعنا بزميلنا الشيخ زيد الحلي ، وفعلاً ، بعث لنا بصورة للصفحة الاولى من الجريدة موضوعة البحث ، وهي تنشر للمرة الاولى ...
موضحاً ، ان كاتب الموضوع هو الزميل مظهر عارف ، صاحب الجريدة ، مبيناً ان عارف لم يمتلك اية نسخة من جريدته ، وــ الگاردينياــ في ضوء هذه الحقيقة ، تهدي صاحب الجريدة الغريبة في صدورها واصدارها صورة عنها للتمتع في رؤيتها وهو يعيش في غربته بأمريكا ...
كما تهديه صورة تجمعه مع صديقه الكاتب زيد الحلي ، التقطت في 2 مايس 1986 ، في مكتب الحلي حينما كان رئيسا لتحرير مجلة " وعي العمال " العراقية )
جلال چرمگا
النخيل/ مظهر عارف:في الثامن عشر من تشرين 1963 قاد عبد السلام عارف انقلاباً ضد حلفائه السابقين (حزب البعث) في انقلاب شباط 1963 وطارد الجيش والقوات المسلحة المليشيات المعروفة بأسم الحرس القومي والتابعة لحزب البعث من شارع إلى شارع ومن منزل إلى آخر واستسلم الآلاف منهم لقوات الجيش بينما تم اعتقال العديد من قادتهم.
وكان من بين المشاركين في الانقلاب عدد من القادة العسكريين من اعضاء حزب البعث وشوهد صدام حسين آنذاك أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون وهو يحمل رشاشاً ضد رفاقه تأييداً للانقلاب...
إلا أنه اعتقل بعد ذلك بأمر من عبد السلام عارف قبل أن ينجح في الهرب اثناء نقله للتحقيق عبر شارع ابي نواس في بغداد وقيامه باقناع اثنين من حراسه بتناول الغداء على حسابه الخاص في مطعم الجندول حيث أفلت من الباب الخلفي للمطعم بالتعاون مع صاحبه الذي كرمه صدام حسين مع الشرطيين بعد نجاح ثورة 17 تموز 1968 وتوليه المسؤولية في الحزب والدولة.
ليس معروفاً سبب اعتقال صدام حسين المؤيد لانقلاب تشرين من جانب عبد السلام عارف لكن المعروف للجميع الكره الشديد الذي يكنه لعبد السلام عارف وكان هذا الكره متبادلاً كما بدا الحال آنذاك من جانب عبد السلام لصدام.
الحاكم والعنزة
لم يكن عبد السلام عارف معروفاً لدى الشارع العراقي وشأنه في ذلك شأن عبد الكريم قاسم والضباط الآخرين الذين نفذوا ثورة 14 تموز 1958 إلا أن الحال تغير بعد نجاج تلك الثورة ومشاركة عبد السلام عارف في الانقلابات العسكرية اللاحقة وتوليه المسؤولية الأولى في الدولة.
عبدالسلام عارف ، عارف عبدالرزاق
لقد تعرض عبد السلام عارف بعد انقلاب تشرين 1963 إلى عدة محاولات انقلابية من طراز المحاولة التي جرت في العام 1964 وادعى البعثيون آنذاك انهم كانوا المدبر لها دون تقديم الدليل من قبلهم على ذلك، أما المحاولة الأخرى التي قادها نائبه عارف عبد الرزاق فقد جرت، عندما كان عبد السلام يحضر القمة العربية في المغرب الى جانب القادة العرب الذين كان من بينهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر وبعد فشل المحاولة الانقلابية اتهم بعض اتباع عبد السلام، عبد الناصر بالوقوف خلفها وهو ما كاد يؤدي إلى القطيعة بين بغداد والقاهرة قبل أن تتحرك مصر بسرعة لاحتواء المشكلة.
لقد كان عبد السلام عارف معروفاً على أنه أداة عبد الناصر في العراق وكان يتباهى شخصياً بالعلن بعلاقته بالرئيس المصري وتعلقه بالوحدة العربية إلا أن هذه الوحدة لم تتحقق وكان يهاجم عبد الناصر في جلساته الخاصة وبهذا الصدد يقول الكاتب العربي المعروف مطاع الصفدي أنه ألتقى بعبد السلام عارف في قصره وأنه سمع منه كلاماً شنيعاً ضد عبد الناصر الذي وصفه أمامه بالعنزة كما هاجم الوحدة وقد نقل لي كلام الصفدي آنذاك صديقه وصديقي المرحوم رسمي العامل بعد زيارة الصفدي لمطبعته الجاحظ ببغداد.
عبدالناصر، خروشوف، بن بيلا، عبدالسلام
ويذكر هنا أن وصف العنزة الذي أطلقه عبد السلام على عبد الناصر هو الوصف الذي أطلقه رئيس الوزراء السوفيتي نيكيتا خروشوف على عبد السلام نفسه عندما جمعهما عبد الناصر على ظهر عوامة في النيل لتناول الغداء وتحقيق المصالحة بين الرجلين. إلا أن خروشوف رفض الجلوس (مع العنزة) حسب وصفه للرئيس العراقي بسبب خلافه معه منذ الاطاحة بنظام عبد الكريم قاسم وارتكاب عمليات التعذيب والقتل ضد الشيوعيين في عام 1963.
طبقاً للبيان الصادر في ذلك الوقت عن الحاكم العسكري رشيد مصلح وهو يحمل الرقم 13 ويدعو لملاحقة وقتل الشيوعيين وأنصار عبد الكريم قاسم في الشوارع والمحلات العامة.وفي ذلك الوقت ايضا هاجم كاسترو الانقلاب وقطع العلاقات مع بغداد.
عبد السلام عارف قتله شقيقه!!؟
أثار مقتل عبد السلام عارف بسقوط طائرته التي كانت تقله مع مرافقيه ومنهم محافظ البصرة آنذاك محمد الحياني تساؤلات كثيرة حول الجهة التي كانت تقف وراء هذا الحادث ولم تتأكد تلميحات البعثيين بأنهم كانوا وراء سقوط الطائرة. هذا فيما أشار وزراء في مجالسهم الخاصة إلى عبد الرحمن عارف على أنه وراء مقتل شقيقه عبد السلام الا ان هؤلاء الوزراء لم يقدموا أي دليل على اتهاماتهم تلك وكان كل ما صرحوا به أنهم سمعوا عبد الرحمن عارف وهو يخاطب عبد السلام في قبره قائلاً بصوت يقرب من الهمس (وأخيراً متت نومه بلا گعده!!).
بكاء عراقيات على مقتل عبدالسلام عارف
مع مقتل عبد السلام عارف تحدث الناس في شوارع بغداد ومقاهيها عن تولي عبد الرحمن عارف لرئاسة الجمهورية وذلك قبل الإعلان عن النتائج الرسمية للاجتماع الذي كان معقوداً في القصر الجمهوري لاختيار خليفة للرئيس المقتول وزاد المواطنون على تلك المعلومة معلومات أخرى مفادها أن الجيش الذي يحاصر القصر الجمهوري يعارض قادته ومنهم إبراهيم فيصل الانصاري وسعيد صليبي تولي عبد الرحمن البزاز رئاسة الجمهورية.
وهذا ما تأكد فعلاً في ذلك اليوم وآنذاك زار عبد الرحمن البزاز صحيفة العرب التي كنت اعمل فيها وطلب مني مرافقته إلى منزله للاستماع إلى شريط مسجل هو الثاني من نوعه عن الطريقة التي جرت فيها انتخابات الرئاسة وفوزه في تلك الانتخابات قبل أن يهدد القادة العسكريون بالسيطرة على الحكم واعتقاله أن لم يقم بالتنازل عن الرئاسة لصالح عبد الرحمن عارف.
كان نظام عبد الرحمن عارف هشاً بكل التفاصيل وكان نشاط الأحزاب والحركات السياسية المعارضة واضحاً في الشارع. ولهذا لم يفاجئ قيام ثورة تموز 1968 أحداً ومع ذلك فقد سيطر الخوف على أوساط واسعة من الشعب العراقي وهو يستمع إلى أسماء الجهات التي قامت بالثورة وهم حزب البعث صاحب السجل الدموي في العراق في عام 1963 ومجموعة عبد الرزاق النايف المعروفة بعدائها لحرية الرأي والفكر والنشاط السياسي على اختلاف الجهات التي تقوم بممارسته.
ابن خالة طارق عزيز في اسرائيل
في مساء بارد وكنت آنذاك مسؤولاً عن الصفحات السياسية في صحيفة العرب وأستمع إلى نشرات الأخبار الخارجية عندما اعلنت إذاعة إسرائيل أن الطيار العراقي منير روفا وهو أبن خالة طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي كما ذكر في وقت لاحق هبط بطائرته الميغ في مطار اللد وعندما عدت إلى إذاعة بغداد للتأكد من صحة الخبر وجدتها منشغلة في تقديم الأغاني، أبلغت رئيس التحرير الحاج نعمان العاني بخبر هروب روفا إلى إسرائيل وطلبت توفير سيارة للبحث عن منزله في منطقة الوزيرية التي يعيش فيها عادة عدد من الضباط . وذهبت هناك برفقة نجله نمير ولم تمض سوى دقائق حتى اعلنت إذاعة بغداد خبراً مفاده أن طائرة عراقية عسكرية ارغمت على الهبوط في إسرائيل من قبل الطيران الإسرائيلي.
لم نستغرق وقتاً طويلاً في العثور على منزل عائلة روفا في الوزيرية فقد دلنا عليه أحد الضباط الاصدقاء وكان في طريقه للالتحاق بوحدته بناء على استدعائه من قبل مسؤوله العسكري. كان الباب الخارجي لمنزل عائلة منير مشرعاً على مصراعيه وكان علينا اجتياز حديقة صغيرة قبل الدخول إلى المنزل الذي كان بابه الداخلي مفتوحاً أيضاً وهناك وجدنا شقيقه الصغير وهو يفترش الأرض وأمامه مجموعة كبيرة من صور العائلة وعندما شاهدنا راح يصرخ طالباً النجدة ولكننا استطعنا تهدئته وسألناه عن منير فقال أنه الآن في القاعدة الجوية بمعسكر الرشيد وسوف يعود إلى المنزل بعد قليل وعندما سألناه عن بقية أفراد عائلته أجاب أنهم في زيارة خاصة لأحد الأقارب، طلبنا منه إحدى صور منير لنشرها في الصحيفة فقدم لنا صورة صغيرة دون أن يسألنا عن السبب.
وهنا سمعنا صوت أمرأة تصرخ (حرامية) عرفنا بعدها أنها أم منير وبعد سؤالنا عن منير نفت علمها بهروبه إلى إسرائيل.
وقالت انكم تلطخون اسم ولدي الموجود حالياً في قاعدته الجوية. وعندما حاولنا تقديم شرح لها عن الخبر الذي إذاعه راديو إسرائيل قطع علينا الدخول المفاجئ لعدد من العسكريين إلى المنزل حيث سألنا أحدهم على الفور وكان برتبة نقيب: من انتم؟ وماذا تفعلون هنا؟.
فشرحنا له مهمتنا الصحفية وقلنا أننا نسعى للحصول على صورة فوتوغرافية لمنير من أجل نشرها في عدد صحيفة العرب يوم غد فرفض ذلك وقال انه سوف يتصل بالمدير عبد الرزاق النايف بهذا الشأن وأضاف وربما سيأمر عندها باعتقالكم.
رفع سماعة الهاتف وأدار القرص وراح يتحدث مع النايف قائلاً (سيدي لقد وجدنا مدنيين في منزل منير روفا ويدعون انهم من الصحافة ووجدت معهم صورة لمنير لنشرها في صحيفتهم)..
ثم التفت الي قائلاً (تفضل خذ السماعة فسيدي يريد التحدث معك)، بعد أن عرفت نفسي للنايف سمح لي بالذهاب مع زميلي والاحتفاظ بالصورة لنشرها في صحيفتنا إلا اننا انزلنا صورة كبيرة لمنير كانت معلقة على الجدار بينما كان رجال الاستخبارات يطرحون الاسئلة على عائلة منير ويقوم بعضهم بعملية تفتيش واسعة للمنزل.
كان النايف معروفاً بكرهه للصحافة ولحرية الرأي وبتعامله غير الإنساني مع بعض الصحفيين على الرغم من عدم وجود ما يجمع بين الصحفيين والاستخبارات العسكرية. ولهذا لم اتصل به في اليوم التالي بناء على طلبه لتبادل الحديث حول ما وصفه بهموم الوطن والمواطن.
وعندما وصل النايف للسلطة مع حزب البعث في 17 تموز 1968 نقل لي احدهم أنه يطلب اللقاء معي لمناقشة بعض الامور التي لم يذكرها وجاء الطلب في الوقت الذي كان سكرتيره الذي اعتدى على أكثر من صحفي بالضرب والأهانة يلقي كلمة في صحيفة الثورة التي أصبحت من حصة النايف حسب الاتفاق مع البعثيين الذين استولوا على صحيفة الجمهورية، يتحدث فيها عن حرية الصحافة وحرية الرأي.
لم التق النايف بناء على طلبه ولكني ابلغت رئيس التحرير وزميلي في صحيفة الثورة قبل 17 تموز المرحوم تحسين السوز أن النايف يريد مقابلتي وأنا لن أذهب اليه ما لم يقم بمرافقتي الا ان الوقت لم يحن بسبب اندلاع ما وصفت ب (انتفاضة 30 تموز) التي اعتقل فيها النايف واتباعه.
لقاءاتي مع صدام حسين
قبل أيام من اعلان ثورة 17 تموز 1968 قدم لي صديقي الصحفي المرحوم لطفي الخياط رجلاً طويل القامة وكان يرتدي الدشداشة ويلف رأسه ب (غترة حمراء اللون ويضع في رجله نعالاً من الجلد) قائلاً أنه الرفيق صدام حسين وقد تم هذا اللقاء في احد مكاتب الاستنساخ والطابعات في منطقة السراي ببغداد.
شعرت بقوة يد صدام حسين عندما صافحني مرحباً قبل أن يسحب لطفي إلى مكان قريب وراحا يتحدثا ن بأمر ما لم اعرف تفاصيله ..
علي صالح السعدي
وبعد ساعة من ذلك ومن باب المصادفات الغريبة وفي منطقة الصالحية ببغداد قدم لي لطفي الخياط شخصاً آخر قال أنه الرفيق علي صالح السعدي فشعرت بشيء غير قليل من الكره والغضب إزاء هذا الرجل الذي ارتكب جرائم لا حد لها ضد شعبه ووطنه في انقلاب 1963، سحب السعدي يدي بقوة وراح يردد وهو يضع إحدى يديه على كتف لطفي (اهلاً ومرحباً بالصحافة).
في إجراء عنيف ذكرنا نحن مجموعة من الوطنين الصحفيين والأدباء بالأرهاب وعمليات الاغتيال والتصفية الجسدية التي مارسها انقلابيو 1963 وخاصة حزب البعث ضد الشعب العراقي وضد مثقفيه وادبائه ومفكريه وعلمائه من غير البعثيين عندما تم طرد عشرات الصحفيين والادباء العاملين في مجلة الف باء وصحيفة الجمهورية أواسط السبعينات من القرن الماضي بذرائع الانتماء إلى الحزب الشيوعي والحركات الناصرية أو الانتماء إلى حزب البعث الموالي لسوريا.
وانهت المراسيم الصادرة من مجلس قيادة الثورة بهذا الشأن أية صلة لهم بالصحافة وثم نقلهم على هذا الأساس إلى الوزارات والدوائر الحكومية وكنت انا من بين المطرودين وتم نقلي إلى وزارة الصحة مع احبة غادروا الوطن بسبب ذلك القرار وهم:المرحوم سعود الناصري وخالد الحلي وسلام مسافر وعباس البدري الذي ابعد إلى إيران مع الآف المواطنين الآخرين بدعوى التبعية الإيرانية وقدمنا جميعاً الاستقالة من الوزارة إلى الوزير رياض حسين الذي اعدم في وقت آخر باتهام باطل.
وآنذآك جرى اعتقالي بقرار من عزة الدوري وزير الداخلية انذاك بسبب مقال نشرته في صحيفة العراق حول الوضع في الشرق الأوسط وقد حملت تلك المراسيم الجائرة توقيع احمد حسن البكر...
وجاء صدورها اعتمادا على طلب اللجنة المشكلة لهذا الغرض برئاسة تايه عبد الكريم الذي شغل منصب وزير النفط وعضوية حسن العلوي وصباح سلمان الذي أصبح مديراً للمكتب الصحفي لصدام حسين في اوقات أخرى قبل أن يتخلى عن النظام الذي تخلى عنه قبل ذلك وتحول إلى معارض وعاد بعد الاحتلال وتم اختطافه وقتله عندما كان يتولى رئاسة تحرير الصحيفة الناطقة باسم اياد علاوي.
كما ضمت اللجنة هاني وهيب الذي تولى أيضاً مسؤولية المكتب الصحفي لصدام حسين قبل تنحيته من منصبه وصباح ياسين السفير العراقي السابق في العاصمة الأردنية وعبد الرحيم الشريفي الملحق الصحفي في سنوات لاحقة بالبحرين.
ويقول حميد سعيد الصحفي والشاعر ورئيس تحرير صحيفة الجمهورية عن قضية طردنا من أماكن عملنا أنه زار صدام حسين بعد فترة قصيرة من صدور المراسيم المشؤمة طالباً منه التدخل وإلغاء القرارات المتخذة من قبل مجلس قيادة الثورة، إلا أنه اعتذر عن ذلك قائلاً بأنه لا يستطيع إلغاء أوامر تحمل توقيع البكر.
لقاء المطار
في عام 1969 أي قبل صدور تلك المراسيم بسنوات وافقت وزراة الإعلام على منحي إجازة إصدار صحيفة (الطريق) على أن يكون محمد سعيد الصحاف المدير العام للإذاعة والتلفزيون رئيساً لتحريرها وقد حصل لي على الاجازة آنذاك من الوزارة المرحوم عبد الخالق السامرائي وكان معي في هيئة التحرير الزملاء طه عارف وخالد الحلي ورشيد الرماحي وخالد يوسف.
ولم تكن معي المبالغ اللازمة للطبع فاقترضت (400) دينار من صديقي المرحوم سبيرو صاحب دار العروبة للتوزيع والنشر، وصدر العدد الأول من الصحيفة وهو يحمل مواضيع سياسية محلية وعربية ودولية مثيرة للجدل إضافة إلى مواضيع الادب والثقافة. وكان الموضوع الرئيسي للطريق لقاء صحفي مع الرئيس البكر أجرته معه الصحافة الالمانية وتحدث فيه عن العلاقات مع الحزب الشيوعي والحوارات الجارية لإقامة جبهة وطنية تضم البعث والشيوعي واحزاباً أخرى.
لقد أثار صدور (الطريق) منذ اللحظة الأولى أصداء شعبية ورسمية واسعة، فعلى الصعيد الشعبي وصل سعر العدد الواحد من الصحيفة الى دينارعراقي واحد في بعض الأماكن كما ابلغني بذلك باعة الصحف بينما قوبلت (الطريق) بانزعاج رئيس تحرير صحيفة الثورة التي كنت اعمل فيها في ذلك الوقت طارق عزيز فطلب مني التوقف عن إصدارها.
وفي مساء ذلك اليوم قال لي المرحوم عبد الله الخياط نائب رئيس تحرير صحيفة (النور) أن الطالباني لم يشعر بالارتياح من صدور الطريق لتأثيرها المباشر على مبيعات صحيفته. وفي اليوم التالي قال لي المرحوم عبد الخالق السامرائي ان عامر عبد الله القيادي في الحزب الشيوعي اتصل به هاتفياً للاعراب عن عدم رضا الحزب عن صدور الطريق التي يرى فيها الحزب الشيوعي استفزازا له وذلك لان صحيفته المركزية تحمل اسم (طريق الشعب).
ووسط كل هذه المواقف المتشددة أوقفت وزارة الإعلام صدور الصحيفة وحرك احدهم دعوى ضد الطريق في المحاكم.
كان سعدون غيدان القائد العسكري الذي سهل نجاح ثورة تموز 1968 عندما قام بفتح الباب الرئيسي للقصر الجمهوري حيث كان يؤدي واجبه هناك أمام المهاجمين ومنهم صدام حسين- موجوداً في مطار المثنى للسفر إلى الخارج ، فقررت اللجوء إليه في مسألة غلق الصحيفة وذلك لمعرفتي باحترامه للصحافة وعلاقاته الجيدة مع بعض الزملاء الصحفيين.
كان المطار يغص بالمودعين عندما وصلت إلى هناك وهم من كبار المسؤولين في الدولة وحزب البعث وبينما كنت احاول شق طريقي وسط الجموع إلى حيث يقف غيدان لاحظت وصول صدام حسين ومعه عبد الكريم الشخيلي وزير الخارجية إلى صالة الاستقبال فاندفعت نحوه ببسرعة وبعد أن قدمت له نفسي مد لي يده مصافحاً وهو يقول (اهلاً يالرفيق) بينما قال لي الشخيلي ان وزراء الثورة ليسوا كوزراء العهود السابقة الذين كان يسهل اللقاء بهم من قبل الصحفيين متى شاؤوا، فطلب منه صدام حسين السكوت، وقال وهو يطلق ضحكة خفيفة (إنك كما يظهر لي لست شخصاً عادياً فقد بعت صحيفتك برأس المسكين البكر فعفارم عليك)..
فاجبته أن هناك مواضيع أخرى في الصحيفة وهي مهمة بالنسبة للقارئ كما لاحظ سيادتكم:
فرد قائلاً وهل تريد شيئاً من صدام حسين؟ .
قلت أجل..إجراء لقاء صحفي مع سيادتكم وأود أن أذكر أن وزارة الإعلام اغلقت الصحيفة دون ذكر السبب، فقال لي وماذا يقدم لك اللقاء معي إذاً، فقلت أنه يعني إلغاء القرار واستئناف إصدار الصحيفة..فأجاب موافق واترك لك تحديد الموعد قلت سأطلب من الصحاف إجراء هذا اللقاء بوصفه رئيسا للتحرير فرد قائلا ليس مهماً من سيقوم بإدارة الحوار، انت أم الصحاف، والآن اسمح لنا ان نمر لتوديع رفيقنا أبو سمره..
الا ان هذا اللقاء لم يتحقق بسبب عدم قيام الصحاف بالاتصال بالقصر الجمهوري لتحديد موعده على الرغم من انني ابلغته بتفاصيل اللقاء القصير مع صدام حسين وموافقته على اجراء حوار معه من قبله.
في يوم ما من تلك السنة اتصل بي موظف البدالة في صحيفة الثورة قائلا أن الاستاذ صدام حسين على الخط ويريد التحدث معك وسمعته يردد كلمة تفضل سيدي لم يترك صدام حسين امامي فرصة اكمال تحيتي وترحيبي به فقد بادرني بقوله الذي لم يخل من الزعل والغضب :
أن سعدون غيدان ليس محرراً في صحيفة الثورة أو في أية صحيفة أخرى وهو ليس موظفاً عادياً من موظفي الدولة...إن سعدون غيدان قائد عسكري كبير ووزير في حكومة الثورة فقل ذلك لرئيس تحريرك طارق عزيز عندما يعود إلى الجريدة.
وهنا فقط أدركت مغزى هذا القول عن سعدون غيدان من قبل صدام حسين فقلت على الفور أرجو سيادتكم أن يقبل اعتذاري الشخصي لأني المسؤول عن خبر عودة السيد الوزير إلى بغداد من القاهرة .
وتفاصيل ذلك أن هذا الخبر وصل إلى الصحف من وكالة الانباء العراقية بعد مرور ساعة أو أكثر على موعد توقفها عن بث الاخبار، وفي ذلك الوقت كنا نستعد لطبع الجريدة. ان دوام العمال قد انتهى وغادروا إلى منازلهم وبينما كنت استعد للذهاب إلى منزلي ايضاً سمعت صوت أجهزة البث تعود للعمل من جديد وعندما وصلت الى هناك لاحظت خبر عودة السيد الوزير فقررت نشره بالتعاون مع عامل الطبع الذي لم يكن من عمال تنضيد الأخبار والمواضيع الصحفية ومع ذلك نجح الرجل في تنضيذ الخبر المؤلف من سطرين فقط ووضعه في المكان الذي ظهر فيه في أسفل الصفحة الأولى بسبب ازدحام هذه الصفحة بنشاطات السيد الرئيس البكر واعتقد أن سيادتكم لاحظ أن الثورة كانت الوحيدة من بين الصحف الأخرى التي نشرت هذا الخبر....
وبعد فترة صمت قليلة سمعت صدام حسين يقول شكراً.
كلفني صدام بمشروع جريدة جديدة
في لقاء أجراه معه الصحفي الكويتي وصاحب جريدة السياسة أحمد الجار الله أجاب صدام حسين على سؤال يتعلق بالدعاية الواسعة لشخصيته في الإعلام العراقي وانتشار صوره في الشوارع والساحات العامة وعما إذا كان يتم ذلك بأوامر منه أنه لم يصدر أية أوامر بهذا الشأن ولكنه كما أضاف في جوابه يحب أن يحاط بكل أشكال الدعاية تلك وسواها. وقد تطورت تلك الأشكال من الدعاية له كما يعرف الجميع بمرور الوقت وشملت الشعر والأغاني ومقالات المديح المطولة وإقامة التماثيل والنصب وإطلاق اسمه على المشاريع والقاعات الفنية الخاصة بالرسم وهكذا.
لقد كان صدام حسن يدرك أهمية الإعلام في صنع الشخصيات وتجميل صورتها في نظر الشارع وتضخيم اعمالها السياسية وتوجهاتها الاقتصادية وتبرير تصرفاتها في مختلف مجالات الحياة، ولهذا قام بزيارات عديدة للصحف وانتهج سياسة تكريم الادباء والمثقفين واستقبالهم في القصر الجمهوري والتحاور معهم والاستماع الى قصائدهم وكلماتهم المشحونة بالمديح والاعجاب بشخصه.
في إحدى تلك الزيارات التي كانت من حصة دار الجماهير للصحافة والطباعة والنشر قال احد الصحفيين أنه يخشى كتابة ارائه ووجهات نظره السياسية لشعوره بوجود شرطي يراقبه فعقب صدام على ذلك قائلاً (اقتلوا الشرطي في داخلكم) وقد أثارت كلماته الأخرى بشأن حرية الرأي والتعبير (اكتبوا بلا خوف وبدون تردد لاحتمالات ان تكون الدولة راضية أم غير راضية عما تكتبون) اصداء واسعة في الأوساط الصحفية والادبية والفكرية، إلا أن عدداً من الصحفيين والادباء اعتقلوا أو قتلوا أو ماتوا تحت التعذيب في ظل وجود تلك الكلمات.
انا شخصياً تعرضت للاعتقال والمساءلة القانونية من قبل السلطات الأمنية عدة مرات بسبب المقالات التي كنت اقوم بنشرها في صحيفتي العراق وبابل العائدة إلى نجله عدي. ولعله من المفارقات حقاً أنه وفي مثل هذه الاجواء التي اعيشها مع باقي الصحفيين اتصل بي احد ضابط الأمن العام قائلاً انه سيأتي بعد قليل إلى الجريدة ليبحث أمرا مهما معي فشعرت بقلق بالغ خاصة انه لم يمض على خروجي من المعتقل الذي كنت فيه بأمر من عزة الدوري سوى بعض الوقت..
1006 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع