فؤاد الركابي - من قائد للبعث ووزير إعمار..إلى مطرود من الحزب ومعاد له
أشخاص كما عرفتهم : فؤاد الركابي
بقلم: أحمد الحبوبي
في مقهى تقع في شارع الرشيد قبالة وزارة الدفاع في بغداد تسمى (مقهى الدفاع) التقيت بفؤاد الركابي لأول مرة عام 1951 .
كان الدكتور تحسين معلة ، وهو طالب يومئذ بكلية الطب قد زين لي أن ألتقي بزمرة من الشباب القومي تتخذ من هذه المقهى مكاناً للقاءات تجمع القوميين للتعارف والتحاور ، فحضرت معه خاصة وأن تحسين معلة كان من شباب حزب الاستقلال قبل انتقاله إلى بغداد للدراسة، وما كنت أعلم أنه قد انحاز إلى حزب البعث وانتمى إليه بعد أن راح اسم هذا الحزب يتردد في أوساطنا الطلابية كحزب قومي جديد ، قيادته في سوريا .
اللقاء الأول
قادنى تحسين معلة إلى ركن في المقهى كان يجلس فيه بعض الشباب ما أن رأونا حتى هبوا واقفين وكأنهم ينتظرون قدومنا. وحصل التعارف بيننا وهم كل من فؤاد الركابي ، فيصل حبيب الخيزران ، زكي الخشالي ، عبد الكريم شنتاف، وافسحوا لي مكاناً بينهم مع كثير من الترحيب والاهتمام وطلبوا لي (شاي حامض النومي بصرة)، وأراد تحسين معلة أن يخفف من الجو الرسمي لأول لقاء بيننا فقال موجهاً الكلام لي يا أخ أبو شهاب كلنا طلاب واخوة وزملاء، فالأخ فؤاد يدرس بكلية الهندسة ، والأخ زكي الخشالي طالب في الثانوية، وعبد الكريم شنتاف طالب بكلية الآداب، والأخ فيصل حبيب الخيزران طالب بكلية الحقوق .. يعني زميلك في الكلية، فابتسمت دون تعليق انتظاراً لما يتمخض عنه هذا اللقاء، وقد أحسست أنه مدبر.
ومرت فترة صمت قطعها الأخ فؤاد الركابي قائلاً ما معناه ... أن الأخ تحسين أعطانا فكرة جيدة عنك وعن نشاطك وإخلاصك للعمل القومي .. فشوّقنا لأن نتعرف عليك. فشكرت الأخوة على هذا الاستقبال وهذه الثقة ثم قلت أن الأخ تحسين لم يعطني تصوراً أكثر من أنني سألتقي بشباب قومي فهلا تفضلتم بتنويري عنكم ولمن تنتمون. فانبرى فؤاد الركابي قائلاً .. نحن بعثيون ننتمي لحزب البعث وهو حزب قومي قيادته في سوريا.. وبصراحة نريدك أن تكون معنا بعد أن سمعنا عنك وعن نشاطك. فبدرت مني ضحكة خفيفة ، ثم قلت أو تساءلت ألم يخبركم الأخ تحسين معلة أنني منتم إلى حزب الاستقلال وهو كما تعلمون حزب قومي ، فأجاب فؤاد نعم نعلم ذلك ولكن حزب الاستقلال لا يلبي طموحاتك وحماسك، فهو حزب قد شاخ ونحن شباب وعندنا نشاط وطموح وتطلعات قد لا يقدر على تلبيتها حزب تقليدي كحزب الاستقلال.
عتاب
ثم سكت وراح يتطلع إلى رد الفعل على كلامه.. فانقلبت سحنتي إلى ما يشبه الغضب فقلت رداً على كلام فؤاد.. أما كان الأجدر والاجدى بكم أن تكسبوا لحزب البعث شباباً جديداً (خاماً) بدلاً من العمل على تفتيت نسيج حزب قومي له قواعده وامتداداته ووجوده المؤثر في الشارع.. صحيح قد يكون حزب الاستقلال مقصراً أو قيادته قديمة أو تقليدية أو هرمة ولكن له سمعة قومية جيدة وقيادة نظيفة يجب إسنادها ودعمها لتلافي القصور والتغلب على المتاعب وتلافي السلبيات.. ثم حدجت تحسين معلة بنظرة عتب عرف معناها فأشاح بوجه خجلاً. ولما رأى فؤاد الركابي رنة الغضب والعتب في كلامي أراد أن يخفف أو يلطف من وقع كلامه فقال : بالعكس يا أبو شهاب، حزب الاستقلال حزب قومي وله نضاله ولكننا في الحقيقة أردناك أن تكون معنا .. ومع هذا سوف لا نختلف معك فأنت أخ وصديق ونأمل أن نلتقي دائماً .
لم يتكلم أحد من الحضور بل كانوا يراقبون أو يتابعون الحديث بيني وبين فؤاد ونهضت مسلماً ومودعاً وتركت مقهى الدفاع وظل تحسين في المقهى. وما أن أصبح الصباح حتى بكرت إلى تحسين معلة في كلية الطب أعاتبه على تصرفه غير اللائق فأخذ يعتذر ثم قال إن الأخ فؤاد الركابي قد أعجب بك وبشجاعتك وإخلاصك وسألته عن موقعه من هذا الحزب الجديد خاصة وانه كان المتحدث الوحيد رغم أن فيصل حبيب الخيزران أكبر منه سناً فأجاب أن فؤاد الركابي هو المسؤول الأول وسألته عن عدد أعضاء هذا التنظيم فأجاب قليل ولكنه نشط وأغلب أعضائه من الطلاب والمعلمين .
لقاءات سياسية
لم أقطع صلتي بفؤاد الركابي، فكررت زيارتي إلى مقهى الدفاع ولكن بشكل متباعد وزاد من لقاءاتنا الاصطدام الذي حصل في كلية الصيدلة بين الطلبة من جهة وعمادة الكلية من جهة أخرى الأمر الذي تطور إلى الاضطراب والتظاهر، وتضامنت بقية الكليات مع كلية الصيدلة ثم تصاعد الموقف إلى التنديد بحكومة مصطفى العمري سنة 1952 وأدى إلى انفجار كبير على مستوى الشارع بعد أن زجت الأحزاب السياسية بكامل قواها وراء المطالب الوطنية وأولها تشريع قانون جديد لانتخاب أعضاء مجلس النواب (غير مباشر). وكان الوضع السياسي المتأزم يستدعي لقاءً وتنسيقا بين اللجان الطلابية ، فكثرت لقاءاتي بفؤاد الركابي وجماعته كتيار قومي سواء بمقهى الدفاع أو غيرها من الأماكن في بغداد طوال المدة التي استغرقتها الانتفاضة، وقد أخذت أبعاداً بعد حصول الاصطدام مع قوات الشرطة وسقوط قتلى وجرحى مما أدى إلى سقوط حكومة مصطفى العمري ومجيء حكومة عسكرية رأسها رئيس أركان الجيش (نور الدين محمود) فأعلنت الأحكام العرفية وبادرت إلى تعطيل الدراسة واعتقال أعداد كبيرة من الطلاب كي تسيطر على الأمور .. فهربت إلى النجف متخفياً عن أعين الشرطة خوفاً من الاعتقال ولم أعد إلى بغداد إلا بعد أن أعلن عن بدء الدراسة في الكليات.
وتباعدت لقاءاتي مع فؤاد الركابي ثم انقطعت بعد أن كثرت مسؤوليات كل منا، فقد عدت إلى النجف أعمل في المحاماة والسياسة مسؤولا عن فرع حزب الاستقلال، وانصرف فؤاد يعمل في الوظيفة الحكومية ويتولى في نفس الوقت مهام قيادة حزب البعث، وتعرض للاعتقال إبان العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 كما اعتقلت أنا في كربلاء والديوانية ، وقد استطاع من خلال نشاطه ودأبه أن يجعل لحزب البعث وجوداً في الساحة السياسية العراقية وأن يثبت أقدامه كحزب قومي من خلال نشاطه الملحوظ خلال العدوان الثلاثي المذكور فقد كان شباب حزب البعث مشاركاً في كل الفعاليات سواء على مستوى الكليات والمدارس أو الشارع الأمر الذي أهله لأن يكون أحد المؤسسين لجبهة الاتحاد الوطني التي انبعثت سنة1957 وقد تم ذلك بفضل ما كان يتمتع به فؤاد الركابي من إمكانات قيادية حكيمة وواعية. استطاع في خلال بضع سنين أن يخلق حزباً له حضور وأثر في الساحة العراقية.
الزعيم عبد الكريم قاسم في مؤتمر صحفي بعيد 14 تموز 1958 ويقف خلفه وصفي طاهر وفاضل المهداوي، وإلى جانبه صديق شنشل من قادة حزب الاستقلال كما يقف خلف الزعيم المغدور فؤاد الركابي زعيم حزب البعث الذي قتل على يد حزبه في السبعينيات
وزيرا للإعمار
وعند قيام ثورة 14 تموز سنة 1958 اختير فؤاد الركابي وزيراً للأعمار ممثلاً لحزب البعث واستطاع أن يهيمن على جريدة الجمهورية التي صدرت بعد الثورة وذلك من خلال عناصر بعثية شابة ونشطة تفرغت لتحريرها .. ولكن سرعان ما دب الخلاف بين أطراف الجبهة الوطنية ووقع الاحتراب مما أدى إلى استقالة الوزراء القوميين وانسحابهم من حكومة عبد الكريم قاسم منها وزارة الإعمار وصار مجرد وزير بلا وزارة (وزير الدولة) وبعد ثورة الشواف (8/3/1959) وانفلات الأمور وشيوع عمليات القتل والسحل اضطررت بعد إطلاق سراحي من معتقل (أبو غريب) إلى مغادرة العراق إلى السعودية عن طريق البادية .. وأصدرت محكمة (المهداوي) أحكامها بإعدام كوكبة من الضباط والمدنيين ممن اتهموا في الاشتراك بمؤامرة الشواف فتم إعدام العميد الركن (ناظم الطبقجلي) قائد الفرقة الثانية و(رفعت الحاج سري) مدير الاستخبارات العسكرية مع مجموعة كبيرة من الضباط القوميين.
الزعيم/قاسم في مستشفى دار السلام وذلك بعد محاولة أغتياله
اغتيال عبد الكريم
فزادت قناعة فؤاد الركابي الذي آثر الاختفاء والقيادة التي معه ألا خلاص للعراق إلا بإغتيال عبد الكريم وهذا ما حصل فعلاً إذ جرت محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في الشهر العاشر من 1959 في شارع الرشيد كما هو معروف ولم يكتب النجاح لهذه المحاولة وتم إلقاء القبض على بعض المنفذين وعلى بعض أعضاء القيادة القطرية واستطاع فؤاد الركابي أن يترك العراق ومعه مجموعة من قيادات حزبه.
القاهرة.. ميدان التحرير/ 1960
القاهرة
والتقيت به في القاهرة سنة 1960 .. والقاهرة انذاك في ستينيات القرن الماضي تعج بحركات التحرير من إفريقيا وأميركا اللاتينية فقد وجدت من قيادة عبد الناصر الدعم والتأييد لمقارعة الاستعمار الفرنسي والإنجليزي كما ضمت القاهرة الكثير من العرب الذين لجؤوا إليها لمواصلة النضال ضد أنظمة حكم عربية ناصبوها العداء ووجدوا في القاهرة دعماً وملاذاً .. جاؤوا من العراق وتونس ، والمغرب ، والجزائر، والأردن ، ومن الخليج العربي .. ولكل رابطة أو تجمع ولقاءات مشتركة في المناسبات الوطنية والقومية .
طلبة عراقيين في القاهرة( صدام حسين/ الثالث من اليمين)
واذكر من الأردن كلاً من اللواء علي الحياري ، واللواء علي أبو نوار ، واللواء صادق الشرع والأستاذ عبد الله الريماوي ، وبهجت أبو غريبة ، ومن تونس صالح اليوسيفي (اغتيل بعدئذ ، واتهم بورقيبة في اغتياله) وإبراهيم طوبال .. واذكر من العراقيين .. فائق السامرائي (كان سفيراً للعراق في القاهرة واستقال في الشهر الثالث سنة 1959) والدكتور جابر عمر (وزير المعارف في ثورة 14 تموز سنة 1959 وأقاله عبد الكريم قاسم) والأستاذ عبد الرحمن البزاز (رئيس الوزراء السابق) والأستاذ فؤاد الركابي (الوزير السابق) والأستاذ سلمان الصفواني (صاحب جريدة اليقظة) والأستاذ محمود الدرة (الضابط السابق) والأستاذ عدنان الراوي المحامي والدكتور فيصل الوائلي (مدير الآثار العام السابق) والأستاذ علاء الدين الريس (الملحق الثقافي في القاهرة) وأحمد فوزي عبد الجبار المحامي وهلال ناجي المحامي والشيخ أحمد الجزائري وعبد الله الركابي ، وسليم الزبيدي المحامي ، ورؤوف الواعظ ، ورشيد البدري ومدحت إبراهيم جمعة ، وعبد الكريم الشيخلي ، وفاتك الصافي ، وعداي الجبوري ودريد سعيد ثابت ،وياسين السامرائي وفالح السامرائي ، وحاتم العزاوي ، ورياض البنا ، وأياد البنا ، وتحسين النجار ، وصدام حسين التكريتي ، وعيادة الصديد وآخرين لا تحضرنى أسماؤهم .
وكانت علاقة فؤاد الركابي بحزب البعث سيئة في هذه الفترة بعد أن أدانت القيادة القومية للحزب (قيادة ميشيل عفلق)عملية اغتيال عبد الكريم قاسم الفاشلة وحملت فؤاد الركابي (أمين القيادة القطرية) ورفاقه في القيادة مسؤولية الانفراد باتخاذ قرار الاغتيال دون الرجوع الى القيادة باعتبار أن الحزب لم يجز العملية الأمر الذي أدى إلى صدور قرار بتجميد فؤاد الركابي وبقية أعضاء القيادة القطرية .. وقد أصدر فؤاد الركابي كتاباً بعنوان (الحل الأوحد) برر فيه عملية الاغتيال ودافع عن موقف الحزب ورد على القيادة القومية .
الانفصال
كان مدحت إبراهيم جمعة هو مسؤول تنظيم حزب البعث في القاهرة في هذه الفترة .. وحصلت القطيعة النهائية بين فؤاد الركابي وحزب البعث عند حصول انفصال الوحدة بين مصر وسوريا أثر انقلاب عبد الكريم النحلاوي في 28/9/1961 وتأييد قيادة حزب البعث لهذا الانفصال .. وقد أدان كل من فؤاد الركابي وعبد الله الريماوي ومعهم قيادات بعثية أردنية وعراقية موقف حزب البعث المؤيد للانفصال ، ثم بادروا إلى تشكيل تنظيم جديد باسم (البعث الثوري) تم الإعلان عن قيامه في بيروت من قبل كل من فؤاد الركابي وعبد الله الريماوي في مؤتمر صحفي عقد لهذا الغرض ، وبذا انقسم البعثيون المتواجدون في القاهرة إلى مؤيد للانفصال ومع القيادة القومية للحزب ، ومعارض لعملية الانفصال وبالتالي حسب على مجموعة فؤاد والريماوي ، وإن كان القسم الأكبر من البعثيين ظل على ولائه لقيادة (ميشيل عفلق) بل لم يخف هذا الجناح من إظهار فرحته بالانفصال وقام البعض منهم بتوزيع الحلويات والشربات ابتهاجاً وشماتة.
وفي القاهرة تزوج فؤاد الركابي من ابنة الأستاذ محمود الدرة وقد حضر الرئيس جمال عبد الناصر عقد القران .. وبقدر ما ابتعد فؤاد الركابي عن صفوف حزبه القديم (البعث) راح يقترب أكثر فأكثر من القوى القومية ويقوي علاقاته معها ففي الصيف مثلا كنا نتواجد في الإسكندرية ونمارس رياضة السباحة في بحرها وكان فؤاد سباحاً ماهراً وقد اتخذنا من كابينة الأستاذ (فؤاد جلال) في ميامي مكاناً للقاءاتنا صباح كل يوم وكان يلتقي فيها كل من فيصل الوائلي وجابر عمر وعبد الرحمن البزاز وفؤاد الركابي وعبد الله الركابي .
711 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع