ذكريات جامعة للعراقيين.. إنها السدارة الفيصلية حنين لإحدى رموز اللبس العراقي وأصالته يتوجب الحفاظ عليها والأستمرار بإعتمارها
بعد أكثر من ثمانين عاماً على قيام الدولة العراقية الحديثة، وقبل الغزو والاحتلال الامريكي، تطوّر الحس الوطني العراقي لدى الغالبية العظمى من السكان العرب في البلاد، إذ إن لدى شرائح مختلفة من المجتمع ذكريات وسرديّات تاريخية مختلفة حول ماهيّة العراق وبدون اي اتجاه طائفي ضمن مبدأ وطني واحد وشامل.
غير ان ما جاء به الغزو و الإحتلال والتغلغل الايراني، كنباتات هجينة جذورها مهلهلة ونواتجها أشواك مؤذية، راضين بأمن منفلت وإقتصاد تبعي وسرقات علنية ومؤسسات ذات طابع طائفي مقيت، تسكت وتقتل كل من ينادي بالوطنية والمدنية، فاصبح العراق يعيش في احضان سلطة لمجموعة عصابات دكتاتورية بعباءة وعمامة الاسلام السياسي، فالضباب يحيط بالعراق وبألوان قاتمة وهواء مسموم وجهل واضح لشرائح كثيرة من شعبنا الغارق في المناسبات البعيدة عن الدين الحنيف واصوله، وبدأ الشعب يعيش في فراغ فكري وسياسي واجتماعي متشرذم، فاصبح العراق ساحةً كبيرة للجريمة، و كثير من المؤدلجين أصبحوا مثل الدجاج مقطوع الرؤوس، و قاموا بإرتكاب المئات من الجرائم، بل مئات الآلاف من الجرائم لم يدفع ثمنها إلا الأبرياء من كل الطوائف، ونحن في غربتنا التي طالت وكتب لها ان تطول، فالعراق يعيش في الوجدان وهو معنا في حياتنا ومسيرتنا وكالطفل الذي يشتاق لامه، ولهذا نفتش دائما عن كل شيء يذكرنا بالعراق ذو التاريخ، العراق الجغرافي المتنوع، العراق متنوع اللغات، العراق ذو التنوع الأجتماعي وتعايشه التناغمي، كتبنا مقالة:
"كانت للعراق رسالة وبالرغم من ما حصل له تبقى رسالته خالدة"
وكتبت أقلام عراقية وعربية موضحة بأن العراق واحد لايقبل القسمة، وكل محاولة لتمزيقه مصيرها الفشل، ونستمر نفتش بذكرياتنا عن أي شيء في حياتنا كان له الأثر بحقيقة إن وحدة العراق تأريخياَ وجغرافياَ وأقتصادياَ ومجتمعياَ باقية، ولهذا سنتطرق في مقالتنا لحالة جامعة لمجتمعه من خلال ابراز رمز من رموز ملبس العراقيين التراثي الحديث في الزمن الماضي الجميل الا وهي إعتمار السدارة ومدلولاتها الوطنية والأجتماعية، كغطاء للرأس وتفضيله على غيره من أزياء غطاء الرأس الأخرى، مثل الطربوش والكوفية والغترة والعقال أو الطاقية.
كانت اغلب شعوب العالم ولغاية النصف الاول من القرن الماضي تحرص على اعتمار غطاء للراس كجزء مكمل للشخصية والمظهر العام، وفي العراق تعددت اغطية الراس بتعدد ثقافاته، فكانت كل منطقة لها زيها والوانها التي تعبر عن ثقافتها الخاصة، كان الطربوش العثماني (الفينة) هو الغطاء الرسمي الشائع للراس عند أغلب سكان المدن، ويعتمرها الجميع سواءً كانوا من الافندية او من رجال الدين الذين يلفون حولها قماش ابيض او اخضر لتكوين العمامة، اما الچراوية والكشيده البغدادية فكانت لا تلبس الا مع الصاية البغدادية،
وكانت الفينة تعتبر الزي الرسمي لموظفي الدولة العثمانية في ولايات العراق الثلاث "بغـداد, البصرة والموصل"، وعرف الطربوش كلباس للراس في العراق بعد فرضه بشكل رسمي من قبل الدولة العثمانية، حيث أصدر السلطان العثماني محمود الثاني في عام 1824م فرمانا بجعل الطربوش (الفيس) لباسا رسميا لجنود وضباط الجيش العثماني ، وعمم بعد ذلك على جميع موظفي الدولة بمن فيهم الوزراء والقادة.
اكتسبت السدارة في العراق منذ نشوء الدولة المدنية وحتى قيام ثورة تموز عام 1958، دلالة قومية وتاريخية وثقافية باعتبارها كانت رمزا في مواجهة طربوش العثمانيين خلال تلك الفترة، فكلمة السدارة كلمة فصيحة عربية ليست أجنبية يأتي معناها من كلمة "سدر الشعر اي سدله"، ولأن الشعر ينسدل تحتها أو هي تسدر الشعر، فلبس أو إعتمار السدارة كان في بداية القرن العشرين، الا ان شهرتها بدأت عندما إعتمرها المرحوم الملك فيصل الأول، قد بينت كاتبة في أحد أعداد مجالس حمدان، واقتبس:
" عندما بويع فيصل الأول ملكا للمملكة العراقية عام 1921 كان يرتدي الزي العربي الثوب والعباءة والعقال المقصب، وفي ذلك الوقت كان شعب العراق يلبس نوعين من الأزياء، الزي العربي، والزي الأفندي (البدلة) مع الطربوش العثماني الأحمر "، فضلا عن الزي الكردي وأزياء أخرى للتركمانيين و المسيحيين والأيزيديين، وبما أن الملك كان يطمح لبناء دولة عراقية مدنية تساير التطور وبعيدة عن الطوائفية والعنصرية المنغلقة، فأراد أن يكون هناك زي موحد يكون أشبه بميزة عراقية تدل على الهوية الوطنية،
فرسم تصميم السدارة وأعطاه الى مستشاره رستم حيدر ليتم تنفيذها من قبل أحد الخياطين المعتمدين، حيث نفذ ذلك..، وفي أجتماع لمجلس الوزراء حضر الملك وهو يلبس زي الأفندي(البدلة) وعلى رأسه السدارة وكذلك المستشار رستم حيدر، وقام المستشار بتوزيع السدارات على أعضاء الحكومة فأعتمروها، واثناء احتفالية تنصيب الملك فيصل الاول كان الكرخي يرتدى الطربوش العثماني وأراد الملك ان يرتدي الكرخي السدارة الفيصلية، وقال له:
يا ملا عبود، ماذا احمل في يدي؟.
اجابه الكرخي: انت وما تحمل في يدك على رأسي،
وألبسه الملك السدارة الفيصلية، وخلع العقال المقصب الكبير، ولذلك بعدها سميت فيصلية وهي عراقية 100%، ويبدو أن الفكرة فى إرتداء السدارة كانت سياسية أكثر منها إجتماعية، فبإعتمار الملك فيصل لها مع البدلة (القاط)، كأنها تعلن عراقية المظهر للأنسان في أجمل صوره وأصبحت موضة،
فانتشرت ''السدارة'' بين طوائف الشعب العراقي بداية من الشباب وحتى ''الأفندي'' والموظف في ديوانه، وكان أيضا لباسا يميز ''عِلية القوم''، فأخذت مكانها من خلال نشوء طبقة أجتماعية جديدة عابرة للأنتماءات الدينية والأثنية والعشائرية والطائفية، وأصبحت رمزاً عراقيا بلا طوائف وأعراق وديانات، فأعتمرها رؤساء الوزارات والوزراء والأعيان والسياسيين، والادباء والشعراء وغيرهم من طبقات المجتمع العراقي وكان السياسي والزعيم الكوردي (معروف جياووك) أحد مؤسسي الدولة العراقية، وأصله من قرية "جياووك" القريبة من "سريشمه" التابعة لناحية خليفان بأربيل، كان قد عاصر السلطة الملكية، ومن مناصري السدارة العراقية، وكان يؤكد على ضرورة لبسها، وارتداها الى اواخر أيام حياته، حيث توفي ببغداد يوم 21 كانون الثاني 1958،
واعتمرها ياسين الهاشمي، وكذلك يعتبر نوري باشا السعيد واحدا من معتمري السدارة المشهورين في بغداد طيلة وزاراته الخمسة عشر والتي انتهت بسقوط النظام الملكي في 14تموز 1958، كما اعتمرها ذو المكانة الأجتماعية والشعراء نذكر منهم:
المرحوميين معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي والملا عبود الكرخي، وبعدهم المرحومين العلامة مصطفى جواد والعالم الأجتماعي المرحوم علي الوردي، إذاَ بدأت السدارة تعطي وجاهةَ وزهوا وتحضر وإنتشرت عند الكبار والشباب وأصبحت موضة للكشخة والابهة ورمزاَ للهوية الوطنية وثقافتها وتراثها.
تصنع السدارة من القماش وأول من خيطها هو إبراهيم السدايري في سوق السراي في الشارع التراثي البغدادي العريق المشهور بالكتب والأقمشة وكبة السراي، ثم بدأت السداير الاجنبية (الايطالية والانكليزية) تغزو العراق في الثلاثينيات وكانت تصنع من مادة الچوخ اللماع، ومن ابرز مستوريدها (مهدي قنبر وصيون شمعون)، ثم أزدهرت صناعتها وتعددت ألوانها وهي الأسود والقهوائي والرصاصي والكحلي.
بعد انقلاب بكر صدقي في 29 تشرين الثاني 1936، ظهرت محاولات لالغاء السدراة من قبل القائمين على الانقلاب، حيث اصدرت حكومة الانقلاب التي تراسها حكمت سليمان، قانوناً يقضي بابدال السدارة (الوطنية)، بالقبعة الاوربية لكون الاخيرة من مظاهر التطور والاتصال بالعالم الخارجي، والصحيح ان القائمين على الانقلاب كانوا على خلاف مع ياسين الهاشمي الذي كان الانقلاب موجها ضده بالاساس ولان الهاشمي من المحافظين على لبس السدارة الوطنية، وكان قد امر بجعل السدارة الباس الرسمي لجميع موظفي الدولة العراقية في منتصف الثلاثينيات، حيث اراد الانقلابيون ابدال السدارة بالقبعة الاوربية نكاية بالهاشمي الذي توفي بعد فترة من الانقلاب، واخذ بعض من الشباب المتحمس للانقلاب بلبس هذه القبعة، ولكن سرعان ماعادت السدارة الفيصلية ( الوطنية) كزي رسمي وعام الى المجتمع بمقتل الفريق بكر صدقي في الموصل وسقوط حكومة الانقلاب بعد اقل من عام من اول انقلاب عسكري في التاريخ العراقي الحديث.
أخذت طريقها الى سلك الشرطة والجيش وأعتمرها العسكري والشرطي وقادتهم الى بداية الستينات، لا يكتمل الزي الرجالي(القاط) إلا بها، وترى من الرجال في أبهته وحسن ملبسه وبيده السبحة الكهرب أو الكرمان أو اليسر أو البيزهر أو الصندلوس كل حسب مكانته الأجتماعية والوظيفية والسياسية، حتى إن بعض النسوة بدأن بالتغزل ببعض من كلمات الأعجاب مستخدمين السدارة كمثل للرجولة والوقار وغيرها من الكلمات الجميلة غير المخلة بالأدب نذكر منها كل كضة من تمر من عكدنا نريد نشوفك تسلب إرواح الناس.. ، "السدارة"..
يا ولد يابو السدارة نشرت عام 1936 وقد غنيت وانتشرت كثيراً الفها الشاعر ملا عبود الكرخي:
ياولد يابو السدارة متيمك سويلة جارة*** من تمر سلم علينا ولو يا دعج بالاشارة
سلم ابرمز الحواجب من بعيد ولا تكارب*** حيث تدري الواشي ناصب شرك ريت انهجم دار
كانت مظهرا هاما للوقار والمكانة الاجتماعية في العراق حتى بعد ثورة تموز1958بسنوات قليلة، ثم بدأ إلانحسار لدى الشباب بأعتمار السدارة، الأ أن جيل الأباء ظل محتفظاَ بأعتمارها وأتذكر والدي الذي توفى رحمه الله نهاية عام 1980 ظل يستعملها وكان ينظفها بإستخام الشاي بدون السكر. لتبدو كأنها جديدة،
وفي أواخر الثمانينات شجعت الحكومة أقتناء السدارة حيث أعتمرها الوزراء، فجرى العودة اليها وأنتشرت مرة أخرى بألوانها المتعددة في ذلك الزمن الجميل المفعم بألتآخي الذي ترك بصماته وذكرياته وتناغم مجتمعه التعايشي الموحد، ولا بد أن نذكر أن كل رؤساء العراق وقبلهم الملوك رحمهم الله إعتمرو السدارة لحين الأحتلال، فهي إذاً رمزا خالداً لعراقيتنا وتجسيداً لشخصيتنا وتراثنا، لقد ذكرت السدارة في كلمات الأغاني العراقية وغناها الكثير ومنهم المرحوم محمد الكبنجي ويوسف عمر، ظل الكثير من اليهود يعتزون بمكان ميلادهما ومرابع صباهما في العراق، كما ظلوا يعتزون بانتمائهما إلى بلد أجدادهما العراق، وحرصهم على ارتداء السدارة العراقية، ومنهم الاخوة الكويتي خلال حفلاتهما الفنية، وظل المطرب اليهودي العراقي صالح الكويتي يعتمر السدارة الى وفاته في(أسرائيل) في بداية الثمانينات، ومثالاً على مكانة السدارة، المرفق لليوتيوب ينقل لنا أغنية يوسف عمر:
ياحلو يابو سدارة ... متيمك سوي له جارة
http://www.youtube.com/watch?v=lioazYqkPcg
وكذلك إعتمرها المغني المحبوب كاظم الساهر وهو يذكرنا برمز وعراقية السدارة، وبنفس المحبة والأداء لازال يعتمرها مطرب المقام الملهم حسين الأعظمي.
على الرغم من اختفاء السدارة منذ سنين طويلة، فهي حاضرة فى المسرحيات أو المسلسلات التليفزيونية، أو فى الأفراح، برغم ذلك يحرص البعض من العراقيين والسياح على التقاط صور تذكارية به، حتى أصبح نوعا من الفولكلور بعد أن كان إحدى سمات المجتمع العراقي، لذا فإن السدارة هي إرث حضاري يجب على الجميع الاهتمام بها، وهي الجامع للعراقيين وموحدة لهم، فليعتمرها الجميع في كل المناسبات والتجمعات وأثناء السهرات والحفلات، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
468 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع